تسبّبت عودة حيتان منظومة اقتصاد نظام بشار الأسد إلى دمشق جدلًا واسعًا بين الأوساط الشعبية السورية، نتيجة مشاركتهم بشكل مباشر وغير مباشر في دعم جرائم النظام السابق التي ارتكبها بحق السوريين طيلة سنوات الثورة السورية، فضلًا عن إدراجهم على قائمة العقوبات الأوروبية والأمريكية.
ومُهّد طريق عودة رجال أعمال وواجهات اقتصادية للشركات التجارية الضالعة في منظومة الفساد، عبر وساطات مع الإدارة السورية الجديدة، قادها رجال أعمال لم يغادروا دمشق منذ سقوط النظام البائد، حيث استطاعوا تشكيل علاقات مع شخصيات اقتصادية بارزة تحت بند ما يعرف بـ”التسوية”.
كما اجتمعت الإدارة السورية الجديدة مع عدد من رجال الأعمال السوريين في دمشق، بينهم شخصيات ورؤوس أموال شكّلوا واجهات اقتصادية لإدارة منظومة الفساد المرتبطة بالرئيس المخلوع بشار الأسد وزوجته أسماء الأخرس، وشقيقه ماهر، في مرحلة يصفها مراقبون أنها تعكس “تبني الإدارة الجديدة التوجهات الاقتصادية للنظام البائد”.
رغم عدم كشف حكومة تصريف الأعمال عن خطواتها المقبلة في التعامل مع ملف منظومة اقتصاد النظام السابق، ونفيها لعودة بعض رجال الأعمال المعروفين، إلا أن التطورات الأخيرة أثارت قلقًا بين السوريين كونها تعيد تدوير شخصيات اقتصادية ساهمت في ارتكاب جرائم ضد الشعب السوري.
وساطات للتسوية
ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بخبر عودة رجل الأعمال محمد حمشو إلى دمشق، قادمًا من مطار بيروت في لبنان بوساطة قطرية تركية، بهدف تسوية أوضاعه مع حكومة تصريف الأعمال السورية في سياق استئناف نشاطات استثمارية وتجارية، كان يشغلها عبر شركات خاصة أثناء حكم النظام البائد.
امتاز حمشو بعلاقات وثيقة مع ماهر الأسد شقيق الرئيس المخلوع، ما منحه مكانة مهمة ليكون أبرز رجال الأعمال الأغنياء على مستوى سوريا، حيث شغل استثمارات في قطاعات اقتصادية بالغة الأهمية كالعقارات والتجارة والاتصالات والفنون، ترتبط بشبكة علاقات اقتصادية واسعة.
كان حمشو عضوًا سابقًا في مجلس الشعب خلال دورته الأخيرة، وأُدرج على قائمة العقوبات الأمريكية بموجب “قانون قيصر”، بسبب دعمه لنظام الأسد بهدف الالتفاف على العقوبات، إضافة إلى دعمه المباشر في تشكيل ميليشيات مسلحة تقاتل إلى جانب النظام السابق.
وتحدثت تقارير إعلامية عن مفاوضات بين حمشو وحكومة تصريف الأعمال السورية، بهدف ترتيب عودة نشاطه في دمشق، إلى جانب عدد من الشخصيات المقربة من ماهر الأسد، بينهم شريكه رئيف القوتلي، وخالد قدور، المسؤول عن إدارة الأعمال التجارية.
ويتولى رجل الأعمال خلدون الزعبي وساطة التسوية مع حكومة تصريف الأعمال التي بدأت في شريكه سامر فوز، وحسام قاطرجي، ومحمد حمشو، حسب ما أفادت مصادر لموقع “إرم نيوز”.
وينحدر الزعبي من بلدة المسيفرة في محافظة درعا، ويشغل نائب مجلس إدارة شركة “أمان القابضة” التي يملكها سامر فوز، منذ العام 2017، ويعدّ عضوًا مؤسسًا في شركة “أساس للحديد”، وشريكًا أيضًا في شركة فلاي أمان منذ العام 2018.
أُدرج الزعبي والفوز عام 2019 على قائمة عقوبات الاتحاد الأوربي إلى، جانب 9 رجال أعمال سوريين و5 كيانات وشركات تجارية على صلة بمشروع “ماروتا سيتي” السياحية، الذي كان يُبنى على أنقاض منطقة خلف الرازي وبساتين كفرسوسة وأطراف المزة في العاصمة دمشق.
في المقابل، نفى وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية في حكومة تصريف الأعمال، باسل عبد الحنان، وجود التسوية في مقابلة أجراها مع قناة “CNBC“، قائلًا: “سمعت التقارير الإعلامية الخاصة بالتسوية مع رجل الأعمال محمد حمشو ولا يوجد أصل لها، نحن نتحدث عن العشرات من رجال الأعمال المحسوبين على النظام السابق وأسماء وهمية”.
وبنى نظام الأسد منظومة اقتصادية متكاملة ومتشعّبة بين عدد من الواجهات الاقتصادية البارزة التي تدير مئات الشركات التجارية والصناعية الخاصة في سوريا، لكن بعضها توقف عن العمل بعد سقوط النظام البائد، بسبب موقف أصحابها من الحكومة السورية الجديدة ومخاوفهم من الملاحقة الأمنية والقضائية.
