تواجه روسيا تحديات كبيرة في أعقاب سقوط نظام بشار الأسد في سوريا والذي أدى إلى عرقلة مشاريع موسكو في الشرق الأوسط وأفريقيا، حيث كانت تمتلك ميناءً عسكريًا وقاعدة جوية على الساحل السوري، بمثابة محطة لإدارة وتسهيل عملياتها في الشرق الأوسط وجنوب الصحراء الكبرى.
سقوط بشار الأسد كان أشبه بزلزال سياسي هزّ أروقة الكرملين ومثّل خسارة لا تعوض لروسيا التي استثمرت في إنقاذه من الثوار بين عامي 2015 و2017، بيد أنها فشلت في حمايته من عملية “ردع العدوان” التي خططت لها الفصائل السورية بدقة، وسط انشغال روسيا بحربها مع أوكرانيا، فعجزت هذه المرة عن نجدته ما ألحق ضررًا كبيرًا بمكانة روسيا كقوة عالمية، وأثّر على هيبة رئيسها فلاديمير بوتين.
منذ إطلاق الفصائل الثورية عملية “ردع العدوان” في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، فوجئت بجيش منهار المعنويات فاقد لإرادة القتال، خاصة مع غياب الحلفاء على الأرض (حزب الله وإيران)، بسبب النكسات التي حدثت لهما مؤخرًا، كما أضعفت الحرب مع أوكرانيا قدرة روسيا التي وجدت نفسها غارقة في حرب استنزاف مع الدولة المدعومة من الغرب.
بعد سقوط الأسد، حاولت موسكو التعامل ببراغماتية مع حكام سوريا الجدد الذين كانت تصفهم بـ”الإرهابيين”، إذ تسعى لرفع الحظر عن أعمال المنظمات المدرجة على قوائم الإرهاب، بما في ذلك هيئة تحرير الشام.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صرح خلال مؤتمره الصحفي السنوي الكبير، إن روسيا جاءت إلى سوريا “بغية عدم إنشاء جيب إرهابي هناك، ولقد حققنا هدفنا”، مشيرًا إلى أنّ “الجماعات التي كانت تقاتل القوات الحكومية خضعت لتغييرات داخلية”.
وفيما يتعلق بمصير القاعدتين العسكريتين الروسيتين في سوريا، قال بوتين: “اقترحنا أن يستخدم شركاؤنا قاعدتنا الجوية في سوريا لأغراض إنسانية، وكذلك القاعدة البحرية”، مضيفًا: “علينا أن نبحث ما إذا كنا سنحتفظ بقواعدنا العسكرية في سوريا”.
وأشار خلال المؤتمر إلى كيفية تطوير علاقات موسكو مع القوى السياسية التي تسيطر على الوضع في دمشق، مؤكدًا أهمية أن “تتوافق مصالحنا”.
كما لفت إلى أن روسيا أجلَت “4 آلاف مقاتل إيراني من سوريا”، كانوا يقاتلون في صفوف قوات الأسد.
وجود روسي محدود في سوريا
رغم مساعي موسكو لمغازلة الإدارة السورية الجديدة وجهودها للإبقاء على قواعدها، فإنّه من المرجح، حتى لو قبلت الحكومة السورية بوجود عسكري روسي، أن الوضع لن يكون كما كان عليه في عهد النظام المخلوع، إذ كانت روسيا على مدى العقد الأخير أبرز اللاعبين في المشهد السوري إلى جانب إيران، ولن ينسى لها الثوار الدور الذي لعبته في قمعهم، والمجازر التي ارتكبتها في حق الشعب السوري منذ بداية تدخلها في سبتمبر/ أيلول 2015.
وفي أحسن الأحوال يمكن أن تقبل الإدارة السورية الجديدة بوجود عسكري روسي محدود في قاعدة طرطوس أو حميميم، على أن تقتصر مهامه على أدوار لوجستية مثل تزويد القطع البحرية الروسية بالوقود، والإشراف على عمليات روسيا في مناطق نفوذها بغرب أفريقيا.
وفي الوقت ذاته، لا يستبعد إنهاء الوجود الروسي في سوريا بشكل كامل، حيث لم يؤكد بوتين في خطابه الأخير الوصول إلى تفاهمات مع الإدارة السورية الجديدة في هذا الصدد، مكتفيًا بالقول إن روسيا تبحث ما إذا كانت ستحتفظ بقواعدها العسكرية في سوريا أم لا.
ويتوقع بعض المراقبين أن تعتمد روسيا على تركيا في محاولة إقناع الإدارة السورية الجديدة، وأنها لن تمانع من شروط عدم استخدام القواعد ضدّ أي طرف داخل البلاد، بل لتسخيرها فقط لتحقيق أهداف لوجستية، مقابل تعديل موقف موسكو من السلطات الجديدة في سوريا.
