يرتبط عمالقة التكنولوجيا في الولايات المتحدة الأمريكية بعلاقة ملتبسة مع الرئيس الجمهوري المحافظ دونالد ترامب، حيث شهدت هذه العلاقة مدًا وجزرًا منذ أن ظهر ترامب لأول مرة كمرشح رئاسي قادم من عالم الأعمال، حاملًا أجندة قومية وشعبوية صادمة لما اعتاده الشعب الأمريكي. وعلى ما يبدو، فإن هذا التقارب الملحوظ يؤثر على عدة ملفات، وتحكمه المصالح المشتركة أولًا وأخيرًا.
رغم أن إدارة ترامب ليست الأولى في توثيق علاقتها مع عمالقة التكنولوجيا في الولايات المتحدة، فقد سبقتها إدارة أوباما التي تمتعت بعلاقات وطيدة مع شركة جوجل، لا سيما في مجالات الأمن القومي، فإن الأهداف والرؤى التي جمعت أوباما وجوجل ومديرها التنفيذي السابق إيريك شميدت، تقف على النقيض مع تلك العلاقة التي تجمع ترامب اليوم بهذه الشركات العملاقة.
تثير هذه المعطيات العديد من التساؤلات حول طبيعتها، وكيف تحولت العلاقات من النقيض إلى النقيض؟ وأي الدلائل تحملها؟ وما تأثيراتها على المستويين الأمريكي والعالمي؟
عدوّ البارحة.. صديق اليوم
في أول ظهور لترامب على الساحة السياسية الأمريكية، نظرت شركات التكنولوجيا الكبرى، مثل ميتا وتويتر وجوجل وأمازون وشركات الذكاء الصناعي وغيرها من الشركات الرائدة في هذا المجال، إلى ترامب بعين العداء، ووصفته بـ”الخارج عن السرب الأمريكي”، وردّ ترامب وحزبه الجمهوري بشن حملة شرسة ضد هذه الشركات، متهمًا إياها بالتحيز لصالح الليبراليين وقمع الآراء السياسية المحافظة.
امتدت حربه مع هذه الشركات حتى وقت قريب من انتخابات 2024، حيث هدد ترامب شركة جوجل، مثلًا، بتحويلها للتحقيق الجنائي بتهمة نشر معلومات سلبية ومضللة عنه خلال حملته الانتخابية، بهدف ثني الناخبين عن الإدلاء بأصواتهم لصالحه، كما قام فعليًا بمقاضاة كل من تويتر وميتا بالإضافة إلى جوجل، متهمًا إياها بحظر الآراء وتضليل الرأي العام فيما يتعلق بمحاولة اغتياله.
لم يتوانَ ترامب خلال فترته الرئاسية الأولى عن استخدام كل الألاعيب لابتزاز الكونغرس لرفع الحماية القانونية التي يكفلها قانون معروف بـ”القسم 230“، وذلك ضد عمالقة التكنولوجيا الذين عارضوا سياسته، فقد ربط ترامب موافقته على علاوات القوات المسلحة بتصويت الكونغرس لمحاسبة شركات التواصل الاجتماعي، ما أثار عاصفة من الانتقادات الحادة حول الدور الذي كان يسعى للعبه في توجيه دفة المعلومات والآراء في الولايات المتحدة.
كما مثّل ترامب دور قائد الأوركسترا وعراب التحركات القانونية العديدة التي سعت إلى حظر تطبيق “تيك توك”، وتقسيم شركة جوجل، وملاحقة مارك زوكربيرج، مؤسس فيسبوك، خلال فترته الرئاسية الأولى.
وأطلقت إدارة ترامب السابقة حزمة من التحقيقات في إطار مكافحة الاحتكار، استهدفت بالأساس الممارسات التي تقيد المنافسة وتسيطر على السوق الأمريكية من قبل شركات مثل أمازون وآبل وجوجل. ولم يكن ترامب ليتقبل هيمنة هذه الشركات على الفضاء العام، حتى بعد هزيمته في انتخابات 2020 أمام بايدن، حيث سعت تلك الشركات للانتقام منه وشيطنة أتباعه.