اجتماعات مباشرة
لم تقتصر الخطوات التمهيدية لحيتان الاقتصاد في تسوية أوضاعهم مع الإدارة السورية الجديدة فقط، بل إنها تعدّت إلى اجتماعات مباشرة مع عدد من واجهات النظام البائد التي تصنَّف من الصف الثاني، أو المقربين من الدائرة الاقتصادية الأولى، ويرتبطون معها بشبكة علاقات واسعة.
في 10 يناير/ كانون الثاني الجاري، اجتمع قائد العمليات العسكرية أحمد الشرع، مع رجال أعمال قصر الشعب في العاصمة، ضمّت قائمة الحضور شخصيات عُرفت بقربها من أسماء الأسد زوجة الرئيس المخلوع، وشقيقه ماهر الأسد.
ويعدّ بسام معماري في مقدمتهم، فهو رئيس البنك السعودي الفرنسي في سوريا، المرتبط بالأمانة السورية للتنمية التي تديرها أسماء الأسد، وتربطه علاقات بأنشطة تهريب الكبتاغون، وثائر دريد لحام مالك شركتي “ديناميك ماينتناس آند مانجمنت” و”ديناميك لخدمات المغتربين”، وموظف لدى مؤسسة “تاريخ دمشق” التي نشطت في وضع يدها على مواقع جغرافية حسّاسة في دمشق.
كما ظهر في الاجتماع عمر راتب الشلاح، ابن الدكتور راتب الشلاح الملقب بـ”شهبندر تجار سوريا”، إضافةً إلى فاسكين يعقوبيان المرتبط بشكل غير مباشر مع بسام معماري، عن طريق المساهمة في شركة “بوزانت يعقوبيان”، فضلًا عن ملكية بنك الائتمان الأهلي “أي تي بي – بنك عودة”، حسب مرصد الشبكات السورية، وبالتالي ارتباطه بأسماء الأسد.
وهيثم صبحي جود الذي يملك مجموعة جود التجارية التي تتضمن عددًا من الشركات، وتربطه علاقات مع ثائر دريد لحام عبر شركة سوريا القابضة، وتبني للتطوير العقاري، ومحمد الحلبي المدير العام السابق لبنك البركة، ورئيس مجلس إدارة البنك الوطني الإسلامي التابعين لمجموعة القاطرجي التجارية، وأحمد سمحا صاحب توكيل شركة Zara بالشراكة مع آل مخلوف.
يبدو أن الاجتماعات التي ضمّت رجال الأعمال الذين يملكون شركات وكيانات تجارية مترابطة فيما بينها، موازية تمامًا لما يتم الحديث عنه فيما يخص تمهيد عودة حيتان الاقتصاد المقربين من المنظومة الاقتصادية التابعة لنظام الأسد البائد.
مكاسب واجهات النظام
رغم مشاركتهم في السياسات الاقتصادية التي انتهجها النظام البائد، ومشاركة بعضهم بشكل مباشر في دعم حرب النظام ضد السوريين، ومخاوفهم من الملاحقة والمحاسبة القضائية، إلا أنه من الواضح بحثهم عن مصالحهم في استمرار أعمالهم ومنشآتهم التجارية عبر كسب ودّ السلطة الجديدة، للحصول على تسويات تمكّنهم من العمل على المستويين الداخلي والخارجي.
يرى الباحث الاقتصادي يونس الكريم، أن تسوية واجهات النظام رغم أنها تطفئ نار أي صراع ينشأ منهم، إلا أنها تثير سخط الشارع والثورة، لأنها تتم خلف أبواب مغلقة، لا معلومات كيف تم الأمر، وماذا قدموا فدية جرائمهم، خاصة أنها حكومة تصريف الأعمال، في حين هذه التسويات قد تحقق عدة مصالح داخلية وخارجية.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “يرغب رجالات النظام في التسوية بهدف قطع مطالب أي حكومة سورية قادمة في محاسبتهم، رغم أن الحقوق العامة والخاصة لا تسقط، لكن غير واضح كيف يمكنهم التهرب؟ في حين تمكنهم التسوية في توقف أي حملات داخلية ضدهم، وسيعاملون على أنهم رجال أعمال وليسوا تجار حرب، فضلًا عن إزالتهم من قائمة الإنتربول الدولي”.
وأضاف “أن حصولهم على التسوية يمنحهم أوراقًا يستطيعون توظيفها لدى مكتب محاماة دولي بهدف تقديمها للاتحاد الأوروبي مثلًا، لإزالة اسمهم عن قائمة العقوبات، ما يعطيهم مجال حركة أكبر ويجنّب الدول التي يعملون بها أي حرج، وبالتالي استمرار عملهم في الدول لا سيما العربية دون قدرة الحكومة على المطالبة في تسليمهم، ما يعني شرعنة الأموال والأعمال التي أسّسوها في الخارج من مقدرات الشعب السوري”.
