رغم أن معدلات عودة اللاجئين السوريين من تركيا إلى بلادهم لا تزال دون المتوقع، إلا أن الشهور القادمة قد تشهد ارتفاعاً لافتاً في أعداد العائدين، مع تحسن الظروف الأمنية ونهاية العام الدراسي الحالي.
وتطرق تقرير سابق لموقع “نون بوست”، إلى مجموعة عوامل ساهمت في عدم ارتفاع أعداد السوريين الذين قرروا التخلي عن بطاقة الحماية المؤقتة، وسارعوا للعودة إلى بلادهم، إذ صرح وزير الداخلية التركي في آخر إحصائية، بأن عدد السوريين الذين عادوا إلى وطنهم خلال الشهر الماضي بلغ 52 ألفاً و622 شخصاً.
كما أشار الوزير “يرلي كايا” إلى بدء تطبيق برنامج “اللاجئ الرائد” لتسهيل عمليات العودة الطوعية، بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني السورية وقادة الرأي في المناطق الآمنة بسوريا. وأكد أنه ضمن إطار هذا التطبيق، عاد منذ الأول من يناير كانون الثاني، 1766 سورياً كـ “لاجئ رائد” إلى وطنهم.
وخلال سنوات الثورة السورية، استقبلت تركيا أكبر نسبة من اللاجئين السوريين على المستوى العالمي، بأعداد تراوحت بين نحو 3 و4 ملايين مسجلين رسمياً تحت نظام “الحماية المؤقتة”، ويشمل هذا العدد نحو 875 ألف طفل سوري وُلدوا ويعيشون في تركيا، بحسب وزير الداخلية التركي.
ومن المتوقع ألا تتوقف تأثيرات اللجوء في تركيا بعد عودة ملايين اللاجئين من هناك إلى بلادهم، وأن تستمر هذه التأثيرات سنوات طويلة، وتؤسس لعلاقات “استثنائية” بين الدولتين الجارتين، وخاصة في المجالات التالية:
الجانب الاقتصادي
خلال 13 عاماً من تاريخ الوجود السوري في تركيا، ساهم اللاجئون السوريون بشكل فعال في سوق العمل المحلية، وحققوا اندماجاً اقتصادياً سريعاً وملحوظاً، وباتوا جزءاً من دورة العمل في كثير من المجالات.
وبحسب دراسة اقتصادية سابقة، فقد تم نقل نحو 10 مليارات دولار من الأموال السورية إلى تركيا بين عامي 2011 و2016، ووفقاً لبيانات اتحاد غرف وبورصات السلع في تركيا لعام 2023، أسهم السوريون في إنشاء 10 آلاف و332 شركة منذ 2010، برأس مال يقارب 632 مليون دولار، تشكل حصة السوريين منه 80%.
ومن المتوقع أن يبقى تأثير هذا الاندماج الاقتصادي الفعال حتى في مرحلة عودة اللاجئين السوريين، وذلك من عدة نواحٍ، أبرزها أن غالبية المعامل لن يقرر مالكوها العودة إلى سوريا خلال وقت قريب، بسبب ترهل البنية التحتية والخدمية. وحتى المعامل التي تقرر العودة في وقت قريب أو متوسط فإنها ستبقى معتمدة في استيراد المواد الخام وخطوط الإنتاج من تركيا، بحكم الخبرة الوافية عن تلك السوق والتعامل الطويل معها، ناهيك عن إمكانية حدوث شراكات اقتصادية فعالة بين التجار والصناعيين والاقتصاديين السوريين مع نظرائهم الأتراك، الذي ستكون سوريا بالنسبة إليهم سوقاً واسعة لتصريف البضائع أو لإنشاء مصانع تعتمد على العمالة رخيصة الثمن مقارنة بتركيا.
ومن الأبواب الاقتصادية الفعالة المتوقعة، القطاع السياحي، إذ أسهم السوريون بشكل كبير في إنشاء شركات سياحية متطورة، أو كانوا موظفين وعاملين في شركات تركية محلية.
ويبدو جانب التعاون المستقبلي في أن سوريا خلال السنوات القليلة القادمة لن تكون جاهزة للعودة إلى نشاطها السياحي ما قبل العام 2011، وهذا يعني أن غالبية العاملين السوريين في قطاع السياحة بتركيا، سيظلون رافدين لهذا القطاع حتى بعد عودتهم إلى سوريا، من خلال استمرار التعاون في هذا المجال، ولا سيما أن السياح العرب هم من أكثر الفئات السياحية إنفاقاً في تركيا.
الشاب “محمد عبد الكريم” يعمل في إحدى الشركات السياحية الكبيرة بمنطقة تقسيم الشهيرة في إسطنبول، ويؤكد أن مع عزمه العودة إلى سوريا في وقت قريب، لن يترك عمله في شركته، وسيواصل ذلك “عن بُعد”، في فائدة مشتركة له وللشركة نفسها.
يقول “محمد” لموقع “نون بوست”، إنه اتفق مع صاحب شركته على تقاضي نصف الراتب الذي يتقاضاه حالياً، مقابل توفير خدمات التواصل مع السياح العرب الراغبين بالسفر إلى تركيا، أو تقديم خدمات الحجز الفندقي لهم.
وأعرب عن أمنيته بأن يأتي اليوم الذي تكون فيه بلاده قادرة على استقبال السياح بأعداد مرتفعة، ويستدرك: “حتى بعد الوصول إلى تلك المرحلة، فإن السياحة في تركيا نشطة جداً، ولا أستبعد تأمين برامج سياحية مشتركة بين سوريا وتركيا في يوم ما”.
