أثار وصول جحافل حركة الشباب الموالية للقاعدة قبل عدة سنوات إلى البلدات المتاخمة للحدود الكينية حساسية كينيا التي سبق وأن شاركت في التنسيق لجهود ما سمي بمكافحة الإرهاب في القرن الأفريقي فيما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
ورغم السياسة العامة للحركة التي تعتمد على عدم التورط في معارك عبر الحدود، وتفادي كينيا بدورها افتعال مشاكل كبيرة مع جيرانها الجهاديين، إلا أن حقيقة تحول كينيا إلى أحد أكبر روافد تجنيد الجهاديين في المنطقة وجمع التبرعات لهم وتحول مطاراتها وحدودها إلى موانئ وسيطة لتحرك الجهاديين الأجانب من وإلى الصومال إلى جانب شعور السلطات الكينية بالاستفزاز من تأثير الحركة على البلدات الكينية الحدودية، الذي وصل لدرجة تحاكم سكانها إلى محاكمهم الشرعية، كل هذا شكل إضافة لعمليات خطف السياح والأجانب الغربيين دافعًا إلى إعلان كينيا حربًا ضد الحركة.
ففي عام 2011 اجتاحت وحدات جيش الدفاع الكيني الحدود مع مليشيات الجهادي السابق والمناهض للشباب “أحمد محمد مذوبي” تحت إطار الدفاع عن الأمن الكيني القومي .. ولكن .. هل حمت كينيا أمنها بعد أكثر من سنتين من التدخل؟
ضربة على خاصرة الشباب
شكل التدخل الكيني من أكبر الضربات التي تعرضت لها الحركة منذ تأسيسها عام 2006 على يد عدد من الجهاديين بايع بعضهم أسامة بن لادن إبان فترة الجهاد الأفغاني وبعده في أفغانستان.
فقد شكلت منطقة الجنوب الصومالي أو منطقة جوبا – نسبة لنهر جوبا الذي يمر فيها – المحصورة بين الأراضي الكينية والمحيط الهندي ملجأ آمنًا منذ مطلع التسعينات للجهاديين، وشهدت وصولاً مبكرًا لمبعوثي تنظيم القاعدة، الذي شاركوا مع تنظيم الاتحاد الإسلامي في فتح معسكرات بتلك المنطقة الاستوائية المغطاة بالغابات، ولم تشهد غيابًا في الوجود الجهادي إلا بُعيد الاجتياح الإثيوبي للصومال في ديسمبر عام 2006، حيث شهدت عمليات مشتركة محدودة للقوات الأمريكية الخاصة والإثيوبية لم يكتب لها الاستمرار أو النجاح بسبب طبيعة المنطقة التي سرعان ما تحولت الى قاعدة أعاد الجهاديون الانتشار فيها والانطلاق منها خلال سنة.
وكان التدخل الكيني فيها بمثابة انكشاف للظهر فقدت بسببها غابات راسكمبوني أهميتها الاستراتيجية المميزة، قبل سقوط كسمايو المدوي ومينائها الحلوب الذي كان يدر الملايين للحركة طوال سنوات سيطرتها عليه.
وبالتزامن مع التحرك الكيني بدأ تحرك أفريقي من العاصمة مقديشو نحو الغرب والجنوب الأمر الذي أجبر الحركة لتغيير استراتيجياتها بشكل كامل والتأقلم مع الوضع الجديد.
الوجود الكيني من حفظ السلام إلى فرض قواعد اللعبة السياسية
لم يتأخر الاتحاد الأفريقي كثيرًا في ضم القوات الكينية التي اجتاحت الصومال مسبقًا إلى القوة الأفريقية لحفظ السلام AMISOM ، لكن هذا الدور كما يبدو لم يعد كافيًا لحماية الأمن القومي الكيني، فسرعان ما شهدت الساحة السياسية تدخلاً كينيًا فجًا في صياغته قواعدها.
