مصر: الرقص عنوان المرحلة

تصور السيسي عند تنفيذ انقلابه على المسار الديمقراطي في مصر أن بإمكانه إتقان اللعبة عبر توفير الشروط المناسبة لها سواء من الناحية الدعائية وهو الذي قام بتأميم كل المشهد الإعلامي وتجييره لصالحه أو من خلال ممارسة أقصى أشكال القمع الدموي وأقساها ضد خصومه السياسيين من أجل إبعادهم من المشهد السياسي، وأخيرًا من خلال تنظيم انتخابات تنافسية شكلية من أجل اكتساب شرعية شكلت عقدة بالنسبة إليه وهو الذي أطاح بأول رئيس جاءت به انتخابات تعددية فعلية وفي جو ديمقراطي حقيقي .
إن كل من يملك الحد الأدنى من الثقافة السياسية الفعلية يدرك أن القمع والقوة تؤسس واقعًا ولا تضفي شرعية، فهناك فرق بين الأمر الواقع القائم على العنف ونفي الحريات والإلزام وإشاعة جو الخوف وهو ما مارسه السيسي عبر الإعلام الموالي له من خلال فكرة محاربة الإرهاب وحماية مصر من خطر التشطير والانقسام، وبين الأمر المشروع وهو أن يكون الحكم نابعًا من إرادة المحكومين وأن يبقى الحق قيمة أخلاقية تتوفر للفرد دون إلزام وخوف بل من خلال الشعور بالواجب والاحترام للقانون وكما يقول جان جاك روسو “إن القوة لا توجد الحق وليس للمرء أن يطيع إلا ذوي السلطان الشرعي”.
لقد قام النظام الانقلابي على أساس القوة وممارسة كافة أشكال العسف من أجل دفع غالبية الشعب المصري للخضوع خاصة بعد الحراك الثوري في 25 يناير 2011 وتزايد الرغبة في معانقة الحرية بعيدًا عن كل أشكال الوصاية، ورغم تقنية التخويف التي اعتمدها قائد الانقلاب من خلال تبرير فعلته برغبته في منع الحرب الأهلية وانزياح مصر إلى الفوضى غير أن الوقائع تقول إن استخدام القوة يؤدي إلى العنف، وإن إقامة النظام السياسي على حراب العسكر لن يفضي إلا إلى استقرار هش ذلك أن المواطن في هذه الحالة لا يطيع السلطة تلقائيًا وإنما إلزاميًا بفعل القوة وهو ما يجعل مثل هذه الطاعة تزول بزوال الخوف من القمع وهو ما نلاحظه من خلال استمرار التظاهرات في الشارع المصري ورفض نظام الحكم الوافد على ظهر دبابة .
إن محاولة التلاعب بالعقول ودفع بعض المغيبين للتعبير عن مساندتهم للانقلاب والرقص في الشوارع هو تعبير هزلي لصورة الرقص على الأشلاء في لعبة سياسية كانت منذ بدايتها دموية وغارقة في العنف، وبغض النظر عن نتيجة الانتخابات المعلومة سلفًا قبل أن تُجرى فإن دروس الانقلاب المصري تثبت أمورًا عدة لعل أهمها:
ـ أن الشعب المصري ظل ممانعًا ولم يخضع للعبة القمع والتخويف وهو ما نرى أثره في المقاطعة الواسعة للعملية الانتخابية برمتها بعيدًا عن النتائج الفلكية التي يتم إعلانها في عملية دعائية ممجوجة لم تعد تقنع أحدًا أو تثير الإعجاب.
ـ أن الطاعة لا تكون بالإلزام وكما يؤكد روسو فإن الخضوع لنظام انقلابي هو فعل من “أفعال الضرورة” وليس من ” أفعال الإرادة” بمعنى أن الشعب المصري لن يتجاوب إراديًا مع أي نظام قمعي يحاول أن يعيده الى زمن الاستبداد وهو ما بدا واضحًا في المقاومة السلمية بأشكالها المختلفة سواء من خلال تظاهر بعض القطاعات الشعبية أو المقاطعة الواسعة وفي صمت للانتخابات الهزلية.
ـ إن النموذج الانقلابي المصري والذي حاولت بعض القوى الدولية التسويق له سواء من خلال الصمت عليه (بعض الجهات الغربية) أو من خلال دعمه والترويج له إعلاميًا (بعض القوى العربية) قد فشل تمامًا وتحول إلى كابوس فعلي وليس حلمًا تطمح إليه باقي شعوب الربيع العربي.
ـ إن الرقص على دماء الشهداء الذي مارسته بعض القوى السياسية المصرية وبررته بعض العمائم الدينية تحول إلى لعنة تصيب أصحابه بمقتل سواء من خلال ضعف امتدادها الشعبي أو من خلال تحولها إلى نكتة هزلية تثير السخرية لدى الجماهير العربية في مختلف أقطارها.
لقد فشلت لعبة العسكر بكل المقاييس وسيكون لهذا الفشل أثره المدوي في الحياة السياسية المصرية والعربية عمومًا بالنظر إلى أن الشعوب لم تعد في مزاج يسمح لها بقبول أنظمة حكم استبدادية تسوقها بالعصا وهو ما سنرى له أثرًا في المشهدين الليبي والتونسي، فانقلابيو ليبيا لن يكون حالهم أفضل من نظرائهم في مصر بل ربما سيكون أسوا بالنظر إلى الوضعية المتشابكة وشديدة التعقيد التي تحوطهم (وجود قوى ثورية مسلحة تحمي خيارات الشعب)، أما في تونس فإن حلم الانقلاب والإطاحة بالنظام الديمقراطي قد بدأ يتبخر تدريجيًا منذ مجيء حكومة التوافق الوطني، فقد أدرك الشعب التونسي في غالبيته أن لعبة العسكر والعنف والفوضى لن تجلب سوى الخراب والمزيد من المعاناة فالنموذج المصري الذي تحمس له البعض قد فشل في عشرة أشهر أن يجلب استقرارًا أو أن يصنع أمانًا اجتماعيًا أو يحقق ازدهارًا سياسيًا.
إن عهد الانقلابات العسكرية قد لفظ أنفاسه الأخيرة وما جرى في الخمسينات والستينات من القرن الماضي في كثير من البلدان العربية وسط تعتيم إعلامي وغياب جماهيري لم يعد من الممكن استيراده ومن تصور للحظة من دهاقين السياسة وعجائزها التاريخيين أنه من الممكن الاستغناء عن الشعوب وتحويلهم إلى مجرد قطيع يسوقونهم بالعصا قد أساءوا التقدير .. لقد سقط السيسي أخلاقيًا قبل أن يسقط واقعيًا في الأيام القادمة؛ لأن حركة الشعوب العربية نحو الحرية لن تتوقف وهي تستلهم صمودها من دماء الشهداء وليس من عرق الراقصات وأصوات المغنيين المنافقين.