هاهي الحرب في غزة توشك أن تضع أوزارها، وأن يُسدل الستار على واحدة من أبشع حروب الإبادة التي شهدها العصر الحديث، تلك الحرب التي ارتكب فيها جيش الاحتلال الإسرائيلي كل الجرائم ضد الإنسانية، قتل وحرق وتهجير وتدمير ونزوح وتشريد وتجويع وتعطيش وترهيب، استهداف ممنهج لكل مقومات الحياة، مدارس ومشافي ومنازل ومراكز إيواء.
470 يومًا كانت فيها غزة تحت نيران القصف الإسرائيلي، منذ 23 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى الأحد 19 يناير/كانون الثاني 2025، حيث دخول اتفاق وقف إطلاق النار الموقع بين حركة المقاومة حماس وحكومة الاحتلال حيز التنفيذ، خلفت ورائها ما يقرب من 47 ألف شهيد، معظمهم من الأطفال والنساء، وعشرات الآلاف من الجرحى، وتشريد ما يزيد عن مليوني فلسطيني، وتدمير نحو 90% من بنية القطاع، وعشرات العائلات التي مُحيت من السجلات المدنية.
ما يقرب من 16 شهرًا قدم خلالها شعب غزة تجربة فريدة في الصمود والتحدي، حتمًا ستكون أسطورة تُحكى للأجيال القادمة، رغم الكلفة الباهظة والثمن المكلف، الذي دفعوه ثمنًا لحريتهم ودفاعًا عن أرضهم، استطاعوا خلالها بأرواحهم الزكية ودمائهم الطاهرة أن يجهضوا مخططات الجنرالات والتهجير التي كان يؤمل الاحتلال نفسه بتنفيذها فوق تراب غزة، فإذ به يواجه شعبًا يعشق الموت كما يعشق أعداءه الحياة.
وبينما كان الجميع يحبس الأنفاس ترقبًا لما ستُسفر عن جولة المفاوضات هذه المرة بعد عشرات الجولات التي أجهضها رئيس حكومة الاحتلال ويمينه المتطرف، أعلن رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، الأربعاء 15/1/2025، وبشكل رسمي، التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة بين حركة حماس والاحتلال الإسرائيلي، قائلًا: “يسر قطر وأميركا إعلان نجاح جهود الوساطة بوقف إطلاق نار دائم بين الطرفين”، مضيفًا: “مع موافقة الجانبين على الاتفاق، جارٍ العمل على آليات التنفيذ (…) تنفيذ الاتفاق يبدأ يوم الأحد المقبل”.
بهذا الإعلان آن لأهل غزة أن يتنفسوا الصعداء بعد مئات الأيام التي عاشوها تحت غبار الحرب وتناثر الأشلاء وانعدام مقومات الحياة، ورغم التخوفات المحتملة بشأن عرقلة الاحتلال تنفيذ الاتفاق عبر ادعاءاته المزعومة والمعروفة، إلا أن الأجواء في مجملها تشير إلى صعوبة نكوصه عن الصفقة في ظل الضغوط الأمريكية الممارسة لإنهاء هذا الملف قبل تسلم الرئيس الأمريكي الفائز في الانتخابات الأخيرة، دونالد ترامب، السلطة رسميًا في العشرين من الشهر الجاري.
وفي هذه الجولة الخاطفة، نعرّج على أبرز المحطات التي شهدتها الحرب الأطول في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، منذ بداية عملية الطوفان في السابع من أكتوبر 2023 والتي أعادت ترتيب خارطة المنطقة بشكل كبير، وصولًا إلى هذه اللحظة حيث الإعلان رسميًا عن التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار وصفقة تبادل بين المقاومة وحكومة الاحتلال.
من الطوفان للاتفاق.. أبرز المحطات
– السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.. شنت المقاومة الفلسطينية أكبر عملياتها في تاريخ الصراع مع الكيان الإسرائيلي، تحت عنوان “طوفان الأقصى”، حيث استهدفت مواقع وتحصينات عسكرية إسرائيلية بنحو 5 ألاف صاروخ وقذيفة في 20 دقيقة فقط، لتحطم بتلك العملية أسطورة السياج الحدودي وأنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية.
