بدأت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس أمس الإثنين تلقي ملفات المرشحين للانتخابات التشريعية، بالاعتماد على القانون الانتخابي القديم، بعد امتناع الرئيس السبسي عن ختم القانون الانتخابي المنقح الذي صادق عليه البرلمان، مؤخرًا، ما جعل السبسي في قفص اتهامات تجاوز دستور البلاد وتهديد ديمقراطيتها الناشئة.
رفض التعديلات
فاجأ الباجي قائد السبسي التونسيين بعدم توقيعه على تعديلات القانون الانتخابي، ففي الوقت الذي كان الجميع ينتظر أن تصدر هذه التعديلات بالرائد الرسمي (صحيفة تتضمن المنشورات الرسمية)، الجمعة الماضية، تاريخ انتهاء الآجال القانونية لذلك، ليتم تطبيقها من طرف الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، اختار الرئيس التونسي عدم الختم، رغم أن هذه التعديلات تم عرضها على الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين ووافقت عليها بالإجماع.
لم يختم السبسي على التعديلات ولم يخرج على التونسيين لتوضيح سبب ذلك، وإنما صرح بذلك نجله حافظ، قبل أن يلحقه مستشار الرئيس السياسي نور الدين بن تيشة، ويؤكد الاثنان أن السبسي يرفض الإقصاء، وأن القانون على المقاس.
وأكد بن تيشة توجه الرئيس بخطاب قريب إلى التونسيين خلال الأيام المقبلة، لتوضيح جميع النقاط الخاصة بملف ختم التنقيحات الواردة في القانون الانتخابي الجديد، ما زاد من حدة الجدل الذي أحدثه قرار السبسي الأب.
وتفرض التعديلات شروطًا جديدة على المرشحين، تتعلق بإدخال “العتبة الانتخابية” (نسبة الحسم) في الانتخابات التشريعية، إذ نصت على أن تستثنى القوائم التي تحصل على أقل من 3% من أصوات المقترعين على مستوى الدائرة الانتخابية.
عدم رده إلى البرلمان وعدم الدعوة إلى استفتاء واختيار الصمت وعدم الختم على التعديلات، اعتبره العديد من التونسيين تجاوزًا من السبسي لصلاحيته الرئاسية وخرقًا واضحًا للدستور
كما تضمن مشروع القانون الانتخابي تعديلات تتعلق بعدد من الشروط الواجب توافرھا في المترشح للانتخابات، كمنع ترشح وإلغاء نتائج كل من ثبت استفادته من استعمال جمعية أو وسائل إعلام للإشهار السياسي (الدعاية السياسية)، خلال السنة التي سبقت الانتخابات التشريعیة والرئاسیة.
اشترط القانون أيضًا إبراز المترشح للانتخابات التشريعية بطاقة أمنية قضائية خالیة من السوابق العدلیة، فیما أجبر المترشح للانتخابات الرئاسية، إلى جانب إبراز ھذه البطاقة، على تقديم ما يفید بالتصريح بالمكاسب والمصالح، وما يفید بالتصريح الجبائي للسنة المنقضیة قبل سنة الانتخابات.
وتفرض التعديلات أيضًا على ھیئة الانتخابات “رفض ترشح كل من يثبت لديها قيامه بخطاب لا يحترم النظام الديمقراطي ومبادئ الدستور والتداول السلمي للسلطة، أو يدعو للعنف والتمييز والتباغض بين المواطنين، أو يمجد سياسات الديكتاتورية وممارسات انتهاك حقوق الإنسان أو يمجد الإرهاب أو يهدد النظام الجمهوري ودعائم دولة القانون”.
يسعى السبسي إلى إعادة تشكيل الخريطة السياسية في تونس
نتيجة عدم ختمها من السبسي تعتبر هذه التعديلات في نظر هيئة الانتخابات مجرد مشروع قانون، لأنها إجراءات شكلية تفترض الختم ونشره في الرائد الرسمي، وكانت الهيئة قد كونت الهيئات الفرعية في كامل الدوائر الانتخابية التي تبلغ 33 دائرةً انتخابيةً، وفقًا للقانون المنقح سنة 2017، لقبول ملفات المترشحين بدءًا من 22 من يوليو/تموز إلى غاية 6 من أغسطس/آب منه بحسب القانون القديم.
يذكر أن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات حددت موعد الانتخابات التشريعية يوم 6 من أكتوبر/تشرين الأول 2019 والدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية يوم 17 من نوفمبر/تشرين الثاني 2019، وفي حال لم يفز أي من المرشحين في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية بالأغلبية المطلقة يتم تنظيم دورة ثانية بعد أسبوعين.
خرق للدستور
عدم رده إلى البرلمان وعدم الدعوة إلى استفتاء واختيار الصمت وعدم الختم على التعديلات، اعتبره العديد من التونسيين تجاوزًا من السبسي لصلاحيته الرئاسية وخرقًا واضحًا للدستور، مستغلاً في ذلك غياب المحكمة الدستورية.
