مكافحة الاستخبارات المضادة في إيران

تعد وزارة الاستخبارات الإيرانية من أكثر الأجهزة الاستخبارية فاعلية في منطقة الشرق الأوسط، ومن أجل تفعيل قدراتها الاستخبارية الداخلية والخارجية، ذهبت باتجاه تطوير قدراتها في مجال الاستشعار الاستخباري والذكاء الاستخباري والاستخبارات المضادة أو مكافحة الاستخبارات، كما أنها عملت على إدخال الكثير من التحديثات على برامجها الاستخبارية من أجل التفوق على الوكالات الاستخبارية الأخرى العاملة في المنطقة، ولتحقيق فاعلية أكبر عملت وزارة الاستخبارات والأمن الوطني الإيراني على تنسيق عملياتها مع جهاز استخبارات قوة القدس وجهاز الاستخبارات العسكرية J2 التابع لوزارة الدفاع الإيرانية.
فمنذ مطلع القرن العشرين، عانت أجهزة الاستخبارات الإيرانية من عدد من النكسات في مجال الاستخبارات المضادة، ففي عام 2004، تمكنت أجهزة الاستخبارات الأمريكية من الحصول على معلومات من جهاز كمبيوتر محمول تابع للحكومة الإيرانية، يشرح بالتفصيل تصاميم لرأس حربي نووي، حيث استفادت أجهزة الاستخبارات الغربية أيضًا من انشقاق كبار المسؤولين في الحرس الثوري الإيراني مثل نائب وزير الدفاع الإيراني السابق الجنرال علي رضا أصغري عام 2007.
فقد كان انشقاق أصغري مهمًا بشكل خاص، لأنه كان متورطًا في إقامة روابط بين إيران وحزب الله، ووفقًا لمصادر استخبارية، ربما زود أصغري “إسرائيل” بمعلومات استخبارية لدعم عملية ORCHARD، وهي ضربة إسرائيلية على مفاعل نووي سوري، ويظل اختراق إيران باستخدام المجموعات العرقية المعارضة، لا سيما الأكراد في شمال إيران، مصدر قلق كبير لطهران، كما يبدو أن إيران فشلت في اكتشاف العديد من العمليات التي تقودها الولايات المتحدة لتخريب برنامجها النووي، من خلال التزويد المتعمد للمعدات والتخطيطات الخاطئة، في العامين 2000 و2003، وطبقًا لتقرير خاص صادر عن “فاينانشيال تايمز”، جندت الولايات المتحدة الوسطاء لتقديم مخططات خاطئة لرأس حربي نووي، وتخريب أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم.
كان الهجوم الجوي الإسرائيلي في 6 من سبتمبر 2007 على مفاعل إنتاج بلوتونيوم للأسلحة النووية السورية في عملية البستان، الذي اعترفت “إسرائيل” بقصفه يوم 21 من مارس 2018، الواقع في مدينة دير الزور شرق سوريا، يستند إلى بعض المعلومات التي حصلت عليها الاستخبارات الإسرائيلية من أصغري
لكن في أواخر عام 2007، غيّرت أجهزة الاستخبارات الأمريكية تقييمها لبرنامج إيران النووي، ففي نوفمبر 2007، جاء في تقرير أعدته وكالة الاستخبارات الأمريكية بعنوان “إيران: النوايا والقدرات النووية”، قائلًا “إننا نحكم.. بثقة عالية بأنه في خريف 2003، أوقفت طهران برنامج أسلحتها النووية”، إلا أن التقرير لم يشر إلى ما إذا كانت طهران قد استأنفت برنامج أسلحتها النووية حتى منتصف 2007، وخلص التقرير إلى أن معرفة النوايا النووية الحقيقة لا يمكن اكتشافها بالوسائل التقنية، بل تحتاج إلى جهد استخباري بشري أيضًا.
وكان الهجوم الجوي الإسرائيلي في 6 من سبتمبر 2007 على مفاعل إنتاج بلوتونيوم للأسلحة النووية السورية في عملية البستان، الذي اعترفت “إسرائيل” بقصفه يوم 21 من مارس 2018، الواقع في مدينة دير الزور شرق سوريا، يستند إلى بعض المعلومات التي حصلت عليها الاستخبارات الإسرائيلية من أصغري، مما أسفر عن مقتل المهندسين وإلحاق الضرر بالمنشأة.
وعلى إثر هذه العملية شنت الاستخبارات الإيرانية عملية واسعة للقضاء على العديد من الشبكات الاستخبارية العاملة في إيران، واعتقلت العديد منهم بتهمة العمل مع وكالة الاستخبارات الإسرائيلية الموساد.