رغم هذه الضغوط، استطاع ترامب، بما يملكه من مال ونفوذ، أن يفرض نفسه كمستثمر منافس في سوق التكنولوجيا، فاليوم يملك أغلبية أسهم شركة “تروث سوشال”، وهي منصة التواصل الاجتماعي التي تمثل الجمهوريين والمحافظين، إضافة إلى مجموعة “ترامب للإعلام والتكنولوجيا”.
من جانبهم، حاول قادة شركات التكنولوجيا الكبرى في وادي السيليكون التنصل من علاقتهم بترامب، والانحياز إلى القيم الديمقراطية التي يتعارض معها نهج الأخير، فمثلًا، وصف رئيس شركة أمازون، جيف بيزوس، ترامب بأنه “خطر على القيم الديمقراطية” بسبب هجومه المستمر على الإعلام الحر.
أما المدير العام لشركة “OpenAI” المتخصصة في الذكاء الاصطناعي، سام ألتمان، فقد ذهب أبعد من ذلك واتهم ترامب بالانتماء إلى “معشر الديكتاتوريين”، مقارنًا إياه بالزعيم النازي أدولف هتلر، فيما أيدهما في ذلك المدير التنفيذي لشركة جوجل، ساندر بيشاي، حيث وصف أعمال الشغب التي قادها أنصار ترامب بعد خسارته في انتخابات 2020 بأنها تمثل “النظرية المضادة للديمقراطية”.
كشفت حملته الانتخابية الأخيرة عن ميل متزايد لتوظيف شركات التكنولوجيا، بدلًا من اتخاذها عدوًا، خاصة في ظل تنامي تأثيرها على القواعد المجتمعية والسياسية العالمية
وتُوِّجت تلك العلاقة المتوترة بحظر كل من توتير وميتا لحساب ترامب عشية أحداث السادس من يناير/كانون الثاني لعام 2021، عندما هاجم أنصاره مبنى الكابيتول اعتراضًا على تتويج بايدن رئيسًا بعد انتخابات 2020
لكن مع فوز ترامب في انتخابات 2024 وحصوله على ولاية رئاسية ثانية، بالإضافة إلى تأمينه لأغلبية جمهورية في مجلسي الكونغرس (النواب والشيوخ)، أصبح عمالقة التكنولوجيا على يقين بأن مناطحة سيد البيت الأبيض خلال السنوات الأربع القادمة، والتي ستشهد منافسة شديدة في السوق التكنولوجية العالمية، لن تكون مجدية بالنسبة لهم.
وسارعت هذه الشركات إلى تقديم التهنئة لترامب بفوزه، حيث تبرعت كبارقة على حسن النية كل من جوجل وميتا والذكاء الاصطناعي المفتوح وأوبر وأمازون وآبل ومايكروسوفت بمبلغ مليون دولار أمريكي، خصصته لحفل تنصيب ترامب المزمع عقده في 20 يناير/كانون الثاني الجاري. ورغم أن هذه المبالغ قد تبدو رمزية مقارنة بميزانيات هذه الشركات الضخمة، فإنها تعتبر كبيرة نسبيًا مقارنة بالمبالغ التي تم التبرع بها لحفل تنصيب بايدن.
كما أن أولويات ترامب نفسه تغيرت فيما يخص قطاع التكنولوجيا، فقد كشفت حملته الانتخابية الأخيرة عن ميل متزايد لتوظيف شركات التكنولوجيا العملاقة لتنفيذ مشروعات ترامب وسياساته، بدلًا من اتخاذها عدوًا، خاصة في ظل تنامي تأثيرها على القواعد المجتمعية والسياسية العالمية.
بناءً عليه، لم يعد ترامب مهتمًا بحظر “تيك توك” أو تفكيك شركة جوجل كما كان يفعل في فترته الرئاسية الأولى، بل أصبح يقرّب من إدارته القادمة مجموعة من كبار المسؤولين في شركات التكنولوجيا، والذين يُتوقع أن يتولوا مواقع حساسة ومؤثرة في الإدارة القادمة.
