التطبيع المغربي-الإسرائيلي يدخل مرحلة جديدة من التعاون الأكاديمي، الذي يُروَّج له باعتباره خطوة نحو تبادل المعرفة وتطوير الكفاءات، بيد أن خلفياته تبدو أكثر تعقيدًا، ما يُثير تساؤلات حول تداعيات هذه الشراكات على الهوية الوطنية والموقف الشعبي من القضية الفلسطينية.
يظهر التحصيل الأكاديمي كعامل حاسم في تشكيل المواقف تجاه التطبيع، حيث أبدى الحاصلون على شهادات جامعية في المغرب ميلًا أكبر لدعمه، مقارنة بأولئك الحاصلين على تعليم ثانوي أو أقل، وفقًا لنتائج الباروميتر العربي.
حيث كان دعم التطبيع أعلى بكثير في المغرب بنسبة 31%، مقارنة بالدول المشاركة في اتفاقات أبراهام، خلال الفترة 2021-2022، لكن هذه النسبة انخفضت بشكل كبير إلى 13% بعد اندلاع الحرب في غزة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
أول خطوات التطبيع المغربي الإسرائيلي
قبل توقيع اتفاق التطبيع بشكل رسمي نهاية عام 2020، برزت جامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية في بنجرير، كأول جامعة مغربية تبدأ في التواصل مع جامعات إسرائيلية، حيث أرسلت في مارس/ آذار من العام نفسه وفدًا كبيرًا في زيارة إلى الجامعة العبرية في القدس، ولاحقًا في أغسطس/ آب 2021 وقعت الجامعة اتفاقية مع جامعة بن غوريون في النقب، تهدف إلى التعاون في برامج الاستدامة الزراعية.
لأول مرة، يؤدي هذا التعاون إلى تبادل الطلاب بين المغرب و”إسرائيل”، حيث وصل وفد من 4 طلاب مغاربة من جامعة محمد السادس إلى جامعة بن غوريون لقضاء فصل صيفي عام 2022، قصد المشاركة في برامج دراسات البيانات ونظام الرعاية الصحية، إلى جانب طلاب من مختلف أنحاء العالم.
هذه الخطوة المبكرة نحو التطبيع الأكاديمي، أدّت إلى تصاعد المعارضة داخل الجامعة مع توقيع نحو 1300 من الطلاب والخريجين عريضة تطالب بقطع العلاقات مع الجامعات الإسرائيلية، معتبرين أن هذه الشراكات تدعم انتهاكات حقوق الإنسان، نظرًا إلى تورط الجامعات العبرية في برامج بحثية لها صلة بالجيش أو أجهزة الأمن الإسرائيلية.
وقد أدت الضغوط إلى إلغاء حفل التخرج في يوليو/ تموز الماضي، حيث كان الطلاب يعتزمون التعبير عن دعمهم للقضية الفلسطينية، بينما بررت الإدارة الإلغاء بأسباب فنية.
وكان عميد كلية العلوم بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، هو من رفض توشيح طالبة متفوقة في حفل التخرج الأخير بالمدرسة العليا للتكنولوجيا، لأنها كانت ترتدي الكوفية الفلسطينية، نتيجة لذلك وصفت نقابة التعليم العالي تصرف العميد بأنه “حادث غريب”، يتعارض مع الموقف الرسمي للبلاد ونبض المجتمع المغربي المؤيد للقضية الفلسطينية.
موسم جامعي ساخن
كان من المقرر أن يلقي عالم الكمبيوتر الإسرائيلي وأستاذ الذكاء الاصطناعي في جامعة أكسفورد، مايكل برونشتاين، محاضرة بجامعة محمد السادس، في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وهو اليوم الذي يصادف مرور عام على “طوفان الأقصى”.
ورغم أن إدارة الجامعة جعلت المحاضرة إلزامية للطلاب، فقد أُلغي الحدث بعد دعوات من اتحاد الطلاب إلى مقاطعته، حيث اتهموا برونشتاين بدعم الإبادة الجماعية التي ترتكبها “إسرائيل” في غزة، من خلال منشوراته على وسائل التواصل الاجتماعي، ومع ذلك تحدث برونشتاين في فعالية أخرى أُقيمت بمراكش في وقت لاحق.
معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة في الرباط، الذي يعدّ أحد أكبر مراكز التدريب في البلاد، أبرم هو الآخر شراكة مع كلية الزراعة التابعة للجامعة العبرية، في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، وحسب ما هو معلن فإن الاتفاقية تُعنى بنقل الخبرات والتجارب في مجال التنمية الزراعية، بينما يرى عضو هيئة التدريس بالمعهد محمد الناجي، أن هذه العلاقات الزراعية بين المغرب و”إسرائيل”، التي تمتد لأكثر من 30 عامًا، لم تثمر عن نقل حقيقي للتكنولوجيا.
بالإضافة إلى الطلاب، وقّع حوالي 600 من أساتذة وموظفي جامعة عبد المالك السعدي بتطوان، في مايو/ أيار 2024، على عريضة تدعو إلى إلغاء الشراكة مع جامعة حيفا، ومع ذلك لم يتحقق أي شيء ملموس، فقد عادت الاحتجاجات إثر قرار الجامعة إدراج الجنسية الإسرائيلية ضمن خيارات التسجيل في برامج الماجستير، في بداية الموسم الحالي.
أهداف سياسية غير معلنة
عمومًا، يرى المعارضون للتطبيع أن هذه الشراكات تركز على تحقيق مصالح سياسية، تسهم في تعزيز العلاقة مع “إسرائيل” بشكل غير متوازن، أكثر من كونها موجهة لتحقيق أهداف علمية بحتة، كما يعرب البعض عن قلقهم من أن هذه الاتفاقيات قد تساهم في فرض الهيمنة الإسرائيلية في قطاعات حيوية مثل الزراعة والتكنولوجيا، ما يفاقم من التبعية الاقتصادية ويقلل من قدرة المغرب على تحقيق تطور حقيقي في مجالاته الأكاديمية.
على النقيض، يشير المدافعون عن هذه الشراكات إلى أنها تتيح فرصة للمغرب للوصول إلى أبحاث متقدمة وتقنيات رائدة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والاستدامة البيئية، لكن هذا الطرح يتجاهل البُعد الأخلاقي، بالنظر إلى أن إدماج مؤسسات التعليم العالي المغربية في شراكات مكثفة مع جامعات إسرائيلية، معروفة بارتباطها المباشر بالصناعة العسكرية والاستخبارات الإسرائيلية، من شأنه أن يؤثر على استقلالية البحث العلمي في المغرب.
هذا البُعد الأخلاقي يزيد من تعقيد هذه الشراكات، حيث يصبح تحقيق المكاسب العلمية مشروطًا بتجاهل الإبادة الجماعية التي يُمارسها كيان الاحتلال في غزة، وتتحول بذلك الجامعة والبحث العلمي إلى أداة للنفوذ السياسي والعسكري، عوض أن تكون جسرًا للسلام نحو عالم أكثر عدالة واستقرارًا.
إعادة تشكيل الروى الوطنية
يشير المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، إلى أن هذا التطبيع لا يقتصر على العلاقات السياسية أو الاقتصادية فقط، بل يمتد ليشمل البُعد الثقافي والأكاديمي، فالتعاون مع جامعات إسرائيلية قد يؤدي إلى إدخال أفكار وأيديولوجيات تؤثر في تشكيل الرؤى الوطنية خاصة في الدول العربية، إذ يمكن أن يُغير من مواقف الأجيال القادمة تجاه القضية الفلسطينية، من خلال دعم رواية الاحتلال الإسرائيلي.
الظاهر أن التطبيع الأكاديمي في المغرب لم يتأثر بشكل كبير بالحرب في غزة، على غرار العلاقات التجارية والأمنية الثنائية التي استمرت دون توقف، ومع ذلك بدت تأثيراتها واضحة على العلاقات الدبلوماسية العلنية، والزيارات الرسمية، والسياحة، حيث إن هذا النمط من التوترات في العلاقات خلال فترات التصعيد في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ليس بالأمر الجديد.
كما تعلم دولة الاحتلال أن دعم المغرب للفلسطينيين قد يتجاوز التصريحات، حيث سبق للمملكة أن قطعت علاقاتها مع “إسرائيل” خلال الانتفاضة الثانية بسبب تصاعد العنف، واستغرق الأمر ما يقرب من 20 عامًا لاستعادة تلك العلاقات.