ترجمة وتحرير: نون بوست
أدى شراء تركيا منظومة الدفاع الجوي الروسية أس 400، إلى إعادة إطلاق الجدل الشائك والقديم حول ما إذا كانت تركيا بصدد الابتعاد عن الغرب. هذه الاتهامات ضد أنقرة تتضمن اتهام الرئيس رجب طيب أردوغان بالاستبداد في الداخل، وتقويض جهود حلف الناتو في الخارج.
إلا أن هذه الاتهامات لا أساس لها، وهي تعكس فشلا ذريعا في استيعاب المخاوف الأمنية التركية، وتجاهلا متعمدا لها، في وسط الديناميكية الأقليمية التي تتحرك فيها أنقرة، والحقائق الجيوسياسية القائمة.
في الحقيقة، إن القول بأن تركيا لم تعد حليفا موثوقا للناتو، هو ادعاء لا أساس له من الصحة. بل على العكس من ذلك، فإن أنقرة كانت ولا زالت تلعب دورا رئيسيا في كل المهام الكبرى لهذا الحلف، من كوسوفو إلى البوسنة ولبنان وأفغانستان. وبصفتها بلدا مسلما، فهي لعبت دورا حيويا في تغطية الهوة الفكرية والثقافية بين هذا التحالف من جهة والعالم الإسلامي من جهة أخرى. ولذلك فإن طرح أسئلة حول موقف تركيا في حلف الناتو، هو أمر لا يختلف عن طرح أسئلة حول مدى نزاهة هذا الحلف ودوره في القرن الواحد والعشرين.
التحالفات لا تعني الاحتكار، وهي لا تعني أن بعض الأعضاء مخول لهم فرض أجنداتهم على الآخرين
في هذا الصدد، أشار الأميرال جيمس ستافريديس، القائد السابق لقوات حلف الناتو، إلى أن “فقدان البلد الذي لديه ثاني أكبر جيش في الحلف، سيكون خطأ جيوسياسيا كبير.”
تنبع المحاولات الأخيرة لتصوير تركيا على أنها طرف منبوذ في معظمها من قضيتين أساسيتين. الأولى هي قرار تركيا شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية أس 400، والذي أدى إلى اندلاع أزمة مع الولايات المتحدة. والثانية هي قرار تركيا مواصلة التنقيب والحفر في شرق المتوسط، وهو ما أدى إلى أزمة مع الاتحاد الأوروبي. ولكن سيكون من الخطأ التفكير في أن هذه فقط هي المشاكل التي قادتنا إلى الأزمة الحالية، فهذه الأزمة طارئة وتتطلب منا نظرة أوسع.
إذ أن التحالفات لا تعني الاحتكار، وهي لا تعني أن بعض الأعضاء مخول لهم فرض أجنداتهم على الآخرين. حلف الناتو لا يمكنه أن يعمل بالشكل الصحيح عندما لا يتم النظر بجدية للمخاوف الأمنية لكل الدول الأعضاء، وتركيا بالطبع ليست استثناء.
لقد انضمت تركيا إلى التحالف الغربي قبل قرن من الزمن، على الرغم من أنها خاضت حربا دموية للاستقلال ضد القوى الأوروبية. وقد بقيت دائما ملتزمة بمبادئ الديمقراطية التعددية، وعلوية القانون، والسوق الحرة والانفتاح على العالم. وبعد الانضمام إلى حلف الناتو في 1952، أصبحت جزء أساسيا من البنية الأمنية الغربية. وعلى مدى العقد الماضي، وسعت تركيا منظورها للسياسة الخارجية، تماما مثلما فعلت الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا ودول أخرى، في هذا العالم متعدد الأقطاب.
تزايدت المخاوف الأمنية التركية منذ اندلاع الحرب الأهلية في سوريا في العام 2011. ورغم أن تركيا هي التي تتحمل العبء الأثقل في ما يخص أكبر أزمة لجوء خلال السنوات الأخيرة، فإنها حصلت على دعم مالي وسياسي محدود
وهذا التمشي ينبني على استيعاب أن السياسة الخارجية ليست لعبة خاسر ورابح، وأن السير نحو الأمام لا يعني تحجيم الآخرين أو إقصائهم، بل يعني الاجتماع حول نظرة تضمن القوة للجميع. وتركيا من حقها حماية مصالحها في الشرق الأوسط وأفريقيا، تماما مثلما هو الحال بالنسبة لفرنسا وأمريكا، في هذه المناطق وغيرها.
