ننتظر بفارغ الصبر أن تُترجم رواية من الأدب الإفريقي، ذلك لأننا نفتقد قراءة حكاية مطعمة بسحر وأساطير إفريقيا، خصوصًا لو كان صاحب الحكاية جديدًا علينا، لا نعرف عنه شيئًا.
بين يديّ رواية لكاتبة، تترجم لأول مرة للغة العربية، رغم إنتاجها الكبير، رواية “موسم الظل” هي العمل السابع في مسيرة الكاتبة الكاميرونية ليونورا ميانو المولودة في دوالا عام 1973، والمقيمة في باريس حتى الآن منذ أن رحلت للدراسة هناك عام 1991، نالت صاحبتها عنها جائزة فيمينا سنة 2013، وهي أول كاتبة إفريقية تفوز بهذه الجائزة، وجائزة ميتيس في العام نفسه.
لولا سلسلة “إبداعات عالمية” التي تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت، لم نكن لنقرأ هذه الرواية، إذ عرفتنا السلسلة دائمًا بكتب وأقلام لم نكن نعرف عنهم شيئًا ونجهل إبداعهم.
المقيمون في الظل
“حتى يتذكر الموت أنه قد سلبهم بالفعل طفلًا”.
تستقي ليونورا من قارتها حكاية عن شعبٍ، لم تحدد مكانه بالضبط على الخريطة، ولا زمنًا معينًا لحدوث وقائعه وسريان عالمه، كل ما هنالك أننا في إفريقيا، في وطن ما، جنوب الصحراء، تروي لنا حكاية شعب قبيلة آل المولونغو.
في مولونغو تعامل النساء معاملة طيبة، وتنتقل السلطة عن طريق الأم، النساء في هذه القبيلة تعتبر كالأطفال حتى تصل إلى سن انقطاع الطمث، والمرأة التي سبق لها الزواج وأنجبت تعامل بأفضلية عن تلك التي حرمت من الخلفة
هذه القبيلة تحيا في عزلةٍ تامة، لا تعرف أبعد من جيرانها، قبيلة آل البويلي، التي تكبرها عددًا وقوةً ومساحةً، استيقظوا ذات مساء وقد شب حريق في عددٍ من الأكواخ التي يسكنون بها، مكتشفين اختفاء عشرة فتيان وحكمين عجوزين.
“أمي، افتحي لي، حتى أولد من جديد”.
لم يكن سهلًا على هذه القبيلة ولا على المتولين أمرها، التكهن بما حدث لهؤلاء الفتية ومعهم العجوزين، لكن بعد أن تم جمع أمهات الفتيان في كوخ جماعي، تبدأ الحكاية الفعلية، الخط الذي تسير عليه ليونورا ميانوا، مشيدة عالمًا ممتلئًا بالسحر والجمال وسردًا متقنًا وحبكة نفسية تستحق الكاتبة عليها الثناء.
الظل الذي حل على الكوخ الذي تم جمع النساء العشرة فيه، كان أمرًا مبهمًا للقبيلة كلها، بالنسبة إليهم كان نذير شؤم، كل ما كان يشغل مجلس القبيلة، أن يجدوا في أسرع وقت وسيلة تمكنهم من الاتصال بالفتيان الذين اختفوا بعد الحريق، فهم لا يعرفون أهم ميتون أم تم خطفهم، الأمر مجهول تمامًا، كحكاية الظل هذا الذي خيم على الكوخ.
“أماه، ليس هناك غير الماء، محي طريق العودة، ليس هناك سوى الماء فقط”.
الذاكرة الجريحة
“الآن، الشيء الوحيد الذي يهمهن هو الإفلات من الغرق”.
في مولونغو تعامل النساء معاملة طيبة وتنتقل السلطة عن طريق الأم، النساء في هذه القبيلة تعتبر كالأطفال حتى تصل إلى سن انقطاع الطمث، والمرأة التي سبق لها الزواج وأنجبت تعامل بأفضلية عن تلك التي حرمت من الخلفة.
وحده الحلم كان المنقذ لهؤلاء النسوة والقبيلة، لمعرفة ما حل بالفتية، كان ما يحدث لهن في الحلم عبارة عن حضور مجهول
الرجال هنا لهم السلطة العليا بالفعل، لكن ليونورا ميانوا أرادت أن ترسم ملامح للأبطال بشكلٍ مختلف، فبطل الرواية امرأة فقدت ابنها في حريق لم يعرف فاعله، تم حبسها من النسوة الأخريات اللاتي فقدن أبناءهن في كوخ، تحسبًا لأي شعوذة أو سحر قامت به هؤلاء النسوة.
“الحلم هو رحلة في حد ذاته، خارج الذات، في أعماق الأشياء وخارجها، إنه ليس مجرد زمن فحسب، بل هو أيضًا مكان، مكان للانكشاف”.
وحده الحلم كان المنقذ لهؤلاء النسوة وللقبيلة، لمعرفة ما حل بالفتية، كان ما يحدث لهن في الحلم عبارة عن حضور مجهول، فقط صوت، كل واحدة منهن تعرفت على صوت واحد ضمن آلاف الأصوات التي كانت تأتي، كانوا يحاولون بهذا اختراق الظل، مشاهدة الوجه ولو لمرة، لكن على الرغم من هذا لم يستمع منهن جيدًا، إلا واحدة، كانت إيابي، هي من عرفت صوت ابنها، وسمحت له أن يأتي واضحًا.
“نحن نجهل كيف تتجسد أحلامنا خلال النوم إلى حقيقة”.