في ذات اليوم أعلن جيش الاحتلال عن بدء عمليته ضد القطاع والتي أسماها “السيوف الحديدية” حيث قصف قطاع غزة بالصواريخ والطائرات مما أسفر عن سقوط العشرات من الشهداء، لتبدأ المعركة مبكرًا، تلك المعركة التي لم يتوقع أحد أن تستمر كل هذه الفترة وأن يصمد الفلسطينيون كل تلك الأشهر.
– الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023.. دخل حزب الله اللبناني على خط الأزمة، كجبهة إسناد داعمة للقطاع، حيث استهدف 3 مواقع إسرائيلية في منطقة مزارع شبعا بالصواريخ والمدفعية، معلنًا عن مسؤوليته إزاء هذا الاستهداف الذي حوله لطرف أساسي في تلك المعركة.
–الثالث عشر من أكتوبر/تشرين الأول 2023.. الكيان الإسرائيلي يطلب من سكان مدينة غزة التي يُقدر عددهم بنحو مليون شخص بالإخلاء الفوري والتوجه جنوبًا، لتبدأ أولى موجات النزوح والتشريد لسكان القطاع.
–السابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول 2023.. جيش الاحتلال يرتكب مجزرته الإجرامية بحق المستشفى الأهلي المعمداني في حي الزيتون بمدينة غزة، مما أدى إلى استشهاد نحو 500 فلسطيني، أغلبهم من الأطفال، فيما أصيب المئات غيرهم، لتبدأ موجة المجازر التي تستهدف المشافي والمراكز الصحية.
–التاسع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.. جماعة أنصار الله الحوثي اليمينة تدخل على خط الأزمة، كجبهة إسناد ثانية للقطاع، حين استهدفت بصواريخ لها وطائرات مسيرة الكيان المحتل، لكن إحدى السفن التابعة للبحرية الأمريكية اعترضت تلك الصواريخ فوق البحر الأحمر، لتعلن الجماعة بعدها استمرار استهدافها للاحتلال قصفًا، ولسفنه منعًا.
–السابع والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول 2023.. يشن جيش الاحتلال هجومه البري داخل قطاع غزة في أول اختبار حقيقي لقدرات المقاومة، لكنه فوجئ بتصدٍ غير متوقع، وخسائر فادحة أوقعتها حماس والجهاد في صفوفه.
–الخامس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2023.. اقتحم جيش الاحتلال مجمع الشفاء الطبي، أكبر منشأة صحية في القطاع، وذلك بعد حصار دام لعدة أيام، مما أسفر عن خروج المجمع رويدًا رويدًا عن الخدمة وجميع مستشفيات القطاع لاحقًا، في إصرار ممنهج على قتل كل مقومات الحياة.
–الحادي والعشرين من نوفمبر/تشرين الأول 2023.. أعلنت كل من حماس والكيان الإسرائيلي عن هدنة مؤقتة لمدة أسبوع، تتضمن إطلاق سراح بعض المحتجزين الإسرائيليين لدى المقاومة (50 محتجزًا دون سن 19 عامًا) نظير عدد من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال (150 امرأة وقاصرًا)، لكن سرعان ما انتهت تلك الهدنة لتعاود “إسرائيل” عملياتها العسكرية بشكل أكثر إجرامًا ووحشية.
–الرابع من ديسمبر/كانون الأول 2023.. شنت “إسرائيل” هجومها البري في جنوب قطاع غزة، على مشارف مدينة خان يونس، رغم التحذيرات العربية والغربية من تلك الخطوة التي أدت إلى نزوح وتشريد عشرات الالاف من الفلسطينيين.
– الثاني من يناير/كانون الثاني 2024.. تغتال “إسرائيل” نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، صالح العاروري، في العاصمة اللبنانية بيروت، خلال استهداف العقار الذي كان يجتمع فيه مع عدد من القادة.
