استمرت طهران لمدة سنة واحدة في التشبث بخطة العمل الشاملة المشتركة. ومع ذلك، تبقى الآثار المزعزعة للاستقرار والناجمة عن العقوبات الجديدة غير مقبولة. ووفقًا لمعظم الروايات، انزلقت كل من الولايات المتحدة وإيران في غضون دقائق نحو نزاع مسلح في 20 حزيران/ يونيو 2019.
على الساعة الرابعة والنصف من صباح ذلك اليوم، تسبب نظام الدفاع الجوي الإيراني “رعد” في إسقاط طائرة تجسس تابعة للبحرية الأمريكية من نوع “آر كيو-4 غلوبال هوك” عندما كانت تحلق في المجال الجوي الدولي في الخليج الفارسي. وفي وقت لاحق من اليوم ذاته، كانت القوات الأمريكية على بعد “عشر دقائق” من ضرب ثلاث قواعد إيرانية بواسطة الصواريخ التي أطلقت من الجو والبحر قبل أن يغير الرئيس دونالد ترامب رأيه ويقرر إلغاء الهجوم. لاحقا، أشار ترامب إلى أن قتل 150 إيرانيًا تقريبًا بسبب فقدان طائرة مسيّرة يعتبر ردًا غير متناسب.
منذ الانسحاب أحادي الجانب لإدارة ترامب من الصفقة النووية التي تربطها بإيران في أيار/ مايو 2018، شنت الولايات المتحدة “حملة الضغط الأقصى” على طهران من خلال مجموعة من العقوبات الاقتصادية. ولطالما أبدت إيران امتثالها للاتفاق النووي المتمثل في خطة العمل الشاملة المشتركة، الذي فرض قيودًا صارمة على تكنولوجياتها النووية وفتح المجال أمام المفتشين الأجانب مقابل السماح للشركات الغربية بالنفاذ إلى السوق الإيرانية. مع ذلك، تذمّر منتقدو الصفقة من أنها لا تحد من التطور السريع الذي تشهده قدرات إيران فيما يتعلق بالصواريخ الباليستية، كما أنها لا تسلط الضوء على تورطها في الحروب الأهلية في سوريا واليمن ودعمها لحزب الله.
على الرغم من أن العقوبات التي فرضتها واشنطن تسببت في إلحاق الأضرار المراد تحقيقها بالاقتصاد الإيراني، إلا أنها لم تنجح إلا في إثارة غضب قادة إيران بدلا من ترويعهم
من جهة أخرى، تراجعت صادرات النفط الإيرانية إلى حدود خُمس مستواها السابق، لتنخفض من 2.5 مليون برميل في اليوم إلى 500 ألف برميل. كما تسببت العقوبات في إثارة مخاوف لدى معظم المستثمرين الأوروبيين بقطع النظر عن حقيقة أن الأطراف الأوروبية المشاركة في الصفقة النووية لا تزال ملتزمة بخطة العمل الشاملة المشتركة. وقد تسببت هذه العوامل في فترة ركود ذات آثار مدمّرة، تتجلى في انكماش الاقتصاد الإيراني بنسبة تتراوح بين 4 و6 بالمئة. كما تأثر المواطنون الإيرانيون بنسبة التضخم التي عرفتها البلاد التي تراوحت بين 40 و60 بالمئة، حيث من المتوقع أن ترتفع نسب البطالة من 12 إلى 26 بالمئة.
على الرغم من أن العقوبات التي فرضتها واشنطن تسببت في إلحاق الأضرار المراد تحقيقها بالاقتصاد الإيراني، إلا أنها لم تنجح إلا في إثارة غضب قادة إيران بدلا من ترويعهم. ومثلما لعبت الانقسامات السياسية الصارخة التي عرفتها الولايات المتحدة دورا حاسما فيما يتعلق بقرار انسحاب ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة الخاصة بعهد أوباما، عرفت مراكز القوى المتنافسة في إيران بدورها خلافات حول الاتفاق. وقد عملت تلك الفئة المناصرة لضرورة الحد من الاتفاقيات مع الغرب على توفير الذخيرة لمختلف الفصائل الدينية المتشددة والحرس الثوري الإيراني.
في الوقت الحالي، ترد طهران بدورها من خلال شن حملة “الضغط الأقصى” الخاصة بها. وفي حين لا تستطيع إيران استخدام العقوبات لمعاقبة أمريكا، فإنه بإمكانها أن تسبب “الألم الاقتصادي” عن طريق تهديد ممرات الشحن القيّمة التي تمر من موانئ الخليج الفارسي وعبر مضيق هرمز وحتى خليج عمان.
