“نعمل الآن على تشكيل تحالف عسكري وقوة مشتركة تقودها أوروبا لتوفير ممر آمن لطواقم السفن والناقلات عبر مضيق هرمز، سنرسل مدمرة إلى المنطقة بعد أسبوع، ونطلب من كل السفن التي ترفع علم بريطانيا إخطارنا بنيتها عبور مضيق هرمز”، هذا ما قاله وزير الخارجية البريطاني جيريمي هانت أمام مجلس العموم البريطاني خلال اجتماع طارئ لخلية الأزمة عقدته الحكومة البريطانية برئاسة رئيسة الوزراء المستقيلة تيريزا ماي.
وبعد سلسلة من اجتماعات لجنة الطوارئ بحضور كبار قادة الدفاع والأمن لتدارس تداعيات الأزمة مع إيران، قررت الحكومة البريطانية بالتشاور مع حلفائها الاستمرار في خفض التصعيد مع إيران والسعي لتأمين الملاحة البحرية في الخليج بمعزل عن مقترح واشنطن التي تمارس أقصى ضغط على إيران، في حين يؤكد هانت أن “المملكة المتحدة ستبقى ملتزمة بالاتفاق النووي” الذي يهدف إلى كبح برنامج الصواريخ الإيراني مقابل رفع العقوبات.
نحو مزيد من عسكرة مياه الخليج
كان احتجاز إيران للناقلة البريطانية مخيمًا على حديث وزير الخارجية، الذي دعا طهران إلى الإفراج الفوري عن الناقلة “ستينا إمبيرو” التي ترفع العلم البريطاني، التي احتجزها الحرس الثوري الإيراني في بحر عُمان عند مدخل مضيق هرمز، فيما وصفته لندن بأنه “قرصنة دولة”، مشيرًا إلى عرض للإفراج عن ناقلة النفط الإيرانية المحتجزة في جبل طارق منذ نحو 3 أسابيع إذا قدمت طهران ضمانات بعدم تسليم حمولتها لنظام بشار الأسد.
حدة الموقف البريطاني المعلن على لسان وزير الخارجية لم تحجب تأكيده على عدم السعي لمواجهة مع إيران، لكن في الوقت نفسه، أكد أنه “لا تنازلات فيما يتعلق بحرية الملاحة”، محذرًا من أن على إيران دفع ثمن المضي في سياستها الراهنة بقبول وجود عسكري غربي أكبر على امتداد سواحلها.
المملكة المتحدة تقوم منفصلةً بزيادة وجودها العسكري في الخليج، لأنها تخشى من أن القوة التي تقودها الولايات المتحدة، وتعمل عبر مضيق هرمز ستُعتبر تصعيدًا من جانب إيران، وربما تزيد من فرص حدوث المزيد من النقاط الساخنة
الاقتراح البريطاني الجديد يتشابه إلى حد كبير مع القوات البحرية الدولية الحاليّة العاملة في الخليج بالإضافة إلى قوة الاتحاد الأوروبي لمكافحة القرصنة العاملة قبالة الساحل الشرقي لإفريقيا، لكن مهام هذه القوات هي حماية الشحن إلى حد كبير من الجهات الفاعلة غير الحكومية، في حين أن قوات الأمن البحري المعُلن عنها ستحمي أفراد الطاقم والشحن مما وصفها وزير الخارجية البريطاني بأنه “أعمال قرصنة غير شرعية من إيران”.
وفي حديثه إلى النواب البريطانيين، تطرق هانت إلى الإجراءات البريطانية، لكنه نفى أن تكون جزءًا من العقوبات الأمريكية على إيران، وأعاد التأكيد على سعي بريطانيا لخفض التصعيد، فيما أعلن وزير الدولة لشؤون الدفاع عن مجموعة من الخيارات للرد على احتجاز إيران الناقلة دون إيضاحات بشأن عقوبات لندن قد لوَّحت بها يوم أمس، ومن المتوقع أن يكشف الوزراء البريطانيون خططهم في خطاب أمام البرلمان في وقت لاحق.