–السادس والعشرين من يناير/كانون الأول 2024.. جنوب أفريقيا ترفع دعوة أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي تتهم فيها جيش الاحتلال بارتكاب جرائم حرب ضد القطاع، فيما تأمر المحكمة الكيان المحتل بمنع أعمال الإبادة الجماعية.
–التاسع والعشرين من فبراير/شباط 2024.. ترتكب “إسرائيل” مجزرتها المعروفة بـ “مجزرة الطحين” حين فتحت النار على المدنيين أثناء محاولتهم الحصول على مواد غذائية من شاحنات المساعدات على شارع الرشيد عند دوار النابلسي، غرب مدينة غزة، مما أدى إلى استشهاد 112 مدنيًا فلسطينيًا وإصابة ما لا يقل عن 760 آخرين.
–السابع من مارس/أذار 2024.. أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن عن بناء رصيف عائم على شواطئ غزة لتوصيل المساعدات إلى سكان القطاع، لافتًا أن العمل في هذا المشروع سيبدأ في مايو/ أيار من نفس العام، لكنه لم يستمر طويلًا، حيث أطاحت به الأعاصير والأمواج إلى داخل البحر.
–الأول من أبريل/نيسان 2024.. استهدفت صواريخ الاحتلال قنصلية إيران بحي المزة في العاصمة السورية دمشق، ما أدى إلى اغتيال رجال من النخبة في فيلق القدس التابع للحرس الثوري على رأسهم الجنرال محمد رضا زاهدي وآخرين.
–السادس من مايو/ أيار 2024.. تعلن حركة حماس موافقتها على الخطة التي قدمها الرئيس الأمريكي جو بايدن لإنهاء القتال في القطاع، لكن “إسرائيل” قالت إنها لم توافق على هذا النص، لتواصل عملياتها وتعليماتها بإخلاء أجزاء من رفح من الفلسطينيين وإجبارهم على النزوح.
–الثلاثين من يوليو/تموز 2024.. اغتالت “إسرائيل” القائد العسكري في حزب الله، والساعد الأيمن لحسن نصر، الجنرال فؤاد شكر، المسؤول عن العمليات ضد الاحتلال، وذلك في غارة إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت.
–الحادي والثلاثين من يوليو/تموز 2024.. تغتال “إسرائيل” رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، بقنبلة جرى تفجيرها عن بعد، خلال وجوده في العاصمة الإيرانية طهران للمشاركة في مراسم تنصيب الرئيس مسعود بزشكيان.
–السادس عشر من سبتمبر/أيلول 2024.. تشن “إسرائيل” هجومها الأشرس على حزب الله في لبنان، من خلال تفجيرات أجهزة اللاسلكي “البيجر” عن بعد، ما أدى لمقتل العشرات وإصابة المئات، وأحدث هزة عنيفة في صفوف أنصار الحزب اللبناني المخترق أمنيًا من الجانب الإسرائيلي.
–السابع والعشرين من سبتمبر/أيلول 2024.. تغتال “إسرائيل” الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، مع عدد من قيادات الحزب في سلسلة غارات هي الأعنف منذ اندلاع الصراع بين الجانبين، لتكون بذلك الضربة الأكثر إيلامًا التي تلقاها الحزب ودفعته حتمًا لإعادة تقييم المشهد من حيث استمراره كجبهة إسناد لغزة.
–الثلاثين من سبتمبر/أيلول 2024.. يعلن جيش الاحتلال عن عمليته البرية في الجنوب اللبناني، ليواجه مقاومة شرسة كبدته الكثير من الخسائر حينها، لكنه أصر على استكمال العملية المكلفة.
–الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 2024.. شنت القوات الإسرائيلية عمليتها البرية الموسعة في شمال غزة، استهدفت في المقام الأول نقاط تمركز المقاومة في مخيمات جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا، وهي العملية التي مارست فيها “إسرائيل” كافة أنواع الحصار والتنكيل لإجبار سكان الشمال على النزوح تنفيذًا لمخطط الجنرالات الذي أجهضه الفلسطينيون بثباتهم وصمودهم وتشبثهم ببيوتهم ومناطقهم رغم الكلفة الباهظة.