تغيُّر اتجاه الرياح
يأتي ترامب هذه المرة في سياق مختلف تمامًا عن ذلك الذي شهده في بداية حملته عام 2016، فالساحة التكنولوجية لم تعد حكرًا على الشركات الأمريكية، مع دخول عدد من الشركات الناشئة والمتقدمة من أوروبا وآسيا في منافسة قوية.
كما أن العالم فتح عيونه فجأة على الخطر الذي تمثله شركات التكنولوجيا، وخاصة شركات التواصل الاجتماعي، ليس فقط على الاقتصاد العالمي، ولكن أيضًا على استقراره الاجتماعي والبيئي والسياسي، فقد أثبتت هذه الشركات قدرتها على الحشد والتعبئة والتوجيه، بما يتجاوز قدرة الحكومات على المتابعة والتحسب.
بدأت مع هذا الإدراك معركة تنظيم شركات التكنولوجيا قانونيًا وحكوميًا، حيث أفلتت هذه الشركات طويلًا من قيود التنظيم وتصرّفت ككيانات فوق القانون وفوق المحاسبة، ووسط هذه المعارك التي تخوضها كل من حكومة الولايات المتحدة وحكومات أوروبا، يظهر ترامب كمخلص يعد هذه الشركات بعودة قوتها وسلطتها في أسواق التكنولوجيا العالمية.
ويقف إيلون ماسك كأحد الأمثلة الحية على ما يمكن أن يحققه التزلف لترامب، بعد أن أمّن له موطئ قدم في الإدارة القادمة، ما جعله يثير حسد أقرانه في سوق التكنولوجيا. بخلاف ذلك، أظهر مؤشر بلومبيرغ للأثرياء أن ثروة ماسك تضاعفت بنحو 70% منذ فوز ترامب، لتصل إلى 450 مليار دولار أمريكي، وهو ما يعكس التأثير المباشر لاصطفافه إلى جانب ترامب خلال حملته الانتخابية.
وسط هذه الأجواء المشحونة، يأتي ترامب حاملًا معه عددًا من الامتيازات والتسهيلات الجذابة لعمالقة التكنولوجيا في الولايات المتحدة. من جهة، تعهد ترامب بإلغاء قرار تنفيذي كان قد وقعه بايدن يهدف إلى تقييد تقنيات الذكاء الصناعي، خصوصًا تلك التي تهدد بالتسبب في التمييز الاجتماعي والعنصري أو التي تُعتبر تهديدًا لمصالح الأمن القومي الأمريكي، رغم أنه اعترف سابقًا بخطورة الذكاء الاصطناعي وضرورة مراقبته حكوميًا.
كما أطلق ترامب سيلًا من الوعود السخية لقطاع الاقتصاد ورأس المال الأمريكي، مُتعهدًا بالتخلص من القيود التنظيمية التي تثقل كاهل الشركات في مجالات اجتماعية وبيئية متنوعة، وهو بذلك يروج لنظرية الاقتصاد القومي التفوقي، التي تُعلي من شأن الشركات الأمريكية وتضعها في موقع الصدارة في مواجهة الشركات والحكومات الأوروبية والآسيوية، خاصة تلك المرتبطة بالصين.
وفيما تبنت ولايته الرئاسية الأولى سياسة “اثنين مقابل واحد”، التي تعني التخلص من تنظيمين قانونيين سابقين مقابل تشريع تنظيم جديد، فإن شركات التكنولوجيا التي عانت من قيود تتعلق بخصوصية المستخدمين، وقواعد المنافسة، ومنع الاحتكار، والتحكم بما يتم نشره عبر منصاتها بما يتوافق مع أجنداتها وسياساتها العامة، تتوق الآن إلى إبرام صفقة متبادلة مع ترامب، تضمن لها الاستفادة من إلغاء القيود التنظيمية مقابل اتخاذ إجراءات صديقة لتطلعات وسياسات الرئيس الأمريكي.
ومن المرجح أن يبدأ ترامب بتنظيف البيت الأمريكي أولًا بمجرد توليه مهامه الرئاسية، فقد كان أحد وعود حملته الانتخابية التخلص من لينا خان، محظية بايدن في لجنة التجارة الفيدرالية، التي شنت حربًا شعواء على الشركات العملاقة بهدف تنظيم عملها وتقليم أظافرها، حيث حالت خان دون إتمام صفقات دمج عملاقة بين الشركات التكنولوجية الأمريكية، وهو ما كان من شأنه تقليل المنافسة، وتشجيع الاحتكار، ورفع الأسعار على المستهلكين.