وفي إشارة إلى مدى التشاور الذي أجرته المملكة المتحدة بشأن المقترحات حتى الآن، كشف هانت أنه تحدث إلى وزراء الخارجية في ألمانيا وفرنسا وفنلندا والسويد والدانمارك، ليس هذا فقط، فبحسب تصريحات هانت، فإن سفينة حربية ثانية أرسلتها بريطانيا إلى المنطقة ستصل بحلول 29 من يوليو/تموز الحاليّ، لضمان استمرار الوجود الأمني البحري البريطاني.
الناقلة البريطانية “ستينا إمبيرو” في ميناء بندر عباس يوم 21 من يوليو/تموز 2019
يُضاف ذلك إلى جانب التجييش العسكري الأمريكي في الخليج، حيث أُرسلت السفن والقوات الأمريكية إلى السعودية بدعوى “تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة”، ما يعني أن المملكة المتحدة تقوم منفصلةً بزيادة وجودها العسكري في الخليج، لأنها تخشى من أن القوة التي تقودها الولايات المتحدة، وتعمل عبر مضيق هرمز ستُعتبر تصعيدًا من جانب إيران، وربما تزيد من فرص حدوث المزيد من النقاط الساخنة.
واعترف هانت بأن الولايات المتحدة طلبت أولاً من المملكة المتحدة المساهمة في قوة حماية بحرية بقيادة الولايات المتحدة في 24 من يونيو/حزيران، مما أدى إلى طلب رسمي في 30 من يونيو/حزيران، لكنه قال إنه يريد أن تكون المساهمة في قوة الحماية البحرية المقترحة واسعة قدر الإمكان، ما يعني أن عددًا من الدول الأوروبية لن تكون مستعدة للمساهمة إذا كانت الولايات المتحدة التي تقود القوة.
وفي مذكرة مشتركة صادرة عن الاتحادات التجارية الرائدة يوم الإثنين، طُلب من قباطنة السفن التسجيل لدى هيئة الاتصال التابعة للبحرية الملكية، وتقديم خطط النقل الخاصة بهم قبل 24 إلى 48 ساعة من دخول المنطقة، وشملت التفاصيل المطلوبة جنسيات أفراد الطاقم وأي قيود وسرعة السفينة، على أن تُنقل المعلومات المقدمة إلى البحرية الأمريكية والقوات البحرية الأخرى المشاركة في الجهود المبذولة لإنشاء مبادرة أمنية متعددة الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة أُطلق عليها اسم “الحارس” لزيادة المراقبة والأمن في الممرات المائية الرئيسية في الشرق الأوسط كما تقول واشنطن.
في هذه النقطة بالتحديد، وتزامنًا مع اجتماع الأزمة البريطاني، خرج وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو ليعلن أن على لندن حماية سفنها بنفسها، أي لا دخل للولايات المتحدة في حماية سفن الآخرين، وهو ما صرح به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مناسبات سابقة عندما أعلن أن على جميع الدول تأمين الحماية لسفنها المارة بمياه الخليج ومضيق هرمز، حيث يمر عبره كل عام خُمس النفط العالمي وربع الغاز الطبيعي المسال، الذي تبلغ قيمته نصف تريليون دولار.
يصر المسؤولون الإيرانيون على أن هناك فرقًا جوهريًا بين الحالتين، وعلى لسان المتحدث باسم الحكومة، نفوا أن يكون احتجاز الناقلة البريطانية ردًا على احتجاز الناقلة الإيرانية “غريس 1”
أمَّا إيران فتستمر في إطلاق الصور والفيديوهات الخاصة بناقلة النفط البريطانية، في وقت أعلنت فيه السفارة الإيرانية بالهند أن طاقم الناقة المكون من 23 بحارًا بخير ولا يزالون على متنها في ميناء “بندر عباس”، في حين تُظهر صور الناقلة البريطانية المحتجزة أن الإيرانيين قاموا بمحاكاة الطريقة ذاتها التي احتجزت بها قوات مشاة البحرية البريطانية الناقلة الإيرانية قبالة سواحل جبل طارق، لكنهم زادوا برفع العلم الإيراني عليها، وهو ما فهمه بعض المراقبين بأنه تعمد إذلال البريطانيين.