المفاعل النووي السوري قبل وبعد القصف
كما تمكنت الأجهزة الاستخبارية الغربية من التسلل إلى الداخل الإيراني، بمساعدة مجموعة من عناصر المعارضة الإيرانية، وذلك من أجل الحصول على الكثير من المعلومات الخاصة بمواضيع تخصيب اليورانيوم والبرنامج النووي الإيراني، إلى جانب تطوير العديد من الفيروسات المضادة للإضرار بالبرنامج النووي الإيراني خلال الفترة بين 2000-2003.
وعقب هذه التطورات المتلاحقة أنشأت إيران جهاز استخباراتي جديد تحت مسمى (عقاب) عام 2005، الذي عمل في إطار مكافحة التجسس الخارجي أو المضاد، ضمن هيكلية وزارة الاستخبارات والأمن الوطني الإيراني، وكانت المهمة الأساسية له، كشف العمليات الاستخبارتية التي تستهدف العلماء الإيرانيين العاملين في البرنامج النووي الإيراني، بعد أن تم اغتيال الكثير منهم، خلال الفترة من 2010-2015.
ومن الأسباب الأخرى التي أنشئ على أساسها جهاز عقاب، هو تعرض منشأتين نوويتين سريتين إيرانيتين وهما بارشين ولافتران إلى عمليات القرصنة الاستخبارية، إلى جانب اعتقال اثنين من الجواسيس الإيرانيين الذين جمعوا معلومات عن المنشآت النووية عام 2005.
تمكن جهاز الموساد الإسرائيلي من الحصول على هذا الكم الهائل من المعلومات بعد العديد من العمليات التجسسية التي شنها عملاؤه في الداخل الإيراني
وبعد اكتشاف العديد من الشبكات الاستخبارية الأجنبية العاملة في إيران منذ منتصف 2007، حل أحمد وحيدي على رأس جهاز عقاب، محل الجنرال غلام رضا مغربي، ويذكر أن أحمد وحيدي قائد سابق للحرس الثوري الإيراني ووزير دفاع سابق أيضًا، وجهاز عقاب الاستخباري تم توسيعه فيما بعد، وأصبح هناك (عقاب 2)، وتم تجنيد ما يقرب من 10000 عنصر استخباراتي إيراني في صفوفه.
إلا أنه مع ذلك لا يزال غير قادر على منع عمليات التخريب أو التجسس أو الاغتيالات التي تطال الشخصيات والعلماء الإيرانيين المهمين، ومن الأمثلة المهمة على هذا الفشل، عدم قدرته على منع العديد من العمليات الاستخبارية التي نفذها جهاز الاستخبارات الإسرائيلية “الموساد” في إيران منذ العام 2007، التي كان آخرها إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مؤتمر صحفي في 30 من أبريل 2018، أن إيران نقلت برنامج التسلّح النووي إلى موقع “سري”، مؤكدًا أن “إسرائيل” حصلت بطرق استخباراتية، على 111 ألف صفحة من ملف إيران النووي، وأضاف نتنياهو في مؤتمره الصحفي “لدينا أدلة على وجود برنامج تسلّح نووي إيراني سري، وبرنامج لتصميم وإنتاج وتجربة الرؤوس النووية، وبرنامج لتصميم وإنتاج وتجربة الرؤوس الحربية”.
إذ تمكن جهاز الموساد الإسرائيلي من الحصول على هذا الكم الهائل من المعلومات بعد العديد من العمليات التجسسية التي شنها عملاؤه في الداخل الإيراني، من خلال عملية استخبارية رئيسية ناجحة تحت مسمى “عملية عماد”.
في أبريل 2014 أعلنت إيران أن شخصًا ما حاول تخريب مفاعل أبحاث آراك، من خلال العبث بمكون ميكانيكي، لكن تم إحباطه من الأمن الإيراني
ومع ذلك فقد أنجزت وزارة الاستخبارات والأمن الوطني الإيرانية، العديد من العلميات الاستخبارية الناجحة بشكل ملحوظ، ففي العام 2007، قامت الاستخبارات البحرية التابعة للحرس الثوري الإيراني، وتحت فرضية التجسس المحتمل، باعتقال 15 بحارًا بريطانيًا في الخليج العربي، وما دفع الاستخبارات الإيرانية للقيام بهذا العمل، هو برنامج تليفزيوني بث على القناة البريطانية BBC، بشأن نجاح البحرية الملكية البريطانية في جمع العديد من المعلومات الاستخبارية عن إيران، من خلال عمليات تمت عبر الخليج العربي.