ليبيا أرجح البدائل
يرى سيرجي ميلكونيان، وهو زميل باحث في معهد أبحاث السياسات التطبيقية في أرمينيا، أن روسيا تسعى لإيجاد نقاط بديلة لسوريا في أفريقيا، ويعتقد أن “الخيار الأكثر ملاءمة هو شرق ليبيا”، حيث “كثفت روسيا وجودها منذ ربيع عام 2024، ونقلت إليه الأسلحة والمعدات من سوريا”، مشيرًا إلى أهمية موقع ليبيا على البحر المتوسط على حدود دول أفريقية ما “يمنحها ميزة على الدول الأخرى”.
ورجح الباحث الروسي في دراسة نشرتها مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، اختيار موسكو ليبيا لتكون بديلًا لقواعدها بسبب نفوذها هناك مع الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، إضافة إلى كون ليبيا دولة غنية بالثروات الطبيعية، والغاز بشكل خاص، وتعدّ إحدى الدول المصدّرة للمادة إلى أوروبا من بوابة إيطاليا، وفي إطار صراع الطاقة والغاز بين روسيا وأوروبا، فإن الأولى تفتّش عن مصادر للسيطرة عليها.
ويتوقع مليكونيان استمرار تنامي اعتماد روسيا على تركيا للحصول على الفرص اللوجستية، مشيرًا إلى أن وصول موسكو إلى ليبيا لن يكون ممكنًا إلّا عبر مضيقَي الدردنيل والبوسفور، الخاضعَين إلى السيطرة التركية.
وأظهرت صور الأقمار الاصطناعية التي التقطتها شركة “ماكسار تكنولوجيز” الأمريكية، شروع روسيا في نقل معدّات عسكرية من سوريا بعد 6 أيام من إسقاط الأسد.
ونقلت صحيفة “التلغراف” عن مسؤولين أمريكيين ومسؤول غربي مطّلعين على معلومات استخباراتية، أن روسيا بدأت بسحب كمية كبيرة من المعدّات العسكرية والقوات من سوريا، وأن الروس بدأوا بنقل الأصول البحرية من سوريا إلى ليبيا، حيث زادوا ضغطهم على خليفة حفتر لتأمين مطالبتهم بميناء في بنغازي.
ووفقًا للمصدر السابق، كانت طائرتان للنقل العسكري الثقيل من طراز “AN-124″، موجودتين في قاعدة حميميم، ومقدّمتهما مفتوحة، لتحميل معدّات، وفي القاعدة نفسها جرى تفكيك مروحية هجومية من طراز “Ka-52″، ما قد يشير إلى استعدادات لنقلها، وفي الوقت نفسه جرت تعبئة أجزاء من وحدة الدفاع الجوي “S-400″، وهي نظام صواريخ أرض-جو روسي للنقل.
عين على السودان
وإلى جانب ليبيا، فمن المتوقع أن يكون السودان وجهة نفوذ أيضًا لروسيا بسبب موقعه الاستراتيجي على البحر الأحمر بين مضيق باب المندب وقناة السويس. كما يشترك في حدوده الطويلة مع مصر وليبيا، فضلًا عن حدوده الممتدة مع منطقتي القرن الأفريقي والساحل الغنيتَين بالثروات الطبيعية، حيث تمتلك روسيا نفوذًا متزايدًا في منطقة الساحل بعد النكسات التي تعرضت لها فرنسا.
التودد إلى روسيا بدأه الرئيس المخلوع عمر البشير في آخر عام له في الحكم، قبل اندلاع الثورة الشعبية التي أطاحت به، حيث حاول مقايضة بقائه في السلطة بتقديم عرض سخي لروسيا يتمثل في إنشاء قاعدة عسكرية بحرية في بورتسودان مقابل “الحماية من الولايات المتحدة”.
وحتى قبل سقوط الأسد، كانت روسيا تسعى لترسيخ وجودها على سواحل البحر الأحمر، والبحث عن موطئ قدم في القرن الأفريقي وسط مشهد مليء بالتحولات السياسية والتنافس بين القوى الإقليمية والدولية حول البحر الأحمر.
منطقة القرن الأفريقي، بأهميتها الجيوسياسية، ظلّت مسرحًا للتنافس. على سبيل المثال، تستضيف جيبوتي على أراضيها قواعد عسكرية فرنسية وأمريكية وصينية وإيطالية. أما الصومال، فتحتضن قاعدة تركية تُعدّ الأكبر من نوعها لتركيا في العالم. في حين أن إريتريا كانت تستضيف قاعدة إماراتية قبل أن تتوتر العلاقات بين البلدين عام 2022. كما توجد قواعد أمريكية وبريطانية في كينيا.
