ترجمة وتحرير: نون بوست
تثير أخبار انفجار قنبلة أو احتدام الصراع القبلي الذي عانت منه دولة الصومال الواقعة في شرق إفريقيا على مدار 30 سنة في نفسي مجموعة من العواطف الحاسمة. عاش الوطن الذي وُلد ونشأ فيه والداي إما على وقع حرب، أو تحت تهديد الهجمات المتطرفة أو معاناة بسبب المجاعة، لفترة أطول من حياتي بأكملها.
لقد ولدت في أستراليا إذ كنت الوحيدة من بين أربعة أشقاء ولد جميعهم في العاصمة مقديشو. ومع ذلك، حرصت عائلتي، كما فعلت معظم العائلات الصومالية، على تعليم أطفالها بشكل مستمر أصول اللغة والثقافة والتقاليد التي أجبروا على تركها وراءهم.
في المكان الذي يواجه فيه الشباب الصومالي والإفريقي حالات من العنصرية والتمييز بصفة يومية تقريبًا، ما يؤدي غالبًا إلى التمرد على مجتمع يرفضهم بسبب لون بشرتهم، يواصل الآباء الصوماليون دعوة أطفالهم للعودة إلى ثقافتهم وتقاليدهم، والتمسّك بجذورهم اللغوية والدينية. لا يعتبر هذا الأمر تكتيكًا للعزلة، إلا أن جميع المهاجرين تقريبًا في أستراليا يعلّمون أطفالهم أهمية التعرّف على كل ما يتعلق بمسقط رأسهم.
على الرغم من أننا نُقدر تقديرا جليلا الماضي ونحيا على ذكره، إلا أننا نكبر في خضم إحساس عميق بالمعاناة
لاقت الصحفية الكندية الصومالية هودان نالاياه حتفها في انفجار قنبلة مؤخرا في مدينة كيسمايو. وقد رغبت في أن يكون أطفالها المستقبليون على وعي بمعنى الحرب الوحشية من جهة، وأن يشعروا بالفخر بتاريخ غني كُتب من قبل أسلافهم، وفي النهاية أن يكونوا فخورين بتراثهم.
“رجاءً عودوا إلى جذوركم الثقافية”، إن هذه عبارة شائعة في الصومال وتستخدمها الأمهات الصوماليات اللاتي يستجدين أطفالهن للعودة إلى تقاليدهم. ويعتقد الآباء الصوماليون أن هذه الممارسة ستغرس في أطفالهم قيم الانضباط واحترام أجدادهم، بالإضافة إلى دعوتهم لأن يصبحوا مواطنين فاعلين في المجتمع الأسترالي.
على الرغم من أننا نُقدر تقديرا جليلا الماضي ونحيا على ذكره، إلا أننا نكبر في خضم إحساس عميق بالمعاناة. في الواقع، إن طريقة فهمنا لهذا البلد المدمر تشبه طريقة تفتت البسكويت. ووفقًا للأمم المتحدة، يواصل هذا البلد الفوز بأكثر لقب مرغوب فيه سنة بعد الأخرى، ألا وهو أكثر دول العالم فسادًا.
عندما تلقيت خبر وفاة نالاياه، لم أكن أعرف مقدار التأثير الذي سيحدثه هذا الخبر في نفسي كصحفي امتهن هذا العمل لأكثر من 20 عامًا والآن كأكاديمي. في الحقيقة، إن العاملين في مجال الإعلام الذين ينشرون التقارير من العالم النامي ومناطق الصراع مثلي هم مجتمع مترابط. ونحن إلى الآن لا نزال نعاني من وفاتها.