فعبد دخول جل مراكز جوبا السكانية في قبضة القوات الكينية وبالتالي الحكومة الصومالية، بدأ حراك لتعيين إدارات محلية لتلك المناطق ضمن الإطار الفيدرالي، وما يهمنا في هذا الصدد أن كينيا كدولة مشاركة في قوات حفظ السلام عملت على تبني مشروع أمير الحرب “أحمد مذوبي” الذي خاض معركة سياسية ضارية العام الماضي مع الرئاسة الصومالية، ولم تجد كينيا حرجًا في إعلان دعمها له وتحدي الحكومة الصومالية وكافة الفرقاء الصوماليين بذلك، ونجحت كينيا بالفعل في إنجاح المشروع، وتقرير إدارة مذوبي كأمر واقع اضطرت الحكومة على مضض قبوله.
ساعد هذا الأمر في إدخال كينيا نفسها في نفس الفخ الذي ظلت إثيوبيا واقعة فيه الآن وقواتها ضمن الأميصوم، ألا وهو كونها تظهر بمظهر قوات احتلال تفرض برامجها وليست كقوات حفظ سلام محايدة أمام أطراف العملية السياسية؛ الأمر الذي يجعلها في مواجهة مع القبائل والأطراف التي ليست ضمن الفئة التي فرضتها الدبابة، مما يعد مكسبًا شعبيًا وميدانيًا لحركة الشباب قدم إليها على طبق من ذهب.
ورغم عدم تأكيد مصادر رسمية أو مستقلة إلا أنه من المتواتر مشاركة تشكيلات عشائرية في حرب العصابات المشتعلة في الجنوب ضد السيطرة الحكومية الكينية، هذا إضافة إلى تمكن سرايا حركة الشباب من التحرك والمناورة بسلاسة في المناطق الريفية المحيطة بالمدن لوجود الظهير العشائري المعادي لخصومها.
نقل المعركة إلى كينيا .. استراتيجية بديلة
ظل الشباب يتجنبون شن هجمات قوية داخل الحدود الكينية رغم مشاركتها السياسية واللوجستية في الحرب الأمريكية والإقليمية ضدهم، وكان ذلك منهم وعيًا لأهمية كينيا لهم كأحد أهم راوفد التجنيد والتمويل وكنافذة الى العالم الخارجي منها يدخل من يتم تجنيدهم من الجاليات المسلمة في أوروبا وأمريكا الشمالية، ولكن حساباتهم تلك لم يعد لها اعتبار مع تسبب كينيا بخسارتهم لمناطق ومدن استراتيجية.
كان الهجوم على مركز وست جيت التجاري بنيروبي المملوك من قبل رجل أعمال إسرائيلي والذي يعد أكبر مركز تجاري في البلاد باكورة مشروع نقل المعركة إلى الداخل الكيني، العملية التي أسفرت عن مقتل وإصابة المئات من جنسيات مختلفة كان لها صدى على أصعدة مختلفة، فقد كانت من أشرس الضربات التي تعرض لها الاقتصاد الكيني، إضافة إلى كونها دفعة معنوية قوية للتنظيم وعناصره ومؤيديه الذين تأثرت معنوياتهم بسقوط المدن الكبرى في يد القوات الأفريقية، دفعة كان لها وقع خاص خصوصًا مع فقدان أيه أدلة على مقتل أو اعتقال الانغماسيين الذين اقتحموا المركز وتحصنوا فيه لأكثر من يومين.
كما استغل الشباب الأوضاع الاجتماعية على الحدود الصومالية الكينية، التي لا تفرق عن جدار برلين من حديث تجانس من هم على جانبيه وترابطهم في الدين واللغة والجنس وحتى القبيلة، الأمر الذي أكسبهم إمكانية أكبر لشن عمليات عبر الحدود.
مدينة منطيرا مركز المحافظة الشمالية الشرقية أو حسب التسمية الغير الرسمية (الصومال الكيني) شهدت هجمات عنيفة متكررة تشنها قوات حركة الشباب ضد ثكنات الشرطة والجيش الكيني ومسئولي الحكومة المحلية، كان آخرها الهجوم الدامي الذي استهدف رتلاً عسكريًا للقوات الكينية على مدخل المدينة آتيًا من بلدة عيل واق الصومالية، والذي فقدت فيه القوات الكينية أكثر من 14 ضابطًا وأسفر أيضًا عن تدمير ما لا يقل عن عربتين واستلاب معدات وعربات أخرى.