“لا شك أن الامتناع عن الإمضاء على القانون الانتخابي المعدل أمر مخالف للدستور، رغم كون مؤسسة رئاسة الجمهورية الضامن لحماية الدستور التي تسهر على تطبيقه في المجمل وفق الأعراف المتعارف عليها ووفق ما نص عليه دستور 2014” يقول الصحفي التونسي حمدي الزايدي.
يعمل السبسي وجماعته على إعادة ترتيب أوراق المشهد السياسي في البلاد مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية، نتيجة تراجع “نداء تونس” وتصدر حركة النهضة المشهد السياسي
يشير الزايدي في تصريح لنون بوست إلى أن “دستور تونس لا يبيح صراحة عدم الختم، فقد منح رئيس الجمهورية وسائل عديدة للاعتراض على أي قانون وهي إما إعادته للمجلس من أجل قراءة ثانية لصياغته من جديد أو عرضه للاستفتاء”.
ويفتح عدم الختم على هذه التعديلات الباب لعدم تمرير أي قانون إن لم يتماشى مع رغبات رئيس الجمهورية، وفق قول حمدي: “ما يضعنا أمام تداخل السلطات، إذ يعطي لمؤسسة رئاسة الجمهورية باعتبارها أحد رأسي السلطة التنفيذية صلاحيات واسعة في تعد على السلطة التشريعية لعدم تمرير أي قانون”.
وأوضح محدثنا أن عدم نص دستور تونس على أي جزاء أو عقاب في حال تخلي رئيس الدولة عن القيام بواجبه ومهامه كرئاسة مجلس الأمن القومي أو تعيين السفراء، يعتبر أمرًا بديهيًا، فرئيس الدولة من المفروض أنه الضامن للدستور ولحسن تطبيقه.
مناورة سياسية
إلى جانب كونه خرقًا للدستور، يدخل ما أقدمت عليه مؤسسة رئاسة الجمهورية من عدم إمضاء القانون الانتخابي الجديد بتعديلاته الأسبوع الماضي يدخل في باب المناورات السياسية التي دأب السبسي على القيام بها منذ توليه رئاسة الدولة في ديسمبر/كانون الأول 2014، وفق حمدي الزايدي.
يقول حمدي في هذا الشأن: “رفض الختم لا يفهم في بعده القانوني فقط، بل في بعده السياسي، فالمسألة سياسية بامتياز، فرئيس الجمهورية استغل غياب المحكمة الدستورية التي من شأنها النظر في مثل هذه الإشكاليات وخاصة في تأويل أحكام الدستور والفصل في حالة تنازع السلطات بين مؤسسات الدولة الرسمية، واستغل تباين الآراء بشأن التعديلات الجديدة على القانون الانتخابي التي يعتبرها البعض والعديد من المنظمات الدولية قانونًا إقصائيًا، ليقوم بما يريد ويسجل أهدافًا في مرمى الخصم”.
بدوره، ساند الصحفي كريم البوعلي ما ذهب إليه حمدي الزايدي، قائلاً: “هذه الخطوة من الرئيس التونسي وفريقه سياسية بامتياز”، وأرجع البوعلي سبب ذلك في تصريحه لنون بوست إلى رغبة السبسي وجماعته في كسب ود من كانوا سيتضررون من التعديلات، وربما سيعقد معهم تحالفات في ظل تراجع شعبية حزب نداء تونس ومشاكله الداخلية وصعوبة تقديمه لقائمات في كل الدوائر نظرًا لحالة التشظي التي يعيشها”.
وسبق أن عبر حزب نداء تونس عن رفضه للتعديلات التي أجريت على قانون الانتخابات، كونه يخدم مصلحة حزب “تحيا تونس” الذي يقود رئيس الحكومة يوسف الشاهد وحركة النهضة، كما قدم نواب كتلة “النداء” طلب طعن لدى الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين في خصوص هذه التعديلات لكن هذا الطلب تم رفضه.
تباين وجهات النظر بين “النداء” و”النهضة”
يعمل السبسي وجماعته على إعادة ترتيب أوراق المشهد السياسي في البلاد مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية، نتيجة تراجع “نداء تونس” وتصدر حركة النهضة المشهد السياسي، حيث فازت في الانتخابات المحلية التي جرت السنة الماضية، وفي كل الانتخابات الجزئية المعادة، كما أنها تتحكم في موازين القوى داخل البرلمان نتيجة امتلاكها أكبر كتلة هناك، ما يؤهلها للفوز في الانتخابات القادمة.
عدم توقيع السبسي على هذه التعديلات أعاد للتونسيين السجل الحافل بانتهاك الدستور الذي رصع مسيرة الباجي قائد السبسي منذ قدومه إلى قصر قرطاج نهاية سنة 2014، إذ لا تمر فترة قصيرة حتى يفاجئ الرئيس التونسيين بخرق جديد لدستور البلاد.