في عالم السياسة والعلاقات الدولية، يوجد العديد من التحالفات والكثير من التشابكات والوصاية بين الدول، وفي أيامنا هذه يعدّ تحالف نظام الأسد مع داعمته الكبرى روسيا، من أبرز أشكال تلك التشابكات والوصايات، حيث تحافظ موسكو من خلال رجلها بشار على مصالحها ووجودها في الشرق الأوسط، سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا.
يوم أمس الأول، تبادل رئيس النظام السوري بشار الأسد، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، برقيات تهنئة بمناسبة الذكرى الـ75 للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين، حيث أكدت موسكو الدعم الروسي لصالح النظام في سوريا، وفي رسالته شدد الأسد على حرص حكومته في دمشق “على المضي قدمًا في تعزيز العلاقات والارتقاء بها في جميع المجالات بما يعود بالنفع المتبادل على البلدين ويحقق مصالحهما”، مثمنًا “وقوف روسيا إلى جانب سوريا في المحافل الدولية دفاعًا عن سيادتها وقرارها المستقل” على حد تعبيره.
تأتي هذه الذكرى السنوية من العلاقات مع توغل روسي في كل مفاصل أركان دولة الأسد بجميع مؤسساتها تقريبًا ويزداد يومًا بعد يوم، منذ أن تدخلت روسيا لحماية الأسد من السقوط عام 2015، فدخلت موسكو بسلاحها وفتكت بطائراتها بالمدن السوريّة مدمرًة مدينةً تلو الأخرى وليس آخرها ما يحصل من مساندة الأسد في معركته بحماة وإدلب وإرسال قوات برية ومشاركة قوات الطيران وفعل مجازر يومية بالسكان المدنيين هناك، في هذا التقرير سنعطي لمحة عن تاريخ العلاقات بين البلدين منذ بدئها في أربعينيات القرن الماضي.
تطور العلاقات
عام 1943 وقعت سوريا اتفاقًا مع ممثلي الاحتلال الفرنسي حينها لاستلام المصالح المشتركة من سلطة الانتداب، واستمرت المفاوضات حتى يوليو/تموز 1944، حينها تمكنت سوريا من الفوز باستقلالها، ويومها قام وزير الخارجية السوفيتي نيكولاي نوفيكوف، بالتوجه إلى سوريا وأعلن اعتراف الاتحاد السوفييتي باستقلال سوريا، واقترح ممثل الحكومة السورية حينذاك جميل مردم إقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين وتمت الموافقة عليه من الاتحاد السوفييتي وتعتبر هذه نقطة الانطلاقة بالعلاقات.
إلى ذلك أدى الاتحاد السوفييتي دورًا مهمًا بإقناع الولايات المتحدة لدعوة سوريا إلى مؤتمر سان فرانسيسكو عام 1945 لحملها على قبول سوريا للانضمام إلى هيئة الأمم المتحدة، من جهةٍ أخرى أبدى السوفييت في مجلس الأمن انزعاجًا شديدًا من عدم انسحاب فرنسا من الأراضي السورية سريعًا، وكانوا أول من أيد الجلاء الفرنسي عن البلاد عام 1946، وبتلك الفترة وجد الاتحاد فرصةً له في ظل غضب عربي عارم على السياسات الاستعمارية للإنجليز والفرنسيين ودخل ليوسع نفوذه في الشرق الأوسط ليصدر نفسه بمبادئ مناهضة الاستعمار الغربي.
في ديسمبر/كانون الأول 1957، وقعت سوريا والاتحاد السوفيتي اتفاقية للتعاون الاقتصادي، يتضمن مساعدة لسوريا بقيمة 300 مليون دولار، إضافةً لمساعدات تقنية وصناعية
إلا أن اعتراف السوفييت بقيام “إسرائيل” عام 1948، أدى إلى برود العلاقات بين البلدين، فالمسؤولون الروس كانوا يعتقدون أن قيام دولة لليهود ستكون منفذًا لهم إلى الشرق عبر يهودها الذين أرسلتهم واستوطنوا فلسطين، وبقيت العلاقات بين البلدين باردة حتى الإطاحة بحكم أديب الشيشكلي في دمشق عام 1954، حينها كانت روسيا تراجع سياستها وتعتمد سياسةً أكثر إيجابيةً تجاه العرب وتدعمهم في المحافل الدولية.