ويتفق الباحث في مركز عمران للدراسات مناف قومان، في مسألة المصالح، معتبرًا أن الحصول على التسوية يرتبط في مسألة التربُّح بالدرجة الأولى من الاقتصاد السوري، ما يعني استمرار البحث عن المصالح لدى أي حكومة.
وأوضح خلال حديثه لـ”نون بوست” أن سوريا مقبلة على مرحلة بناء وضخّ أموال، واستثمارات كبيرة، حيث بقائهم خارج رادار الحكومة يمنعهم من المشاركة أو الاستفادة، وبالتالي تحقيق رضى الحكومة عنهم وتبييض صفحتهم يسهّل عليهم التحرك بمرونة ويسر في بيئة الاستثمار والعمل خلال المرحلة المقبلة.
أهداف الحكومة
ظهور رجال الأعمال مجددًا في الساحة السورية يثير مخاوف السوريين، ويطرح الكثير من التساؤلات حول الخطوات التي تخطوها حكومة تصريف الأعمال، خاصة أن خبراء اقتصاديين وصفوا التعرفة الجمركية التي صدرت قبل أيام عن الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية، بأنها إحدى نتائج اجتماع الإدارة السورية مع شخصيات مرتبطة بنظام الأسد.
يرى الباحث الاقتصادي يونس الكريم، أن توجُّه حكومة تصريف الأعمال السورية في إعادة تدوير الواجهات الاقتصادية للنظام، يندرج ضمن واحد من 3 سيناريوهات تقديرية، كون الحكومة الجديدة لم تفصح عن معالم سياساتها في ظل غياب دستور يحدد نطاق عملها.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن السيناريو الأول يعتبر أن الإدارة السورية لا تمتلك المعرفة في خبايا إدارة مؤسسات الدولة المتشعّبة، لذلك تستعين برجالات النظام السابق، لأنهم على دراية في إدارة تلك المؤسسات والتحرك الاقتصادي، وبالتالي توظيفهم خلال المرحلة الحالية للاستفادة قدر الإمكان من الموارد المتاحة، لكن يؤخذ على هذا السيناريو أن منهم من يملك الخبرة في إدارة ملف الاقتصاد لكنه مستبعد”.
وأضاف أن السيناريو الثاني يشير إلى أن حكومة تصريف الأعمال استعانت برجال الأعمال، حتى لا تضطر إلى الاستعانة بأشخاص محسوبين على الثورة أو تكنوقراط يشكلون لها عقبة فيما بعد، ويعملون على إدارة الدولة بعيدًا عن خططهم وتوجهاتهم للسيطرة على السياسة المستقبلية من البوابة الاقتصادية، لكن يؤخذ على هذا السيناريو أن جمهور الثورة والنازحين باتوا يشعرون أن الوضع لم يتغير عمّا كان عليه من الجانب الاقتصادي والسياسي، وبالتالي ممكن أن يولد جبهة معارضة مستقبلية تربك الحكومة.
وتابع أن السيناريو الثالث هو رؤية حكومة تصريف الأعمال أن حيتان الاقتصاد للنظام السابق يملكون موارد اقتصادية وشبكة علاقات دولية خاصة مع الدول العربية يمكن استثمارها، ومن السهل إزاحتهم في حال انتهت مهامهم وباتوا يشكّلون خطرًا على الدولة، دون بذل أي مجهود سوى إخراج بعض التعاملات مع النظام السابق، لكن هذا السيناريو له عقبات، لأن تمدد هؤلاء مع الوقت يحوّل وجودهم إلى جزء محوري من العملية الاقتصادية، ما يصعّب التخلص منهم.
في المقابل، يقلل الباحث الاقتصادي مناف قومان، من الاجتماع مع رجال الأعمال، معتبرًا أنها مجرد صورة لا يمكن الاستعجال في النتيجة، لأنه لا يمكن اعتبارها إعادة تدوير رجال اقتصاد النظام السابق في سوريا مجددًا، إلا في حال حصولهم بالفعل على مشاريع وامتيازات وعقود واتفاقات تسمح لهم بتنفيذ مشاريع على أرض الواقع.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن الحديث عن موضوع إعادة التدوير يبدو مبكرًا، إلا في حال طرحه بشكل جدّي أكثر خلال الشهور المقبلة”، مضيفًا “أنه من المرجح أن يوضع قائمة بالشروط على طاولة تلك الشخصيات، وقد يكون بينها تقديم تعويض مالي، إضافةً إلى الكشف عن أملاكهم وأموالهم ومصادرها، والمساهمة في إعادة بناء مرافق ومؤسسات من دون مقابل”.
يشار إلى أن حكومة تصريف الأعمال تسلمت البلاد في واقع اقتصادي منهار، جراء نهبها من قبل المنظومة الاقتصادية المقربة من النظام السابق، لكن الاستعانة بالشخصيات الاقتصادية ذاتها وإعادة تدويرها في سوريا الجديدة أبرز ما يثير قلق الشارع السوري الذي يتطلع لمحاسبة كافة المجرمين وإعادة إعمار ما هدمه الأسد، دون إعادة تدوير الشخصيات اعتادت على الفساد لمصالحها الشخصية والعائلة الحاكمة.