وفي العام 2011 نشرت صحيفة لوس أنجلوس تايمز الأمريكية، تقريرًا عن قيام وزارة الاستخبارات الإيرانية بتفكيك شبكة استخبارية مكونة من 30 عنصرًا، تم تجنيدهم عن طريق السفارات الأمريكية في الإمارات العربية المتحدة وتركيا وماليزيا، من أجل القيام بعمليات استخبارية في إيران.
وفي أبريل 2014 أعلنت إيران أن شخصًا ما حاول تخريب مفاعل أبحاث آراك، من خلال العبث بمكون ميكانيكي، لكن ذلك تم إحباطه من الأمن الإيراني مثل العديد من الهجمات الأخرى غير المحددة، ولم يتم تقديم أي تفاصيل، كما أنه لم يتم إلقاء اللوم على “إسرائيل”، ففي عام 2012، قالت إيران إنها ألقت القبض على 20 مشتبه به، ووجهت لهم اتهامات بالمسؤولية عن مقتل 5 علماء نوويين إيرانيين منذ عام 2010، واتهمت الحكومة الإيرانية “إسرائيل” بأنها مسؤولة عن كل هذا، لكنها لم تعلن أي دليل على ذلك.
وفي الوقت نفسه استمرت التحقيقات في الهجمات الاستخبارية الإيرانية المناهضة لـ”إسرائيل”، التي وقعت في الهند وجورجيا وأذربيجان وتايلاند خلال شهر فبراير 2012، ونفت إيران أي تورط بها، وأصرت على أن هذه مؤامرة إسرائيلية أخرى.
صرح وزير الاستخبارات والأمن الوطني الإيراني السابق حيدر مصلحي، إنه لا يمكن وقف عمليات تسلل أجهزة الاستخبارات الأجنبية إلى إيران، إلا أن المميز في هذا المجال أن الاستخبارات الإيرانية قادرة على التعرف عليهم بكل سهولة
وأدت هذه السلسلة الطموحة من الهجمات الاستخبارية الإيرانية (التي لم تقتل أي شخص)، إلى عشرات الاعتقالات، والكثير من الأدلة الأخرى التي تربط الجناة بإيران، وبينما كانت عناصر جهاز استخبارات قوة القدس نشيطين في أماكن كثيرة (غزة واليمن ولبنان وسوريا وأمريكا الجنوبية ودول الخليج العربي، إلخ)، كان نشطاؤها في الغالب هواة وغير فعالين، فعندما يتم القبض على عملاء إيرانيين في الخارج، تطالب إيران مواطنيها بالعودة وتنكر أي نشاط إرهابي، لكن عمليات عام 2012 ضد الإسرائيليين الذين يعيشون خارج “إسرائيل” على ما يبدو، كشفت مدى قدرات إيران الاستخبارية.
ويعتقد أن هجمات عام 2012 كانت محاولة للانتقام من عملاء إسرائيليين ينفذون عدة عمليات قتل لعلماء نوويين إيرانيين، إلا أن جهاز استخبارات قوة القدس، لم يتمكن من الوصول إلى أهدافه كاملة، وهذا ليس مفاجئًا، لأن التعصب الديني أكثر قيمة عند مجندي قوة القدس من المواهب الأخرى، مع أن هذا لا ينفي إمكانات البعض الآخر الحادة جدًا، لكنهم جميعًا متشددون دينيًا، وكل هذا محرج للإيرانيين، لأن ما يظهر للإيرانيين، أن الاستخبارات الغربية أو الأجنبية قادرة على الدخول إلى إيران وإلحاق الضرر، وكل ما تستطيع فعله إيران هو إصدار بيانات صحفية، أنها تبذل الكثير من الجهد في العمليات الاستخبارية في الخارج، إلا أن مدى نجاحها يبقى محل نقاش واسع، خصوصًا عندما نتحدث عن قيمة الموقع أو العنصر الاستخباري المستهدف.
اتهم رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية السابق حسن فيروز أبادي، “جواسيس غربيين” باستخدام غطاءات (سحالي)، قادرة على “التقاط الموجات الذرية”، للتجسس على البرنامج النووي الإيراني
وفي هذا الإطار صرح وزير الاستخبارات والأمن الوطني الإيراني السابق حيدر مصلحي، أنه لا يمكن وقف عمليات تسلل أجهزة الاستخبارات الأجنبية إلى إيران، إلا أن المميز في هذا المجال أن الاستخبارات الإيرانية قادرة على التعرف عليهم بكل سهولة، والاستفادة منهم بالمستقبل، خصوصًا في مجال التجنيد والعمل الاستخباري المزدوج، قبل أن يتم القضاء عليهم من الجهات التي تجندهم، بسبب كشفهم.