ومع وصول شكري القوتلي إلى الحكم في سوريا، بدأت العلاقات تتحسن اقتصاديًا، ورُفع مستوى التمثيل الدبلوماسي بين البلدين ليصبح على مستوى افتتاح السفارات، إلا أن هذا التحسن لم يدم طويلًا، حيث إن الوحدة بين مصر وسوريا لم تكن ترق لروسيا حينها باعتبار أنّها ستؤدي إلى إضعاف الشيوعية في سوريا، واستمرت العلاقات الراكدة بين الطرفين إلى حين حدوث انقلاب البعثيين على القوتلي ووضع نور الدين الاتاسي رئيسًا في مارس 1963، وبدأ العهد الجديد بين الاتحاد السوفيتي وسوريا.
عزّز صعود حافظ الأسد إلى السلطة عام 1971، العلاقة بين الجمهوريات السوفيتية وحزب البعث، كما عزز الأسد الأب سلطته في البلد بدعم من الاتحاد السوفيتي، وبقيت العلاقات السوفيتية السورية تتحسن وتتطور، وعقدت الصفقات والاتفاقيات في شتى المجالات، حتى انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث شكل الانهيار ضربة قاصمة لنظام حافظ الأسد، فقد كان الانهيار يعتبر فشلاً للفكر الشيوعي والاشتراكي وليس مجرد تفكك دولة، وهو ما أدى إلى انهيار الطروحات والأيديولوجية التي قام عليها نظام الأسد وحزب البعث الحاكم.
ميخائيل گورباتشوڤ يلتقي حافظ الأسد في موسكو
وعند انفراط عقد الاتحاد السوفييتي ووصول فلاديمير بوتين للحكم، ووفاة الأسد الأب وتوريث السلطة لابنه بشار، لم تتغير الحال كثيرًا فظلت روسيا هي الحليف الأكبر للأسد الابن، فلم يعد لموسكو حليف في الشرق الأوسط إلا دمشق، بعد احتلال العراق من الولايات المتحدة، ودأب بشار الأسد لزيارة موسكو تباعًا، ومع انطلاق الحراك الشعبي في سوريا لم يكن من روسيا إلا تأييد كبير للأسد بالمجالات كافة.
العلاقات الاقتصادية
في ديسمبر/كانون الأول من 1957، وقعت سوريا والاتحاد السوفيتي اتفاقية للتعاون الاقتصادي، يتضمن مساعدة لسوريا بقيمة 300 مليون دولار، إضافةً لمساعدات تقنية وصناعية، وصرح حينها نائب رئيس الوزراء السوري خالد العظم بأن الاتفاق “يحررنا من الاعتماد على القوى الأجنبية الإمبريالية”، وفي ديسمبر/كانون الأول 1966، تم الاتفاق مع الاتحاد السوفيتي على بدء أعمال البناء في سد الفرات.
بحسب غرفة تجارة دمشق فإن قيمة الاستثمارات الروسية المتراكمة في سوريا حتى 2011 تقدر بنحو 19 مليار دولار تتركز في قطاعات عدة منها الطاقة والسياحة والنقل، وفي 2005 وقع البلدان قرابة 43 اتفاقية ومذكرة تفاهم شملت الاتفاقات مجالات عدة منها الدفاع والصناعة والتجارة والسياحة والثقافة والطاقة، وقُلصت الديون السورية لروسيا في يونيو 2005 وتم من خلال اتفاقية شطب 73% من الديون المستحقة البالغة 13.4 مليار دولار مقابل موافقة الرئيس السوري تحويل قاعدة طرطوس إلى قاعدة عسكرية ثابتة للسفن الروسية التي تخشى روسيا فقدانها في حال سقوط النظام.