–السادس عشر من أكتوبر/تشرين الأول 2024.. تغتال “إسرائيل” زعيم حركة حماس، يحيى السنوار، أثناء مطاردة بينه وبين عناصر الاحتلال في رفح، حيث ارتقى القائد بزيه العسكري، مدافعًا عن أرضه، مقبلًا غير مدبر، ليفند بهذا الاستهداف الشريف كل الأكاذيب التي رددها المحتل وأعوانه من صهاينة العرب حول حياة القائد وتقدمه لصفوف القتال في تلك معركة التحرير المقدسة.
–الحادي والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 2024.. تصدر الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق كل من رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه- أنذاك- يوآف غالانت والقائد في حركة حماس محمد دياب إبراهيم المصري (المعروف باسم الضيف) بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.
–السابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 2024.. “إسرائيل” وحزب الله يتفقان على وقف إطلاق النار في لبنان مقابل وقف الحزب عمليات التي تستهدف الكيان المحتل، وبذا يخرج الحزب عن محور الإسناد لغزة لتصبح وحيدة في مواجهة جيش الاحتلال مع بعض التواجد النسبي للجبهة اليمنية.
–الثاني من ديسمبر/كانون الأول 2024.. الرئيس الأمريكي الفائز في الانتخابات الأخيرة، دونالد ترامب، يحذر من أن الشرق الأوسط سيشهد عواقب وخيمة إذا لم يتم إطلاق سراح الرهائن في غزة قبل تنصيبه رسميًا في 20 يناير/كانون الثاني 2025، ثم أعاد هذا التحذير مجددًا في 16 من نفس الشهر وثالثًا في السابع من يناير/كانون الثاني 2025.
–الخامس عشر من يناير/كانون الثاني 2025.. أعلن رئيس الوزراء القطري التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة بين حماس والكيان الإسرائيلي المحتل، بضمانة مصرية قطرية أمريكية، والذي من المقرر أن يدخل حيز التنفيذ الأحد 19 يناير/كانون الثاني الجاري، ويتضمن انسحاب جيش الاحتلال من معظم مناطق غزة وتبادل للأسرى والمحتجزين والسماح بإدخال المساعدات الكافية لكل مناطق القطاع مع عودة جميع الغزيين إلى مناطقهم.
القلق من المراوغة الإسرائيلية
رغم إعلان رئيس وزراء قطر ومن بعده الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ومعهما رئيسا الولايات المتحدة، بايدن وترامب، عن إبرام الاتفاق بشكل رسمي، ونشره مسودته النهائية، واتخاذ الجانب الإسرائيلي بعض الخطوات في هذا الاتجاه، كبدء الانسحاب تدريجيًا من محوري نتساريم وفيلادلفيا، وإخبار المستشفيات بالإعداد لاستقبال المحتجزين لدى حماس، إلا أن الحكومة الإسرائيلية برئاسة نتنياهو لم تعلن بشكل رسمي عن هذا الاتفاق حتى اللحظة، الأمر الذي أثار بعض القلق بشأن المراوغة التي اعتاد عليها الإسرائيليون طيلة مسار المفاوضات الممتد لأكثر من عام.
وكان مكتب نتنياهو قد زعم في بيان له اليوم الخميس 16 يناير/كانون الثاني أن “حماس تتراجع عن التفاهمات وتخلق أزمة في اللحظة الأخيرة تمنع التوصل إلى اتفاق”، وأضاف أن “إسرائيل لن تحدد موعدًا لاجتماع الكابنيت والحكومة حتى يعلن الوسطاء أن حماس وافقت على جميع تفاصيل الاتفاق”، فيما نقلت القناة “13” العبرية عن مسؤول إسرائيلي إنه في حال عدم حدوث أي تقدم في الساعات المقبلة قد تعيد “إسرائيل” وفدها المتواجد حاليًا في الدوحة.