ينضم إلى الامتيازات السابقة نوع آخر من الوعود الترامبية الأقرب إلى التهديد، حيث يخص إصلاح وإعادة تفسير “القسم 230” من قانون الآداب والاتصالات الذي يوفر حماية قانونية لشركات التواصل الاجتماعي التي تزيل محتويات تعتبر تمييزية أو كارهة أو عنيفة، في محاولة لإتاحة مزيد من الحرية للمستخدمين والعملاء لمشاركة آرائهم وأفكارهم دون أي حجر أو تهذيب أو مراجعة.
دفع هذا التهديد قادة بعض منصات التواصل الاجتماعي إلى الشروع في تغيير سياساتها لتتماشى مع رغبات ترامب؛ فقد ظهر مارك زوكربيرج، قائد مملكة ميتا، بتصريح صادم حول رغبة الشركة في تخفيف قيود التحقق من المعلومات (Fact Checking)، مغلفًا تلك الرغبة بمظهر ديمقراطي يتيح المجال للجميع للمشاركة بحرية، كما أضاف بُعدًا اقتصاديًا لهذه الرغبة، حيث يحاول التخفيف من عبء التكاليف التي تكبدتها الشركة، والتي بلغت حوالي 100 مليون دولار أمريكي في عام 2022 فقط.
كما أثمر تعهد ترامب بمنح مزيد من المساحة للذكاء الصناعي وإطلاق العنان للشركات العاملة في هذا المجال عن تحول دراماتيكي في موقف سام ألتمان وشركته “OpenAI”، فقد تبنت الشركة سياسة ترامب بشكل متزايد، مروجًا لها على أنها جزء من سياق “الذكاء الصناعي الأمريكي أولًا”، في محاكاة مباشرة لسياسة ترامب القومية “أمريكا أولًا”.
يعني هذا أن “OpenAI” تولي اهتمامًا مضاعفًا بالأمن القومي الأمريكي، بما يفتح المجال أمام انفتاح الشركة على إدارة ترامب بينما يغلق الأفق أمام متطلبات المجتمع الدولي والشعوب الأخرى.
في نفس السياق، انضمت إلى سياسة “أمريكا أولًا” شركات عملاقة أخرى مثل أمازون، التي أعلنت عن نيتها في الاستثمار بالاقتصاد الأمريكي وخلق فرص عمل للسوق الداخلية مع اقتراب عودة ترامب للبيت الأبيض، كما أعلنت جوجل عن تخصيص برامج تدريبية وأدوات محوسبة تهدف إلى دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة في قطاع التكنولوجيا الأمريكي، بما يعزز الاقتصاد المحلي.
من جهة أخرى، تسابقت شركات أخرى مثل مايكروسوفت وآبل وأمازون لتوسيع استثماراتها في الولايات المتحدة، حيث كشفت عن خططها لفتح مواقع جديدة في البلاد، وتعزيز قطاع المعلومات والتكنولوجيا، بما يتماشى تمامًا مع سياسة ترامب القومية “أمريكا أولًا”.
الشعبوية تنتصر
في تحقيق أجرته شبكة “إن بي سي” حول العلاقة المثيرة للريبة بين الرئيس السابق دونالد ترامب وما وصفته بـ”بارونات اليمين التكنولوجي”، تم رسم خريطة للمصالح المتشابكة التي تربط ترامب بثلاثة من كبار أعضاء هذه الشبكة التي تتبنى أيديولوجية اليمين واليمين المتطرف في الولايات المتحدة.
أطلق التحقيق على هؤلاء الثلاثة اسم “بيه بال مافيا”، نظرًا لكونهم جزءًا من شبكة ضخمة لتحويل الأموال المرتبطة بشركة “بيه بال”. ويشمل هذا الثلاثي كلًا من:
- إيلون ماسك: مالك شركتي تسلا وسبيس إكس، ورئيس شركة “إكس”.