الجانب الثقافي والتعليمي
ضمن التصريحات السابقة لوزير الداخلية التركي “يرلي كايا”، ذكر أن عدد الطلاب السوريين في تركيا يبلغ 819 ألفاً و265 طالباً، موزعين كالتالي: 103 آلاف طالب في المرحلة الثانوية، و273 ألفاً في المرحلة الإعدادية، و398 ألفاً في المرحلة الابتدائية، ونحو 44 ألفاً في رياض الأطفال، إضافة إلى 60 ألفاً و750 شاباً سورياً يتلقون تعليمهم في الجامعات التركية، فيما تخرج حتى الآن 17 ألفاً و379 طالباً سورياً من هذه الجامعات.
ومن نافلة القول إن هذا العدد الكبير من الطلاب والتلاميذ السوريين لا نظير له في أي دولة بالعالم، وهذا ما يجعل تركيا بالنسبة لهذه الفئة من الشباب السوريين هي ليست دولة لجوء فقط، إنما دولة تلقوا فيها سنوات طويلة من التعليم وصولاً لمرحلة التخرج من الجامعة.
وهذا ما يحمل عدة دلالات سيكون لها تأثيرات مباشرة بعد عودة هؤلاء الطلاب والتلاميذ إلى بلدهم، ويأتي على رأس هذه التأثيرات موضوع اللغة التركية التي سيحملها أولاد اللاجئين معهم، ويكونون بمثابة “سفراء” للغة والثقافة التركية إلى وطنهم الأم، بما يشمل سهولة التواصل المستقبلي مع الجارة الشمالية، والإمكانية الكبيرة لإنشاء مدارس ومعاهد لغات لتعليم اللغة التركية، استكمالاً لمعاهد ومدارس مشابهة موجودة أصلاً في مناطق سيطرة الجيش الوطني في الشمال السوري.
ونقلت منصة “كوزال نت” عن صحيفة “Voaturkce“ التركية، أن خبراء الهجرة أشاروا إلى أن السوريين الذين عاشوا في تركيا لأكثر من عشر سنوات، سيلعبون دوراً مهماً في مستقبل العلاقات بين البلدين.
وبحسب المنصة، فإن الدكتورة ديدم دانش، الأستاذة الأكاديمية في جامعة غلطة سراي ومؤسسة جمعية أبحاث الهجرة، أوضحت أن الأطفال السوريين الذين ولدوا وتعلموا في تركيا سيؤدون دوراً مهماً في المستقبل بين تركيا وسوريا.
وقالت دانش: “لكن الأمر لا يقتصر على الأطفال فقط؛ فالشباب البالغون الذين قضوا معظم حياتهم في تركيا يشاركون في هذا الواقع أيضاً. اليوم، هناك في سوريا جيل يعرف تركيا ويتحدث اللغة التركية. وهذا الوضع سيساهم في بقاء الروابط الثقافية والاقتصادية والسياسية بين البلدين قوية دائماً”.
ويكفي في هذا المجال استذكار أن وزير الخارجية السوري الجديد “أسعد الشيباني” نال درجة الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الخارجية من جامعة صباح الدين زعيم في تركيا عام 2022، وأكمل فيها درجة الدكتوراه في التخصص نفسه عام 2024، بينما نال محافظ حلب الجديد “عزام غريب”، المعروف باسم “أبو العز سراقب”، درجة الماجستير في كلية الإلهيات بجامعة بنغول التركية عام 2019، وهو ما يعني بشكل مباشر أن شباباً سوريين آخرين من اللاجئين في تركيا قد يصلون في المستقبل القريب إلى مناصب حكومية في الدولة السورية الجديدة.
الروابط الأسرية
المدة الزمنية الطويلة للجوء السوري في تركيا أنتجت كذلك روابط اجتماعية قوية عبر زواج السوريين من المواطنات التركيات أو العكس، وهو ما ساهم في زيادة الروابط الأسرية بين الشعبين، والتي كانت موجودة أصلاً قبل العام 2011، وارتفعت معدلاتها خلال السنوات الثلاث عشرة الماضية.
وفي العام 2023، حل السوريون في المراتب الأولى بقائمة المتزوجين الأجانب من مواطني تركيا، إذ كانوا في المرتبة الثانية بالنسبة للذكور بعد حاملي الجنسية الألمانية للمتزوجين من تركيات، وفي المرتبة الثانية أيضاً بالنسبة للسوريات المتزوجات من أتراك بعد الجنسية الأوزبكية.
ولا شك أن هذه العلاقات الأسرية تؤسس لروابط أوسع في المستقبل مع الأجيال القادمة، وتقوي أواصر العلاقات في مختلف المجالات بين العوائل المتصاهرة، وكذلك بين أقارب تلك العوائل.
وفي مجمل الأمر، فإن حالة اللجوء السوري في تركيا شكلت نموذجاً فريداً خلال 13 عاماً، لم يتكرر في دولة أخرى من الجوار السوري أو غيره، فرغم اختلاف اللغة بين البلدين تحققت عدة روابط بين المجتمع المضيف و”الضيوف السوريين”، يرجح أنها لن تنتهي مع مرحلة عودة اللاجئين إلى بلادهم، إنما ستؤسس لعلاقات أكثر عمقاً بين الدولتين، إلى جانب التقارب السياسي.