بعد سقوط عمر البشير، أعلنت قيادة القوات المسلحة السودانية عزمها مراجعة الاتفاق مع روسيا بشأن إنشاء القاعدة. ورغم نفي رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان، الجنرال عبد الفتاح البرهان، أن تكون الخرطوم قد ألغت قاعدة البحرية الروسية في البحر الأحمر أو تعرّضت لضغوط أمريكية بهذا الصدد، إلا أن المؤشرات تشير إلى أن الموقف السوداني جاء نتيجة ضغوط أمريكية، خاصة بعد إزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب واستعادة الولايات المتحدة علاقاتها الدبلوماسية مع الخرطوم بشكل كامل.
وبعد اندلاع حرب أبريل/نيسان 2023، توقع العديد من المراقبين أن تسارع الحكومة السودانية إلى إبرام اتفاق القاعدة البحرية مع روسيا، نظرًا لحاجتها الملحة للسلاح والذخائر، والأهم من ذلك، لنظام دفاعي متطور يتيح لها التصدي لهجمات قوات الدعم السريع، التي تزودها دولة الإمارات بالمسيرات والصواريخ. ومع ذلك، يبدو أن الحكومة السودانية لا تزال مترددة بشأن قبول الصفقة الروسية، والتي قيل إنها تتضمن تزويد الجيش السوداني بأحدث أنظمة الدفاع الجوي على الإطلاق، نظام إس-400 تريومف، وفقًا لتقارير وكالة “بلومبيرغ“.
بحسب بلومبرغ في الوقت الذي تنتهك فيه المسيرات الإماراتية والتشادية الأجواء السودانية، رفض البرهان عرضا روسيا بتزويد الجيش السوداني بنظام الدفاع الجوي الأحدث والأكثر تطورا على الإطلاق نظام إس-400 تريومف بحثا عن شهادة حسن السيرة والسلوك لدى الغرب https://t.co/bc2QwTaWP8 pic.twitter.com/3UWFpyo82c
— Yasser (@yasseralfadol) December 18, 2024
لكنّ السفير السوداني في موسكو محمد سراج رفض ما ورد في تقرير الوكالة الأمريكية، مبينًا أن بلاده تدرس الاتفاق بشأن “إنشاء قاعدة عسكرية روسية على البحر الأحمر”، وهو مشروع منافس للقاعدة الأمريكية في جيبوتي على ضفاف البحر.
وقال السفير في حديث لوكالة “ريا نوفوستي”: “هذه تقارير كاذبة، وأعتقد أنها مضللة. العلاقات بين السودان وروسيا الآن في أعلى مستوى، والجانبان حريصان على تعزيزها وتطويرها في كافة الجوانب. وفي هذا السياق، ننظر في الاتفاق على بناء قاعدة بحرية روسية في السودان”.
وليس من المستبعد أن يواصل السودان سياسة مسك العصا من المنتصف في شأن منح روسيا القاعدة البحرية، حيث يرفض اتخاذ قرار حاسم بشأن الموضوع خوفًا من رد فعل عنيف من الولايات المتحدة التي لا يزال الجيش السوداني يحاول استمالتها، فقد أشاد الأسبوع الماضي بالعقوبات التي فرضتها واشنطن على قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي”، وتوصيفها الجرائم التي ارتكبتها قواته بالإبادة الجماعية.
ومع ذلك يُنظر إلى أنّ الجولة التي أجراها رئيس مجلس السيادة قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان إلى منطقة الساحل مؤخرًا، بأنها تأتي في إطار الانفتاح والتشاور مع دول حليفة لروسيا خاصة مالي التي بدأ جولته منها، حيث عبّر رئيس مالي عن تضامنه مع السودان فيما يتعرض له من استهداف في أمنه واستقراره وطمعًا في الموارد الضخمة التي يتمتع بها، مؤكدًا استعداد بلاده للتنسيق مع السودان لمحاربة الجماعات الإرهابية.
وما بين التفاوض مع الإدارة السورية الجديدة على وجود عسكري روسي محدود، أو البحث عن بدائل أخرى في ليبيا أو السودان أو غيرهما، يبقى النفوذ الروسي على المحك، فما خسرته موسكو من سقوط الأسد لا يمكن تعويضه بسهولة إذ باتت عملياتها في منطقة البحر المتوسط والشرق الأوسط ووسط أفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى، مهددة بسبب السقوط غير المتوقع لبشار الأسد الذي كان يمثل القاعدة الثابتة لروسيا.
والخسارة الأكبر والأكثر تهديدًا لروسيا تتمثل في تأثر الفيلق الأفريقي (مجموعة فاغنر سابقًا)، المتمركز في مالي وبوركينا فاسو والنيجر وجمهورية أفريقيا الوسطى ومؤخرًا تشاد، بحسب بيفرلي أوتشينغ، الخبير الأمني في شركة “كونترول ريسكس” المتخصصة بالاستشارات المتعلقة بالمخاطر.
حيث قال أوتشينغ في تصريح لـ”بي بي سي”: “لقد رأينا تنظيم القاعدة في مالي يحتفل بالأحداث في سوريا، وينظر إليها باعتبارها وسيلة محتملة لتقويض التعاون بين روسيا ومالي”.