كما أعلنت وزارة الاستخبارات الإيرانية أن شبكات التجسس الأجنبية، تعمل بصور مختلفة ومتعددة المظاهر والأشكال في إيران، ومن بينها العمل ضمن إطار مراكز التوظيف والعمل، إذ انشأت العديد من الوكالات الاستخبارية الأجنبية مواقع إلكترونية افتراضية داخل إيران، من أجل توفير فرص العمل للإيرانيين وتوظيفهم وتجنيدهم فيما بعد لجمع المعلومات الاستخبارية عن الصناعات الدفاعية والعسكرية، إلى جانب المواقع النووية السرية الإيرانية.
وفي هذا السياق، اتهم رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية السابق حسن فيروز أبادي، “جواسيس غربيين” باستخدام غطاءات (سحالي)، قادرة على “التقاط الموجات الذرية”، للتجسس على البرنامج النووي الإيراني، وجاء تصريح فيروز أبادي، وهو كبير المستشارين العسكريين للمرشد الأعلى علي خامنئي، خلال رده على أسئلة لوسائل إعلامية محلية عن التوقيفات الأمنية التي طالت ناشطين بيئيين، فقال إنه لم يطلع على تفاصيل القضايا، لكنه أشار إلى أن الغرب لطالما استخدم “سياحًا وعلماءً وناشطين بيئيين للتجسس على إيران”.
تأتي العملية الاستخبارية الناجحة التي أعلنتها وزارة الاستخبارات الإيرانية يوم 22 من يوليو 2019، في سياق الحروب الخفية التي تخوضها مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA
وفق ما ذكرت وكالة فرانس برس، وكان رئيس الأركان الإيراني السابق، قد قال لوكالة “إيلنا الإصلاحية” قبل عدة سنوات، إن أشخاصًا أتوا إلى إيران وكان بحوزتهم أنواع من الزواحف الصحراوية كالحرابي، وقد اكتشفنا أن جلدها قادر على التقاط الموجات الذرية، وأنهم جواسيس نوويون أرادوا أن يتحروا عن أماكن وجود مناجم اليورانيوم في الجمهورية الإيرانية، ومواقع إجراء الأنشطة الذرية“.
وتأتي تصريحات فيروز أبادي بعد ورود أنباء عن وفاة الناشط البيئي الإيراني – الكندي كاووس سيد إمامي في السجن، بعد أسبوعين من اعتقاله مع أعضاء آخرين في منظمته غير الحكومية “مؤسسة تراث الحياة البرية الفارسية“، وأشارت تقارير إلى أن نائب مدير منظمة حماية البيئة في إيران كاوه مدني، اعتقل وعاد إلى العمل مرة أخرى ونشر رسالة مشفرة على وسائل التواصل الاجتماعي تقول “أنا بأمان”.
وتأتي العملية الاستخبارية الناجحة التي أعلنتها وزارة الاستخبارات الإيرانية يوم 22 من يوليو 2019، في سياق الحروب الخفية التي تخوضها مع وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية CIA ، فالحرب السيبرانية التي يخوضها الطرفان في منطقة الخليج العربي ومضيق هرمز لا تخرج عن هذا السياق أيضًا، إذ أعلنت إيران تفكيك ما قالت إنها “شبكة تجسس” تعمل لصالح الولايات المتحدة الأمريكية، ونقل التليفزيون الرسمي عن وزارة الاستخبارات قولها: “تم اعتقال 17 جاسوسًا يعملون لحساب وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وصدرت أحكام ضد بعضهم بالإعدام“.
بدورها نقلت وكالة فارس عن مدير دائرة مكافحة التجسس بوزارة الاستخبارات الإيرانية قوله، إن أحكامًا قضائية بعضها بالإعدام صدرت بحق 17 جاسوسًا تابعين للاستخبارات المركزية الأمريكية، وأضاف “الجواسيس المعتقلون كانوا يعملون في مراكز حساسة وحيوية في المجالات الاقتصادية والنووية والبنى التحتية والعسكرية والسيبرانية والقطاع الخاص المرتبط بها”، ولفت إلى أن بعض المتهمين خدعوا من المخابرات الأمريكية بمنحه تأشيرة دخول إلى الأراضي الأمريكية، كما بادرت الوكالة إلى تأسيس شركات مزيفة بهدف التجسس تحت وعود توفير فرص عمل أو تأمين معدات من خارج البلاد، وقال إن اتصالات قام بها عملاء السي آي إيه بالمواطنين الإيرانيين بعناوين دبلوماسية على هامش المؤتمرات العلمية في أوروبا وإفريقيا وآسيا، حيث وجهوا دعوات لأعضاء الشبكة بالتعاون الاستخباري.