ولذلك فإن السؤال الحقيقي ليس حول ما إذا كانت تركيا بصدد الابتعاد على الغرب، بل لماذا تبقى المخاوف الأمنية المشروعة لتركيا متجاهلة بشكل ممنهج. وهنالك لائحة طويلة بهذه المخاوف، إذ أن المعركة ضد تنظيم حزب العمال الكردستاني الإرهابي دخلت عقدها الرابع، والدعم الذي تلقته أنقرة من حلفائها ظل دائما غير متناسق وغير كاف. وقد حصلت تركيا على قدر أقل من ذلك من الدعم والتعاطف، في معركتها ضد أتباع غولن، خاصة بعد محاولة الانقلاب في 15 تموز/ يوليو 2016، عندما سقط 251 قتيل وأكثر من ألفي جريح.
واليوم يتحرك أعضاء حزب العمال الكردستاني وأتباع غولن بكل حرية في الدول الغربية. وكل مطالبات تركيا المتكررة بترحيل أعضاء هذه الشبكات الإرهابية جوبهت بالتجاهل.
فشلت كل المحاولات التركية لشراء منظومة صواريخ باتريوت من الولايات المتحدة، ولم تفض إلى أي اتفاق
تزايدت المخاوف الأمنية التركية منذ اندلاع الحرب الأهلية في سوريا في العام 2011. ورغم أن تركيا هي التي تتحمل العبء الأثقل في ما يخص أكبر أزمة لجوء خلال السنوات الأخيرة، فإنها حصلت على دعم مالي وسياسي محدود. كما أن قرار إدارة أوباما بالتحالف مع الجناحين السياسي والعسكري لتنظيم حزب العمال الكردستاني في سوريا، أدى لمزيد تقويض روابط الثقة بين الحليفين. هذه السياسة، التي تتواصل الآن تحت إدارة ترامب، تشكل أيضا تهديدا جديا لوحدة الأراضي السورية ووحدتها السياسية، وتفتح البلاد أمام الحروب بالوكالة بالتوازي مع التقسيمات الطائفية والإثنية.
فشلت كل المحاولات التركية لشراء منظومة صواريخ باتريوت من الولايات المتحدة، ولم تفض إلى أي اتفاق. والأسوأ من ذلك هو قرار إدارة أوباما إزالة صواريخ باتريوت من تركيا في 2015، رغم أنها ظلت تحت تهديد الحرب السورية. والجهود التي بذلتها أنقرة لشراء صواريخ باتريوت خلال العامين الماضيين لم تسفر عن أي نتائج، وهكذا فإن التوجه نحو منظومة الدفاع الجوي الروسية لم يعد مجرد خيار، بل ضرورة.
تركيا ليست بصدد الابتعاد عن الغرب أو أي طرف آخر في العالم، بل على العكس من ذلك، فهي بصدد توسيع وتنويع خيارات سياستها الخارجية
نفس حالة التجاهل والامتعاض خيمت على العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بقضية قبرص. إذ أن الأوروبيين يعلمون حجم الجهود التي بذلتها أنقرة لحل هذه القضية منذ خطة عنان في 2004، والتي قبل بها القبارصة الأتراك ورفضها القبارصة اليونانيون. ومن خلال منح القبارصة اليونانيين عضوية كاملة في الاتحاد الأوروبي دون حل هذه القضية، فإن الاتحاد لم يقم فقط بانتهاك مبادئه هو، بل أيضا ارتكب ظلما كبيرا في حق القبارصة الأتراك. ومؤخرا، تم مرة أخرى رفض عرض الجانب التركي بإقامة نظام يقوم على العدالة والمشاركة متساوية للموارد في شرقي المتوسط.
في الواقع، تركيا ليست بصدد الابتعاد عن الغرب أو أي طرف آخر في العالم، بل على العكس من ذلك، فهي بصدد توسيع وتنويع خيارات سياستها الخارجية. إلا أنها أحيانا تواجه بالصد على حساب أمن ونزاهة حلف الناتو. وعوضا عن استغلال تركيا من أجل مصالحهم قصيرة المدى، يجب على أصدقائنا وحلفائنا الغربيين معاملتها كشريك مساو والتعامل مع مخاوفها الأمنية بشكل جاد.
المصدر: بلومبيرغ