ويأتي هذا في وقت تشهد فيه المدن الكينية كنيروبي وممباسا ومدن المحافظة الصومالية تفجيرات عشوائية قتلت وجرحت مئات المدنيين وعناصر قوات الأمن.
رد الفعل الكيني يزيد الطين بلة
جاء الرد الكيني عاطفيًا وغير مدروس، فقد اتجه التيار العام في كينيا إعلاميًا وبشكل أو بآخر سياسيًا نحو الشحن والتجييش ضد الجالية الصومالية ككل، رغم أنه من المعلوم بالضرورة أن الشباب تنظيم جهادي يشكل فيه الصومال جزءًا كبيرًا فحسب في تكوينه الذي يضم أعدادًا كبيرة من الكينيين والتنزانيين ومختلف الحنسيات الأفريقية، كما شنت الشرطة الكينية حربًا ضد اللاجئين الصوماليين بكينيا أسفرت عن إعادة قسرية لمئات منهم إلى الصومال الذي تعرف كينيا أكثر من غيرها حقيقة الجحيم المستمر في الاشتعال هناك.
وشكلت الخطوة الكينية عاملاً مساعدًا لنجاح سيناريو نقل الحرب إلى الداخل الكيني حسب ما صرح به مسئول مكتب الدعوة حركة الشباب “فؤاد محمد خلف” في خطاب جماهيري زعم فيه – وهو ما لا يوجد ما يؤكده أو ينفيه – أنهم فتحوا معسكرات تدريب للشباب الكيني المسلم الذي تم اضطهاده من قبل السلطات هناك ليكونوا رأس الحربة في سيناريو نقل الحرب إلى العمق الكيني.
هل تورطت كينيا فيما لا طاقة لها به؟
تشتهر أجهزة الأمن الكينية بسمعتها الكبيرة في الفساد وهو ما يعتبره كثير من مواطنيها عدو بلادهم الأخطر، كما دخل التعايش الذي كان نقطة القوة التي طالما ميزت النسيج الكيني في مرحلة حرجة مع التوتر المتصاعد في منطقة الساحل ذات الأغلبية المسلمة بعد انتشار ظاهرة اغتيال الدعاة والشيوخ المناهضين للحكومة والمتمتعين في نفس الوقت بشعبية كبيرة، هذا بالإضافة إلى العمليات الأمنية العبثية التي تستهدف الجالية الصومالية في العاصمة، الجالية التي تواجه استثماراتها التي تقدر بالملايين وضعًا حرجًا مع وصمهم بالإرهاب والتلويح بإمكانية فتح تحقيقات في أموالها أو تجميدها بتهمة التورط في تمويل الإرهاب.
كل ذلك يسحب من كينيا الأفضلية في معركتها مع حركة الشباب المجاهدين التي كما يبدو تجيد استغلال نقاط ضعف خصومها إلى حد كبير، ويجعلها تمامًا في الموقف الذي وصفه شرعيها الأشهر “فؤاد محمد” خلال استعراضه لجماهير مدينة بارطيري الصومالية أسلحة ومعدات تم استلابها من رتل كيني هوجم داخل الأراضي الكينية “كمن بيته من زجاج ويرمي غيره بالحجارة”.
كينيا الآن أمامها خياران، أن تسارع إلى ترتيب البيت الداخلي، وتتفادى تشقق النسيج الاجتماعي الكيني، وتركز على مكافحة حقيقية للفساد، وتجعل من مكافحتها لأعمال العنف أكثر مهنية وأبعد عن العشوائية والتجييش الساذج ضد مواطنيها الصوماليين أو المقيمين فيها، وتعمل على تقليل التحسس الصومالي الشعبي عنها عبر ترسيخ صورتها كدولة مشاركة في بعثة حفظ السلام تقف على قدم المساواة من جميع الفرقاء الصوماليين.
أو أن تستمر في معركتها كما هي الآن، وتستنزف فيها قدراتها وطاقاتها وملايينها، لتخرج منها أضعف بكثير مما كانت عليه قبل تورطها فيها اقتصاديًا ومجتمعيًا وسياسيًا، ويتبدد عن آخره بذلك أمنها القومي الذي كان مجرد تهديده الذريعة التي اجتاحت بسببها الصومال.