يتسم كل من الخليج والمضيق بمحدودية الحجم حيث تبلغ أضيق نقطة لهذا الأخير 21 ميلا فقط، ناهيك عن أنه ضحل مع وجود ممر أو اثنان صالحان بإمكان الناقلات الكبيرة المرور عبرهما
خلال الحرب الباردة، قال رئيس الوزراء السوفيتي نيكيتا سيرغيفيش خروتشوف إن “برلين [الغربية] تعد بمثابة المنطقة الحساسة للغرب. لذلك كلما رغبتُ في إزعاج الغرب، أقوم بالضغط على برلين”. وفي هذه الحالة، يلعب الخليج الفارسي دور برلين بالنسبة لإيران.
في الواقع، يمر ثلث النفط الموجود في العالم عبر مضيق هرمز. ويتسم كل من الخليج والمضيق بمحدودية الحجم حيث تبلغ أضيق نقطة لهذا الأخير 21 ميلا فقط، ناهيك عن أنه ضحل مع وجود ممر أو اثنان صالحان بإمكان الناقلات الكبيرة المرور عبرهما. ويمثل الجزء الشمالي الشرقي من ساحل الخليج أرضا تابعة لإيران، ما يجعل من الوحدات الإيرانية قادرة على وضع زوارق سريعة وبطاريات صواريخ طويلة المدى بهدف شن هجمات في أي وقت على طول هذا الخط الساحلي الذي يمتد على حوالي ألف ميل.
تتلقى قوات الحرس الثوري الإيراني تدريبات على شن هجمات على السفن العسكرية والتجارية والهرب باستخدام أسراب من الزوارق السريعة والألغام البحرية والصواريخ طويلة المدى المضادة للسفن. وخلال الحرب العراقية الإيرانية، استغلت إيران منصات النفط، والجُزر، حتى أنها هيّأت ناقلات لنقل القوات من أجل تنفيذ الهجمات.
تضمّ القوات البحرية التابعة لجيش الجمهورية الإسلامية في إيران أكثر من 20 غواصة صغيرة الحجم، وطاقم غواصين مزودين بمركبات لتوصيل السباحين، التي تخول لهم الاختباء بين الصخور في المياه الضحلة في الخليج من أجل إطلاق هجمات مفاجئة باستخدام الطوربيد أو توزيع الألغام في ممرات الشحن الرئيسية.
تعرّف على تسلسل الأحداث منذ أيار/ مايو 2019:
يوم 12 أيار/ مايو، تعرضت أربع سفن تجارية راسية قبالة خليج عمان بالقرب من المياه الإقليمية لدولة الإمارات العربية المتحدة لعملية تخريب بواسطة ألغام لاصقة. وقد لاحظ المحققون الدقة التي زرعت بها هذه الألغام التي تستوجب غواصين بارعين.
يبدو جليا أن إيران تمتلك الوسائل (قواتها البحرية المتخصصة) والدوافع (رغبتها في الانتقام من حملة الضغط القصوى الممارسة عليها) لشن هذه الهجمات
يوم 13 حزيران/ يونيو، تعرضت الناقلة النرويجية “فرونت ألتير” والناقلة اليابانية “كوكوكا كوريدجس”، لهجوم متزامن على الساعة الثالثة صباحا. وقد أنقذت السفن الإيرانية معظم طواقمها، وأطلقت صاروخا محمولا مضادا للطائرات على طائرة مسيّرة أمريكية من طراز “إم كيو-9 ريبر” كانت تراقب موقع الحادث. كما جرى تصوير طاقم سفينة حراسة تابع للقوة البحرية للحرس الثوري الإيراني وهو يزيل لغما لاصقا غير منفجر متواجدا بالقرب من ناقلة “كوكوكا كوريدجس”.
يبدو جليا أن إيران تمتلك الوسائل (قواتها البحرية المتخصصة) والدوافع (رغبتها في الانتقام من حملة الضغط القصوى الممارسة عليها) لشن هذه الهجمات، ويبدو أن التنفيذ الدقيق والمتزامن لهذا الهجوم كان الهدف منه الإشارة إلى أن إيران هي المسؤولة عنه، مع تعمد الإنكار لأغراض دعائية.
في الحقيقة، لقد أعلن الرئيس الإيراني حسن روحاني يوم 17 حزيران/ يونيو أن إيران ستستأنف تخصيب اليورانيوم عالي الجودة، ويأتي ذلك في خرق للاتفاق النووي. وبعد ثلاثة أيام من هذا التصريح، أسقط فيلق الحرس الثوري طائرة دون طيار تابعة للبحرية الأمريكية، ويُرجح أن هذا الأمر كان دون موافقة روحاني. وتتعارض الروايات الإيرانية والأمريكية حول ما إذا كانت الطائرة قد اخترقت المجال الجوي الإيراني، لكن المؤكد أن طائرة “آر كيو-4” البطيئة والمكشوفة والمكلِفة ليست مصممة للطيران فوق المجال الجوي للعدو.