ورغم التأكيد البريطاني الذي جاء على لسان المتحدث باسم رئيسة الوزراء البريطانية بأن الاستيلاء على السفينة التي تمارس نشاطًا مشروعًا عبر خطوط شحن معترف بها دوليًا تم تحت “ذرائع زائفة وغير قانونية”، يصر المسؤولون الإيرانيون أن هناك فرقًا جوهريًا بين الحالتين، وعلى لسان المتحدث باسم الحكومة، نفوا أن يكون احتجاز الناقلة البريطانية ردًا على احتجاز الناقلة الإيرانية “غريس 1″، ودعا المتحدث الإيراني منتقدي بلاده للإفراج عن الناقلة الإيرانية.
وذاك سجال لا تحتاج إلى مزيد منه حرارة الخليج ومضيق هرمز الذي تقول إيران إنها “لن تتسامح بخصوص أمن الملاحة فيه”، فهل يتحقق هذا الأمن الذي تنشده تصريحات الجميع بمزيد من الحشود الأوروبية المرتقبة بعد التصريحات البريطانية؟
بريطانيا في منتصف الأزمة
دخلت بريطانيا بشكل مباشر في المواجهة مع إيران في 4 من يوليو/تموز الحاليّ، عندما استولت قوات المشاة البريطانية على ناقلة إيرانية قبالة سواحل جبل طارق، واتهمتها بريطانيا بانتهاك العقوبات المفروضة على سوريا، مما أثار تهديدات إيرانية متكررة بالانتقام، فكان الرد الإيراني بالاستيلاء على السفينة البريطانية في أهم ممر لتجارة النفط العالمية هو أحدث تصعيد خلال ثلاثة أشهر في المواجهة مع الغرب، التي بدأت مع بدء سريان العقوبات الأمريكية الجديدة في بداية شهر مايو/أيار الماضي.
لندن ليس لديها سوى القليل من الخيارات الجيدة لممارسة الضغط على إيران في وقت فرضت فيه واشنطن بالفعل أقصى العقوبات الاقتصادية الممكنة، وحظرت صادرات النفط العالمية لإيران
احتجاز الناقلة البريطانية الذي وقع يوم الجمعة فاقم إزعاج لندن التي تحزم رئيسة الوزراء حقائبها بعد يومين لمغادرة المنصب بعد إخفاق تاريخي في ملف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي “بريكست”، في حين يرى مراقبون أن إخفاقًا من نوع آخر كشفه احتجاز “ستينا إم بيرو”، حيث تثور تساؤلات عن مدى تفكير المسؤولين البريطانيين في ردود الفعل الإيرانية قبل احتجازهم لناقلة جبل طارق، فضلاً عن تساؤلات أشد عن قدرة البحرية الملكية على حماية المصالح البريطانية حول العالم وعجزها عن تأمين الملاحة بمفردها في الخليج أو في مناطق أخرى من العالم، حيث تراجعت بواقع النصف خلال السنوات الـ15 الماضية.
الآن، تقف الحكومة البريطانية في موقف صعب للغاية، فهي لا تريد أن تدعم ما يريده الأمريكيون، وهو المشاركة في مساعي واشنطن لتشكيل تحالف عسكري دولي لحماية الشحن التجاري والممرات المائية الإستراتيجية قبالة سواحل إيران واليمن، لكن ليس لديهم ما يكفي من السفن الحربية الخاصة بهم لحماية ناقلات النفط التي ترفع علم المملكة المتحدة، وهو ما عبَّر عنه هانت بقوله إنه لا يمكن للبحرية الملكية توفير مرافقين لكل سفينة أو القضاء على جميع مخاطر القرصنة، ولكن يمكن تقليل المخاطر بشكل كبير إذا تعاونت شركات الشحن التجارية تعاونًا تامًا مع مشورة الحكومة البريطانية.