- بيتر ثيل: الرأسمالي الأمريكي ومؤسس شركة “بيه بال”، وأحد مؤسسي شركات تكنولوجية بارزة مثل “فاوندرز فند” و”بالانتير”.
- دايفيد ساكس: المستثمر المعروف في قطاع التكنولوجيا الأمريكية.
أوضح التقرير أن الثلاثي البارز في مجال التكنولوجيا سيكون لهم دور مؤثر في إدارة ترامب القادمة، وسيساهمون بشكل كبير في صياغة السياسات واتخاذ القرارات، ليس فقط في المجال الاقتصادي، بل أيضًا في قضايا تتعلق بالنسيج الاجتماعي الأمريكي، والسياسة الخارجية، والعلاقات الدبلوماسية، وحتى السياسات البيئية.
بالإضافة إلى هؤلاء الثلاثة الكبار في الإدارة، كشف التقرير عن مجموعة من المستثمرين والشخصيات المؤثرة في قطاع التكنولوجيا اليميني المحافظ الذين تم تجنيدهم كمساعدين ومستشارين في مختلف الدوائر الحكومية، فقد عين ترامب جاكوب هيلبرج، مستشار شركة المقاولات الحكومية بالانتير تكنولوجي، في منصب وكيل وزارة الخارجية للنمو الاقتصادي والطاقة والبيئة، كما اختار جيم أونيل، الرئيس التنفيذي السابق لمؤسسة ثيل، لشغل ثاني أعلى منصب وظيفي في وزارة الصحة والخدمات الإنسانية.
ينضم إليهم جايل سلاتر لقيادة إنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار في وزارة العدل التي عملت لصالح عدد من الشركات التكنولوجية والإعلامية الكبرى مثل فوكس كورب وروكو وإنترنت أسوسييشن. وقد أعلن ترامب عن اختياره لسلاتر عبر منصته الاجتماعية “تروث سوشال”، مشيرًا بشكل مباشر إلى دور التنافسية العالية في قطاع التكنولوجيا، مؤكدًا على تحدي المبادرات الأصغر في هذا المجال وموضحًا تلميحًا قويًا إلى القوى اليمينية والمحافظة التي بدأت بالظهور مقارنة بالشركات الكبرى المتحكمة في التيار الليبرالي.
يشكل هذا التقارب فرصة لانتعاش الخطاب الشعبوي والمتطرف، وهو ما يبرع فيه ترامب وداعموه، والذين سيستفيدون من منصات وسائل التواصل الاجتماعي لتضخيم رسائلهم والتأثير على الرأي العام
كما سيتولى إميل مايكل، المدير التنفيذي السابق لشركة أوبر، أعلى وظيفة بحثية في البنتاغون، ما يعكس توجه ترامب في إحاطة نفسه بشخصيات ذات خلفيات تكنولوجية، حتى في المجالات التي لا ترتبط ارتباطًا مباشرًا بخبراتهم المهنية.
تتشاطر هذه المجموعة اليمينية، التي نشأت في بيئة تكنولوجيا تقدمية ومنفتحة، رؤية محافظة تتناغم مع سياسات ترامب المتمحورة حول حماية السوق الأمريكية وتحرير رأس المال من القيود الحكومية، كما أن أيديولوجيتهم الرأسمالية تعطي الأولوية لتحقيق الأرباح والمنافع على حساب البرامج الاجتماعية التي تدعمها القوى الليبرالية، مثل برامج التنوع والعدالة الاجتماعية، والسياسات البيئية الصديقة، والمبادئ الديمقراطية التي تقوم على التعددية والقبول.
الخطر المنتظر
من المتوقع أن تترك مجموعة التكنولوجيا الجديدة في إدارة ترامب بصمات واضحة على مجموعة من الملفات الشائكة، التي سيكون لها تأثير عميق ليس فقط على السوق الأمريكية ولكن على الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية بشكل عام.