أقوال الظل
“لم يترك لهن، سوى الصمت والعزلة”.
العالم هنا انقسم إلى أربعة أجزاء: ديكوما وسكديبينغا وووز حيث يعيش البشر وسيسي موطن الأجداد والعباقرة الأجلاء.
ليلة الحريق هي الليلة التي تغير فيها وجه العالم بالنسبة لقبيلة آل المولونغو، وأصبح نهارهم ليلاً، وإيابي كانت الطريق الوحيد للوصول للفتية، قلبها يؤكد لها أن ابنها حي لم يمت، لو كان ميتًا لعرفت، لشعرت به، وما تكشف لها في الحلم كان أول الخيط، لذا كان عليها أن تخوض الرحلة، حتى تصل لأرض قبيلة آل البويلي.
“إنهم يعتقدون مثلنا بأن الموت ليس سوى رحلة، حتى وإن كان لا أحد يتمنى القيام بها مبكرًا”.
آل البويلي داخلهم حقد كبير ناحية المولونغو، ينظرون لأرضهم بعين شهوانية، واختطافهم للفتية كان ضمن صفقة مع أصحاب أقدام الدجاج، كما يطلقون عليهم، نسبة لملابسهم الغريبة.
ما حدث هو تسليم مجموعة من البشر، أسرهم من قبيلة آل المولونغو، لأصحاب أقدام الدجاج – الأوروبيين – مقابل بضائع وأسلحة، لم يعرف مثلها آل البويلي، تجارة في البشر.
الذين قالوا للظلام لا
“لم يعد الليل كما كان منذ زمن طويل، وقد خرجت منه كما دخلت”.
ما فعلته قبيلة آل البويلي هو اقتلاع قبيلة بشرية من قلب مجتمعها وتشريدها وتشتيتها في الأرض وتقديمهم عبيدًا للأوربيين الذين أتوا عن طريق البحر بسفن شراعية عملاقة ومدافع ثقيلة، مقابل بضائع وأقمشة وبعض الذهب والكثير من الأسلحة، إنه ببساطة جنون البشر حين ينقلبون على بعض ويطمعون في بعض ويتاجرون ببعض.
“كان يجب عليهم أن يفتحوا عيونهم على العالم”.
لم يكن آل المولونغو على علمٍ بوجود أناس خلف البحر، هم يعلمون أن المحيط آخر العالم، من يأتي من هناك، يأتي من العالم السفلي، إذًا لم تكن تجارة البشر حديث عهد، هي من قدم الأرض والبشر الذين أول ما يسرقون ويقتلون، يكون جارهم.
رسمت ميانوا في هذه الرواية شخصياتٍ في غاية الاتقان، حتى جعلتهم أحياءً، لا يمكن أن يكونوا مجرد خيال في مخيلة روائية
“كل ما يوجد هو من صنع سماوي، بينما الشر والخير فهما شيء طارئ، الخير هو كل ما يعتمد ويفيد، أما الشر فهو كل ما تبقى”.
آمن المولونغو بهذا الأمر، تعاملوا بناء عليه، فهم مسالمون جدًا وأصحاب أنفس لا يدخلها الشك أو التساؤل عما يدور حولهم.
“وبعد برهة، كانوا قد نسوا نور الشمس”.
ليونورا ميانوا كاتبة الظل
رسمت ميانوا في هذه الرواية شخصياتٍ في غاية الاتقان، حتى جعلتهم أحياءً، لا يمكن أن يكونوا مجرد خيال في مخيلة روائية، هم حقيقون جدًا، كحقيقة ما فعله البشر ببعضهم وما ألحقوا أنفسهم من عذاب، صراع نفسي رهيب، يجعلك تشترك فيه، تصاب بدوار، تمشي مع إيابي طريقها في الغابة نحو بيكومبو عاصمة قبيلة آل البويلي، متوترًا وقلقًا من عدم استكمال الطريق، خائفًا ألا تجد ما تبحث عنه.
في كثيرٍ من أجزاء الرواية، كانت الترجمة سيئة، أيضًا المراجعة، لكن هذا لا ينفي مقدار الجهد المبذول، إننا بحاجة قوية لقراءة كل ما يخرج من بطن إفريقيا، الممتلئة بالأعاجيب
شخصيات ليونورا ميانوا، ذكرتني بشخصيات الكاتب النيجيري تشينو أتشيبي في روايته “الأشياء تتداعى”، كذلك السرد، قصة غنية بكل شيء تتمنى وجوده في رواية.
في كثيرٍ من أجزاء الرواية، كانت الترجمة سيئة، أيضًا المراجعة، لكن هذا لا ينفي مقدار الجهد المبذول، إننا بحاجة قوية لقراءة كل ما يخرج من بطن إفريقيا الممتلئة بالأعاجيب.
ميانوا كتبت ملحمة بكل معنى الكلمة، سيمفونية في حب وسحر وجمال إفريقيا، وما فيها من طبيعة، بكل تلك الأشجار التي لم أسمع عنها من قبل، ولا الكم الكبير من الميثولوجيا التي أتمتع حين أسمعها أو أقرأها.
“إلى حيث هم ذاهبون، لا توجد إلا العتمة وبشكل دائم، يجب أن يكونوا مستعدين لها”.
علينا كأفارقة أن ننظر جيدًا إلى أين نحن ذاهبون، لأن العتمة تبدو دائمة، وموعد طلوع النهار، ليس بقريب.
“ربما يحتاج إلى أن يتذكر القرية، وما تركه هناك، ليترسخ مرة أخرى في الحياة”.