لا شك أن شراء الملابس بأسعار رخيصة ومعقولة أمر رائع واقتناء أحدث الصيحات أمر أروع، على الأقل بالنسبة لشريحة واسعة من متابعي الموضة ومواقع التواصل الاجتماعي التي لا تتوقف منصاتها عن الترويج لملايين السلع والمنتجات، ولكن إذا فكرنا للحظة في عملية صناعة الملابس وماذا يحدث بعد التبرع بملابسنا أو رميها، سنجد العديد من الحقائق المخيفة والقبيحة، سواء فيما يتعلق بحقوق العاملين في هذا القطاع، أم فيما يخص مسؤوليتنا تجاه البيئة والمحيط الذي نعيش به.
فقد وجدت دراسة حديثة، أجرتها مؤسسة “إلين ماك آرثر” أن قطاع الملابس مسؤول عن 92 مليون طن من النفايات الصلبة التي يتم إلقاؤها في مدافن النفايات كل عام، ما يسبب أضرارًا بيئية بالغة على الموارد الطبيعية مثل المياه الجوفية والتربة والهواء، ولسوء الحظ، فإن المشكلة لا تتوقف عند هذا الحد، فهناك الكثير من الأضرار التي تسببها الطريقة التي نستهلك بها الملابس.
حركة الأزياء السريعة والمخاطر البيئية
في أواخر التسعينيات، بدأت ظاهرة “الأزياء السريعة” في اجتياح المحلات التجارية، وهي الفترة التي انخفضت فيها مدة التصنيع إلى النصف، وزادت فيها العروض التسويقية لتصاميم جديدة ومتنوعة من الملابس خلال أيام معدودة. مثل، سلسلة متاجر “زارا” الإسبانية التي تمتلك أكثر من ألفين و200 متجر في 93 دولة، وتنتج من 50 إلى 100 تصميم في الأسبوع الواحد، ويتم تسليمها لفروعها مرتين في الأسبوع، حيث تعرض نحو 11 ألف قطعة في متاجرها بالسنة الواحدة، مقارنةً مع العلامات التجارية الأخرى المنافسة التي تعرض من ألفين إلى 4 آلاف قطعة في السنة.
وتعتمد هذه الظاهرة بشكل أساسي على تعزيز النزعة الاستهلاكية وخلق رغبات متجددة ومؤقتة لدى المستهلك وبطريقة تلائم ذوقه، وذلك من خلال توفير بيئة تتجاوب بمرونة مع متطلباته وإمكاناته المالية ومزاجه المتغير، فلا داعي للذكر أن نظرة الشباب أساسًا للملابس اختلفت وباتت لغة التعبير عن الذات والحالة النفسية والشخصية، ولذلك قلصت الشركات من عمر استخدام الملابس وصلاحيتها وقللت من أسعارها ولم تعد تنتج الملابس مرتين في العام كما اعتادت، شتاءً وصيفًا، وباتت تخلق لكل مناسبة وحدث زيًا وتصميمًا، طمعًا بالأرباح.
كشفت مؤسسة “إلين ماك آرثر” أن شاحنة واحدة مملوئة بالأقمشة تهدر كل ثانية، وذكرت كذلك أن هذا القطاع يعد ثاني أكبر مستهلك للمياه، حيث ينتج 20% من مياه الصرف الصحي
في هذا الخصوص، أفاد تقرير نشر على صحيفة ذا غارديان البريطانية أن المتسوقين أنفقوا نحو 3.5 مليار جنيه إسترليني على ملابس حفلات الكريسماس في العالم الماضي، ومن المحتمل أن يتم التخلص بقيمة 8 ملايين من تلك الأشياء البراقة في المكبات بعد ارتدائها لمرة واحدة فقط، ويمكننا بشكل عام تخيل هذا السلوك في المناسبات الأخرى أيضًا وقياس كم النفايات والأضرار التي نخلفها بسبب هوسنا بالشراء والاستهلاك.
ووفقًا للإحصاءات المتوافرة، فلقد بلغ إجمالي انبعاثات الغازات الدفيئة الناتجة عن إنتاج المنسوجات على مستوى العالم 1.2 مليار طن عام 2015، أي أكثر من الانبعاثات الناتجة عن الرحلات البحرية والجوية مجتمعة، ويتم إعادة تدوير أقل من 1% من المواد المستخدمة لإنتاج الملابس على مستوى العالم. كما كشفت مؤسسة “إلين ماك آرثر” أن شاحنة واحدة مملوئة بالأقمشة تهدر كل ثانية، وذكرت كذلك أن هذا القطاع يعد ثاني أكبر مستهلك للمياه، حيث ينتج 20% من مياه الصرف الصحي.