يُضاف إلى ذلك أن المواجهة بين إيران وبريطانيا، على وجه الخصوص، تحمل تعقيداتها، فالدول الأوروبية – بما في ذلك بريطانيا – تقع في الوسط بين واشنطن وطهران، وتحتل مكانة محورية في مجموعة من الدول الأوروبية التي لم توافق على قرار الولايات المتحدة بالانسحاب من الصفقة النووية، وحاولوا الحفاظ على الحياد، والتوسط لحل صراع أوسع بين طهران وواشنطن بشأن مصير اتفاق عام 2015 مع القوى العالمية، لكنهم فشلوا حتى الآن في تقديم طريقة أخرى لإيران لتلقي المزايا الاقتصادية الموعودة للاتفاق.
داخليًا، كانت هناك إشارات على أن قرار هانت – وهو دعوة جيوستراتيجية كبيرة لدعم استمرار أوروبا بالصفقة النووية – قد لا يحظى بشعبية لدى مؤيدي بوريس جونسون الذي ينافس هانت على رئاسة الوزراء في سباق انتهي اليوم بفوز جونسون بزعامة حزب المحافظين ورئاسة الوزراء، وقد بدأ ذلك بحسب صحيفة The Guardian البريطانية في تحدي مايكل فالون – وزير الدفاع السابق الذي رشحه البعض ليصبح وزير خارجية جونسون – لوزير الخارجية الحاليّ، ليعلن أنه لن يكون من المنطقي أن تُستبعد الولايات المتحدة من القوة المقترحة إذا أرادوا الانضمام، في حين تحدث مؤيد آخر لجونسون، وهو إيان دنكان سميث، قائلاً إن الأمريكيين “الوحيدون الذين حصلوا على أي أصول”.
وتشير هذه المعطيات مجتمعةً إلى أن لندن ليس لديها إلا القليل من الخيارات الجيدة لممارسة الضغط على إيران في وقت فرضت فيه واشنطن بالفعل أقصى العقوبات الاقتصادية الممكنة، وحظرت صادرات النفط العالمية لإيران، لكن الحادث قد يدفع بريطانيا ودول أخرى إلى أن تكون أكثر استعدادًا لأن واشنطن طلبت من حلفائها المترددين توفير المزيد من السفن للمساعدة في تأمين الخليج.
ارتفاع مستوى المخاطر
تبقى الأجواء مشحونة بقدر من التوتر بالغ الانفجار في أي لحظة، لكن بموازاة ذلك، يزور وزير الخارجية العُماني يوسف بن علوي إيران مجددًا يوم السبت بعد أن دعت بلاده جميع الأطراف لضبط النفس. كان الوزير العُماني قد قام برحلة مماثلة لطهران في 22 من مايو/أيار الماضي إثر الموجة الأولى من التصعيد في الخليج بين واشنطن وطهران.
رغم هذا، لا يُعرف سقف واضح لهذا التصعيد المتبادل في المنطقة ولا على أي ناقلة سيكون الدور في تلك الحرب المحتدمة ربما على غير مثال سابق، وبحسب محللين، فإن المواجهة تزيد من فرص الصراع حتى لو لم يرغب أي طرف في الحرب.
هذا النوع من الاستفزاز المتبادل وتصاعد التوترات يمكن أن يخلق وضعًا يتصاعد فيه بسرعة نوع من سوء الفهم
هنا، تتجه المنطقة إمَّا نحو تصاعد التوترات والصراعات التي قد تكون في ذروتها اندلاع الحرب أو الاحتكاك العسكري المباشر أو قد تتجه نحو المفاوضات، إذ يرى خبراء بريطانيون أن تسوية الأزمة من جذورها تتطلب التزام أوروبا بالاتفاق النووي المبرم مع إيران والسعي بجدية لتغيير الموقف الأمريكي.
وفي حين يعتقد البعض أن الولايات المتحدة أو إيران لا تريدان حقًا شن حرب، لكن هذا النوع من الاستفزاز المتبادل وتصاعد التوترات يمكن أن يخلق وضعًا يتصاعد فيه بسرعة نوع من سوء الفهم، ومع تزايد التهديدات العسكرية من الولايات المتحدة، ربما تكون هذه هي الطريقة التي تتبعها الحكومة الإيرانية لتقول للمجتمع الأوروبي إن ما يحدث “أمر خطير، أنتم تحتاجون إلى مساعدتنا هنا، وإلا قد تسوء الأمور”.