تشتري سوريا 10% من إجمالي صادرات الأسلحة الروسية ويشكل السلاح الروسي 90% من السلاح الذي يمتلكه الجيش السوري، وبلغت قيمة الصادرات العسكرية من روسيا إلى دمشق في الفترة ما بين عامي 1950 و1990 نحو 3.4 مليار دولار
وفي تقرير سابق لـ”نون بوست“، ذكر أنه عام 2010 بلغت قيمة الواردات السورية من روسيا 1.1 مليار دولار في حين بلغت الصادرات السورية 33 مليون دولار، أما بعد بداية الحراك الشعبي في 2011 تم توقيع اتفاقات بين البلدين في مجال الطاقة حصلت بموجبها شركة سيوز نفط غاز الروسية على حق التنقيب عن النفط والغاز في المنطقة الممتدة من جنوب شاطئ طرطوس إلى محاذاة مدينة بانياس وبعمق عن الشاطئ يقدر بنحو 70 كيلومترًا وبمساحة إجمالية تصل إلى نحو 2190 كيلومترًا مربعًا.
وقدمت روسيا في السنوات الأخيرة بعضًا من القروض والمساعدات لحكومة دمشق كان من أهمها في شباط 2012، حيث مُنح النظام السوري قرض بقيمة 3.5 مليار دولار، وعام 2017 قرضان بقيمة 600 و250 مليون يورو من أجل إصلاح البنية التحتية، وفقًا لتقرير على موقع “جيرون“.
وفي أبريل 2018، صادق بشار الأسد على عقد مدته 50 عامًا تقوم بموجبه شركة سترويترانسگاز لوجستيك باستخراج خامات الفوسفات من مناجم الشرقية الضخمة في تدمر وسط سوريا، التي تقدر احتياطاتها بـ1.8 مليار طن، من جهة أخرى أعلنت الحكومة السورية في أبريل 2019 تأجيرها ميناء طرطوس للحكومة الروسية، ويعتبر ميناء طرطوس من أكبر موانئ سوريا، حيث يشغل مساحة 3 ملايين متر مربع.
الدعم الروسي العسكري
تشتري سوريا 10% من إجمالي صادرات الأسلحة الروسية ويشكل السلاح الروسي 90% من السلاح الذي يمتلكه الجيش السوري، وبلغت قيمة الصادرات العسكرية من روسيا إلى دمشق في الفترة ما بين عامي 1950 و1990 نحو 3.4 مليار دولار حسب إحصاءات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام في السويد، وتضم هذه الصادرات طائرات ومنظومات دفاعية جوية ومنظومات صاروخية مضادة للسفن والعديد من الأسلحة الأخرى.
كما أنه يوجد في ميناء طرطوس قاعدة بحرية روسية أنشئت حسب اتفاقية وقعت عام 1971 بين البلدين، وتأسست القاعدة لدعم الأسطول السوڤيتي في البحر المتوسط آنذاك، وفي عام 2008 وافقت سوريا على شراء طائرات “ميغ 29 إس إم تي” المقاتلة من روسيا، ونظم “بانتسير إس1 إي” الدفاعية، ونظم صواريخ “إسكاندر” الدفاعية، وطائرات “ياك 130″، وغواصتين من طراز “آمور 1650″، وبلغت قيمة عقود سوريا مع روسيا عام 2011 أربعة مليارات دولار.
وفي عام 2018 أعلنت روسيا توريد منظومة “إس – 300” لسوريا بهدف زيادة أمن العسكريين الروس، بعد حادث سقوط الطائرة الروسية من طراز “إيليوشين – 20″، فوق مياه المتوسط على بعد 35 كيلومترًا من الساحل السوري قبالة قاعدة حميميم الجوية، وعلى متنها 15 عسكريًا روسيًا، الأمر الذي أثار سخطاً أمريكيًا وإسرائيليًا.