تُمثّل هذه الأعمال طريقة طهران للإشارة إلى قدرتها على الانتقام في حال استمرت الولايات المتحدة في ممارسة العقوبات الاقتصادية. لم تتمكن إيران من “الفوز” في حرب ضد الولايات المتحدة، نظرا لأن ميزانيتها السنوية المخصصة لمجال الدفاع تساوي تكلفة حاملة طائرات أمريكية واحدة، لكنها قد تتسبب في خسائر تقدر بعشرات أو مئات المليارات من الدولارات بسبب تعطيل التجارة، إلى جانب الخسائر الفادحة في الأرواح البشرية، وليس فقط من خلال تدمير الطائرات دون طيار والناقلات.
في الواقع، ترغب واشنطن بشكل غريزي في معاقبة إيران حتى لا يبدو وكأنها تكافئ تكتيكاتها العدوانية
يعتقد بعض الأيديولوجيين المناهضين لإيران، على غرار مستشار الأمن القومي جون بولتون والزعماء الوطنيين الذين يتشاركون الأفكار نفسها في كل من إسرائيل والمملكة العربية السعودية، أن الحرب تستحق التكاليف الباهظة التي ستُنفق عليها لأنها سوف تمنع إيران من مواصلة برنامجها المخصص للأبحاث النووية. (ونظرا لأن التكلفة ستتحملها الولايات المتحدة في المقام الأول، سيكون هذا الأمر مناسبا لحلفائها.) أما بالنسبة لأولئك الذين يرغبون في الدخول في حرب ضد إيران ويرون إمكانية الفوز فيها، فهم يأملون أن يؤدي التصعيد الذي تنتهجه إيران إلى “منح” الولايات المتحدة ذريعة لشن حرب ضدها.
لكن كيف سيبدو “النصر” الأمريكي في مثل هذه الحرب؟ من المؤكد أن البنتاغون لا يرغب في غزو واحتلال إيران، التي يبلغ عدد سكانها ضعف سكان العراق. وقد تتسبب الحرب الجوية الطويلة في قتل الآلاف واستنزاف مخزون الصواريخ الموجهة باهظة الثمن دون النجاح في تدمير تكنولوجيات الصواريخ النووية والبالستية الإيرانية في ملاجئها المحصنة المتواجدة تحت الأرض.
في هذه الأثناء، سترد إيران بحرب غير متكافئة في الخليج الفارسي والشرق الأوسط وربما أبعد من ذلك. وقد لا تتمكن الولايات المتحدة من السيطرة على مدة الحرب، مع العلم أن إيران استمرت في الحرب التي خاضتها ضد العراق لمدة ست سنوات أخرى بعد طردها لمعظم القوات العراقية من أراضيها.
إن محاولة توحيد الإيرانيين لاتباع نظرية العين بالعين في التصعيد، على غرار القيام بهجوم إلكتروني واحد، وإسقاط طائرة دون طيار، وفرض عقوبات، وخرق التزام بالمعاهدة، يعد بمثابة استراتيجية فاشلة
في الواقع، ترغب واشنطن بشكل غريزي في معاقبة إيران حتى لا يبدو وكأنها تكافئ تكتيكاتها العدوانية. فعلى سبيل المثال، بعد إلغائه الهجمات الجوية، أمر ترامب بشن هجوم إلكتروني على أنظمة الصواريخ الإيرانية. وفي 24 حزيران/ يونيو فرض عقوبات جديدة على المرشد الأعلى علي خامنئي. ومن جهته، رد روحاني على هذه القرارات بوصف ترامب بأنه شخص “متخلف عقليا” والإعلان عن خطط إلغاء الأحكام الإضافية التي تفرضها خطة العمل الشاملة المشتركة، في حين صرح وزير خارجيته بأن هذه الأعمال تعمل على “إغلاق مسار الدبلوماسية بشكل دائم”.
إن محاولة توحيد الإيرانيين لاتباع نظرية العين بالعين في التصعيد، على غرار القيام بهجوم إلكتروني واحد، وإسقاط طائرة دون طيار، وفرض عقوبات، وخرق التزام بالمعاهدة، يعد بمثابة استراتيجية فاشلة. فمن غير المرجح أن ترد طهران بطريقة إيجابية على التهديدات التي تهدف إلى “إنهائها”.
في حال كانت الولايات المتحدة تريد من إيران تغيير سلوكها، سيتعين عليها إعادة إحياء قنوات الاتصال المُنقطعة وإعادة خلق حوافز حقيقية للدبلوماسية، بدلا من تهديدها بالحرب وفرض عقوبات مُدّمرة عليها. وعلى أي حال، إن خطر اندلاع حرب إقليمية مدمرة وفوضوية يعزز استراتيجية إيران الأمنية القائمة على الردع في الخليج الفارسي، وسيترتب عن عدم رغبة أي من إيران والولايات المتحدة في التراجع عن التصعيد نتائج وخيمة على جميع الأطراف المشاركة.
المصدر: ناشيونال إنترست