من بين القضايا المنتظرة، ستكون هناك مسائل تتعلق بسوق العملات المشفرة، حيث من المرجح أن يشهد هذا القطاع مزيدًا من التحرير من القيود التنظيمية، كما يتوقع أن يتم إطلاق العنان للذكاء الاصطناعي دون قيود صارمة، ما قد يفتح الباب أمام مخاطر متزايدة في مجالات مثل الخصوصية والتوظيف، ومن المحتمل أيضًا أن يتم تسهيل الإعفاءات الضريبية للشركات الكبرى وتيسير الحصول على التراخيص البيئية، بما يضمن فوائد كبيرة لعمالقة التكنولوجيا.
على مستوى التشريع، سيشهد قطاع مكافحة الاحتكار إعادة صياغة شاملة، إذ من المتوقع أن تتراجع الرقابة الحكومية على عمليات الدمج والاستحواذ بين الشركات الكبرى، كما ستطرح قضايا في مجال الصناعات العسكرية، مع احتمال تقليص التدخل الحكومي في هذا القطاع، باتجاه تحرير رأس المال وتوسيع السوق بما يخدم مصالح الأفراد الأكثر ثراءً في المجتمع الأمريكي.
التقوقع الاقتصادي قد لا يضر بالاقتصاد الأمريكي وحسب، بل قد يتسبب في كساد اقتصادي عالمي، ما يضطر الدول الأجنبية إلى اللجوء لـ”حروب اقتصادية باردة” لحماية اقتصاداتها الوطنية
بعيدًا عن هذه الشركات العملاقة وشبكة المصالح التي تدور في فلكها، لا يبدو هذا التقارب بين الحزب الجمهوري وقطاع التكنولوجيا في الولايات المتحدة مريحًا أو مطمئنًا، فقد أبدت العديد من المؤسسات الحقوقية والمراقبين قلقًا بالغًا من المخاطر الجسيمة التي يفتحها هذا التحالف على مستوى المعلومات المغلوطة والإشاعات وخطاب الكراهية والتمييز.
إذ يشكل هذا التقارب فرصة لانتعاش الخطاب الشعبوي واليميني المتطرف، وهو ما يبرع فيه ترامب وداعموه، والذين سيستفيدون من منصات وسائل التواصل الاجتماعي ومحركات البحث لتضخيم رسائلهم، وتعزيز قدرة هذه الخطابات على التأثير في الرأي العام، بما يتجاوز قدرة الحكومات على التدخل أو المحاسبة.
علاوة على ذلك، فإن تخفيف القيود التنظيمية على الشركات الكبرى يساهم في زيادة الهوة بين الطبقات الاجتماعية ويعمق فجوة العدالة الاجتماعية، فبينما تدفع هذه السياسات في اتجاه تمكين الحيتان الاقتصادية الكبرى، فإنها تترك المستخدمين الأفراد والشركات الصغيرة في وضعية صعبة، حيث يواجهون بيئة احتكارية غير عادلة، تفتقر إلى الفرص البديلة، ما يؤدي إلى رفع الأسعار وتقييد الفرص أمام المبادرات الابتكارية الصغيرة، ما يضعف القدرة على الابتكار بعيدًا عن مصالح الكيانات الكبرى.
ناهيك بالتأثير العالمي الذي قد يحدث جراء هذا التحالف، حيث يُتوقع أن يوجه الخطاب السياسي نحو تعزيز الشعبوية والتحريض والتمييز العرقي، خاصة في ظل غياب آليات محاسبة واضحة في شركات التكنولوجيا التي تتعامل بشكل مباشر مع الجمهور، وعلى رأسها شركات التواصل الاجتماعي.
وعلى صعيد الاقتصاد العالمي، فإن التوجه نحو تقليص التنظيمات وفرض سياسات تفضيلية لصالح الشركات الكبرى قد يؤدي إلى تقييد الاقتصاد الأمريكي نفسه، وهو الذي يعد السوق التكنولوجي أحد أعمدته الأساسية، وهذا التقوقع الاقتصادي قد لا يضر بالاقتصاد الأمريكي وحسب، بل قد يتسبب في كساد اقتصادي عالمي، ما يضطر الدول الأجنبية إلى اللجوء لـ”حروب اقتصادية باردة” لحماية اقتصاداتها الوطنية، وقد يتطلب ذلك منها البحث عن أسواق بديلة، وبناء شراكات منافسة في الخارج.