وردًا على تلك المراوغة المعتادة التي يهدف بها نتنياهو الضغط على المقاومة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب في اللحظات الأخيرة، أكد الناطق الرسمي باسم حركة حماس جهاد طه، التزام الحركة باتفاق وقف إطلاق النار في غزة الذي أعلنه الوسطاء، مشددًا على أنّ الحركة “ترفض سياسة المراوغة والمماطلة الإسرائيلية”، وعبر قناته على “تلغرام” كتب القيادي البارز في الحركة عزت الرشق يقول “إنّ الحركة ملتزمة باتفاق وقف إطلاق النار الذي أعلنه الوسطاء أمس الأربعاء 15 يناير/كانون الثاني 2025”.
وتزامنا مع الإعلان عن الاتفاق، والاحتفالات التي عمت كافة المناطق في قطاع غزة وخارجها، واصل جيش الاحتلال شن غاراته الإجرامية على مناطق متفرقة من غزة، أسفرت عن سقوط العشرات بين شهيد وجريح، في رد فعل يعكس الرغبة الإجرامية للمحتل في إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر في صفوف الفلسطينيين ومحاولة إفساد فرحتهم بصمودهم الأسطوري، خاصة في ظل الانتقادات التي تعرضت لها الحكومة الإسرائيلية والجيش معًا بشأن الفشل في تحقيق أهداف الحرب، والاضطرار للرضوخ لتلك الصفقة حفاظًا على ما تبقى من حياة الأسرى بعدما عجزت أكبر أجهزة استخبارات العالم في العثور على أماكنهم لمدة تزايد عن 460 يومًا.
صمود واجب الإشادة
راهن المحتل على الوقت من جانب وآلة التدمير الوحشية من جانب أخر لتحقيق مخططات التهجير التي كان يخطط لها في القطاع، خطة الجنرالات شمالًا والتهجير القسري جنوبًا، حيث ارتكب كل أنواع الانتهاكات المجرمة في القانون الإنساني، قتل وحرق وحرب تجويع وحصار مطبق، قضى على كل مقومات الحياة، فدمر المشافي ومراكز الإيواء، ومنع تلقي الخدمات الصحية وفرض حصارًا لا مثيل له، فمنع المساعدات الإغاثية ما دفع السكان لتناول طعام الحيوانات والأطعمة الفاسدة ومنتهية الصلاحية.
وأمام هذا الإجرام الكفيل بتركيع أمم وشعوب بأكملها، إذ بالفلسطينيين يقدمون سيمفونية خالدة من الصمود والثبات، تشبث بالأرض واستماتة في الدفاع عن العرض والقضية، ورغم الكلفة الباهظة التي دفعها سكان القطاع ثمنًا للدفاع عن وطنهم، إلا أنهم لم يتخلوا عمّا أمنوا به، ليجد المحتل نفسه أمام حرب عبثية، بلا رؤية ولا هدف، فلا هو قادر على تحقيق أهدافه الثلاثة الأولى ولا باستطاعته مجابهة هذا الصمود الأسطوري، من الشعب والمقاومة معًا.
وأمام هذا المشهد المرتبك والمعقد، جاءت الضغوط الأمريكية لتجبر نتنياهو وحكومته على إنهاء تلك المهزلة بعدما استنفذ المحتل كل الوسائل المتاحة والإمكانيات المقدرة دون تحقيق أهدافه، خشية تحول غزة إلى مستنقع لا يمكن الخروج منه، خاصة بعد الخسائر الفادحة التي كبدتها المقاومة في صفوف الاحتلال جراء التكتيكات القتالية التي تتبعها وتغير منها بين الحين والأخر حسب التطورات الميدانية.
اليوم من حق الغزيين أن يفرحوا، آن لهم أن يتنسموا بعضًا من الحياة التي سلبها المحتل وأعوانه من العرب والعجم، حتى وإن كانت فرحة مشوبة بالقلق والترقب، في ظل الابتزاز الإسرائيلي المعتاد، وخشية الانقلاب على ما تم الاتفاق عليه، وهو الأمر المستبعد من وجهة نظر المراقبين، وإلا ستضع تلك المقامرة الإدارتين الأمريكيتين، بايدن وترامب، والوسيطين المصري والقطري، في حرج كبير لن يتحمل نتنياهو تبعاته.