قُتلت نالاياه مع زوجها فريد جامع سليمان رفقة ما لا يقل عن 24 آخرين بعد انفجار قنبلة خارج فندق في مدينة كيسمايو
على الرغم من أنني لم أقابل نالاياه مطلقًا، إلا أن ما جعل هذا الأمر صعبًا للغاية بالنسبة لي هو أن والدي الراحل، أثناء مشاركته في مهن مختلفة تمامًا، كان له مسار حياة مماثل، حيث عاد إلى وطنه لهدف وحيد يتمثل في مساعدة شعبه وتضميد جراحه. وفي حالة نالاياه، يتمحور هدفها حول سرد القصص الصومالية في خضم كل ما تمر به. بشكل عام، دفع الاثنان ثمن ذلك.
قُتلت نالاياه مع زوجها فريد جامع سليمان رفقة ما لا يقل عن 24 آخرين بعد انفجار قنبلة خارج فندق في مدينة كيسمايو. على غرار والدي، كانت السياسة لا تهمها. وتهدف “إنتغرايشن تي في”، وهي عبارة عن منصة إعلامية عبر الإنترنت أسستها نالاياه، إلى عرض جانب مختلف من أمة لطالما مثلت رمزا لكل ما يتعلق بالدول الفاشلة.
لقد أرادت نالاياه إظهار قدرة الشعب الصومالي على الصمود، وبناء على أنهم تمكنوا من العيش في خضم الحرب، فبإمكانهم العيش في فترة نشاط حركة الشباب المجاهدين الوحشية، وهي جماعة تدعي أنها مسلمة ولكنها تقتل بصفة دورية المنتمين إلى نفس الديانة. هل تبدو هذه الحركة مألوفة لك؟ قد تكون كذلك لأنها التحقت بتنظيم الدولة في وقت لاحق.
إن تصوير نالاياه للمجتمعات التي تستيقظ كل صباح يرسل رسالة إلى هؤلاء الجبناء بأنهم قد يكونوا قادرين على قتل الكثيرين، لكنهم لن يستطيعوا طمس تقاليدهم وهويتهم أبدًا
ليس من الأمر الصعب التكهن بأن امتهان الصحافة يمكن أن يتسبب في مقتل الشخص في الصومال. ترمز وفاة نالاياه إلى تهديد الصحفيين لحركة الشباب المجاهدين. وهذا المصير يلاحق أيضا حتى العاملين في مجال الإعلام، والذين يبتعدون قدر المستطاع عن السياسة ويصورون فقط المواطنين الذين يحاولون البقاء على قيد الحياة والمضي قدمًا في ظل الموت والدمار الذين يشهدونه.
إن تصوير نالاياه للمجتمعات التي تستيقظ كل صباح يرسل رسالة إلى هؤلاء الجبناء بأنهم قد يكونوا قادرين على قتل الكثيرين، لكنهم لن يستطيعوا طمس تقاليدهم وهويتهم أبدًا. وهذا ما يخيف حركة الشباب المجاهدين. آمل ألا يذهب ما كافحت من أجله نالاياه أدراج الرياح. ومن جهتهم، سيكمل الصحفيون هذا الإرث الذي يقوم على السلام والاحترام والنزاهة الذي يستحقه الشعب الصومالي.
إن تاريخ وفاتها جاء في الفترة التي انصب فيها التركيز على اللاجئين الصوماليين على وجه الخصوص. تجدر الإشارة إلى أن “الدولة الفاشلة التي تنتشر فيها الجرائم”، كما وصفها دونالد ترامب، لم تأت من فراغ. وفي عالم متزايد الانقسام، فإن الذين يهتفون “أعيدوهم”، أو “إبنوا ذلك الجدار” في حديثهم عن المهاجرين، يدعمون الحكومات التي جعلت الناس يفرون من البلدان التي لم يرغبوا في مغادرتها. وفي الحقيقة، تعتبر هذه الممارسات نفاقا واضحا.
عادت مالاياه لإظهار أن الشعب الصومالي ليس الرمز الوحيد للفقر واليأس، بل إنه مجتمع فخور يريد ويستحق ما يريده كل شخص على هذا الكوكب، ألا وهو عيش حياة أفضل.
المصدر: الغارديان