التدخل العسكري المباشر
في مارس 2015 أكد بشار الأسد أن دمشق ترحب بوجود عسكري روسي كبير في موانئها، ومنذ أغسطس من ذلك العام أصبح للروس قاعدة عسكرية جوية في حميميم قرب مدينة اللاذقية السورية، وتعتبر القاعدة الثانية بعد قاعدة في ميناء طرطوس. وفي سبتمبر بدأ الطيران الحربي الروسي حملة غارات جوية دعمًا للأسد الذي تراجع أمام ضربات الفصائل المعارضة. وفي عام 2016 صادق بوتين على اتفاق بين دمشق وموسكو على نشر قوات جوية روسية في مطار حميميم العسكري إلى أجل غير مسمى.
ويقدر عدد الجنود الروس العاملين في سوريا بنحو 3 آلاف جندي، بينهم خبراء وطيارون وعاملون ولوجستيون ومتابعون في غرف الرصد والتنسيق، إضافة للبحارة بميناء طرطوس، غربي سوريا، وفوج من قوات النخبة البرية الموكلة إليها مهمة حماية القواعد العسكرية لموسكو في سوريا. وذكر خبراء عسكريون أن الأسطول الجوي الروسي العامل في سوريا يتراوح عدد طائراته بين 40 إلى 60 مقاتلة وقاذفة ومروحيات هجومية، بينما ذكر آخرون أنها تجاوزت حاجز الـ100 طائرة.
وفي سياق متصل كُثرت التصريحات من المسؤولين الروس أن الفترة القتالية للجيش الروسي في سوريا كانت بمثابة تدريب قتالي للجنود وتجريب للأسلحة المنتجة في موسكو، حيث كشف وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو أن قوات بلاده “جربت” 162 نوعًا جديدًا من الأسلحة والذخائر في الحرب على الأرض السورية، وأدلى للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في عام 2016 بتصريحات مؤداها أن موسكو استخدمت سوريا كحقل تجارب لأسلحتها، وأن هذه التجارب ساهمت في كشف “بعض عيوب” الأسلحة المختبرة.
وكانت الشبكة السورية لحقوق الإنسان قد وثقت مقتل 6239 مدنيًا على يد القوات الروسية، بينهم 1804 أطفال، منذ تدخلها العسكري في سوريا وحتى نهاية عام 2018، ونفذت روسيا 321 مجزرة، وتوثق الشبكة ما لا يقل عن 954 حادثة اعتداء على مراكز حيوية مدنية من بينها 176 على مدارس و166 اعتداءً على منشآت طبية، بالإضافة إلى 55 اعتداءً على أسواق.
ونفذت القوات الروسية ما لا يقل عن 232 هجومًا بالقنابل والذخائر العنقودية، إضافة إلى 125 هجومًا بأسلحة حارقة، منذ تدخلها، وقتل على يد القوات الروسية 29 من الكوادر الطبية وعناصر الدفاع المدني، بالإضافة إلى مقتل 19 من الكوادر الإعلامية، فيما يقطن المنطقة التي تستهدفها روسيا يوميًا بطائراتها نحو 4 ملايين مدني، بينهم مئات الآلاف ممَّن هجّرهم النظام من مدنهم وبلداتهم على مدار السنوات الماضية، في عموم البلاد.
الجدير بالذكر أيضاً، أن روسيا استخدمت “حق النقض” الفيتو، 12 مرة، لمنع صدور قرارات عن مجلس الأمن بخصوص سوريا، منذ اندلاع الثورة السورية في العام 2011 من بينها 6 قرارات ذات علاقة باستخدام السلاح الكيماوي في سوريا، يأتي ذلك في ظل الدعم الذي على ما يبدو أنه لن ينتهي طالما أن الأسد يحفظ المصالح الروسية على أرضه جيدًا، ويعطي موسكو ما تريده وزيادة مقابل بقائه على كرسيه، حتى إن الأسد صار يبدو كعامل لدى القيادة الروسية وبدا ذلك جليًا في كثير من التصرفات بحقه عند لقاءاته مع بوتين ووزير دفاعه.