يضاف إلى ذلك حقائق أخرى لا تقل خطورة عما ذكرناه سابقًا، إذ يحتاج إنتاج قطعة واحدة من الملابس القطنية إلى ألفين و700 لتر من المياه، وهي كمية يشربها الإنسان في عامين ونصف، كما يتم استهلاك 5 تريليونات من المياه سنويًا في صباغة الأقمشة، إذ يكفي هذا القدر لملء مليوني حوض سباحة أوليمبي.
ويعتقد بعض المطلعين على هذا الموضوع بأن رد فعل البيئة العكسي ضد الموضة السريعة في طريقه إلينا ولن يكون الأمر جيدًا ما لم تتدخل الجهات المسؤولة لمواجهة هذه الظاهرة ووقف إغفال العلامات التجارية للتهديدات البيئية، فكل شركة تحتاج إلى معالجة المواد الكيميائية المستخدمة في تصنيع منتجاتها وإعادة تدوير النفايات الصادرة عنها، وإذا لم تتغير عاداتنا الاستهلاكية، فسوف يحتاج العالم إلى 3 أضعاف الموارد الطبيعية في عام 2050 مقارنة مع ما كنا نستخدمه عام 2000.
مع العلم أن هناك عددًا من العلامات التجارية التي بدأت التحرك بالفعل، مثل “نايكي” Nike و”جاب” GAP و”إتش & إم” H&M الذين وقعوا على مبادرة “اجعلوا الموضة مُدارة” Make Fashion Circular، وهي مبادرة تابعة لمؤسسة “إلين ماك آرثر”، تطمح إلى التأكد من أن الملابس المصنوعة تُصنع من مواد آمنة ويتم تدوير القديم منها.
الأزياء البطيئة.. كيف نحافظ على بيئتنا من الاستنزاف؟
مقابل ظاهرة الأزياء السريعة، نشأت حركة الأزياء البطيئة والألبسة الخضراء، كمحاولة للحد من الأضرار الناتجة عن هذا القطاع لا سيما فيما يتعلق باستخدام المبيدات الكيميائية على محاصيل القطن والبوليستر، والتوجه بدلًا منها إلى استخدام القطن العضوي والصوف الخالي من الكلور والبوليستر المعالج، إذ تطلق الأقمشة المحتوية على البوليستر نحو 706 كيلوغرامات من الغازات الدفيئة وذلك ما يساوي 185% من انبعاثات محطات الكهرباء التي تعمل على الفحم.
والاستغناء عن هذه المواد في التصنيع، سوف يجعلها قابلة للتدوير ويقلل من أضرارها على صحة الإنسان والبيئة في آن واحد، ومع ازدياد وعي الناس بهذه المخاطر، تقول سامانثا دوفر، محللة اقتصادية، “ما يقرب من نصف المستهلكين يقولون إنهم يفضلون شراء الملابس من الشركات التي تحاول تقليل تأثيرها على البيئة، وتبلغ نسبتهم نحو 60% بين الشباب الذين تقل أعمارهم عن 24 عامًا”، وتضيف “الناس أكثر اهتمامًا من ذي قبل بمعرفة من أين تأتي المنتجات بالضبط وكيف يتم تصنيعها”.
وتقول إن المستهلكين ما زالوا مهتمين أكثر بسعر الملابس، لكن التغيير قادم، فلم تعد شركات الملابس الجاهزة تخصص عدد قليل من رفوف الملابس الخضراء في زاوية المتجر بل تدرس كيفية جعل منتجاتها بالكامل أكثر استدامة وأقل ضررًا للبيئة، مثلما يؤكد، تورستن لومبكلور، أحد أصحاب المحلات المتخصصة في بيع الملابس المعاد تدويرها، الذي يشير إلى انتشار مواقع عديدة مختصة ببيع هذا النوع من الملابس على شبكة الإنترنت.
وإلى ذلك، يبقى الأمر متروكًا لنا، كمستهلكين، لإحداث هذا التغيير في الطريقة التي نستهلك بها الملابس ولا شك أن صناعة الأزياء السريعة ستأخذ بعض الوقت لكي تبطئ حركتها لا سيما أن أسعار الملابس الخضراء أو البطيئة مرتفعة ولن يتمكن الجميع من توفيرها، إلا أن الاستهلاك بوعي ومسؤولية يبقى خيارهم.