تطور جديد تشهده الصحف القومية المصرية هذه الأيام، يضاف إلى حزمة التخوفات التي أبداها آلاف العاملين بها خشية المصير الذي يواجه مستقبلهم، فالصحف التي كانت بالأمس الضمانة الوحيدة للبقاء والاستمرارية في مقابل الوسائل المستقلة الأخرى باتت اليوم قاب قوسين أو أدنى من التصفية.
رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، أصدر أمس اللائحة التنفيذية لقانون الهيئة الوطنية للصحافة الصادر بالقانون رقم 179 لعام 2018 ، تلك اللائحة التي هدفت – بحسب مصادر حكومية – إلى إعادة هيكلة المؤسسات القومية، في ضوء موجة الانتقادات التي تعرضت لها الفترة الأخيرة بسبب خسائرها المتتالية، الأمر الذي دفع بعض الأصوات إلى المطالبة بإغلاقها أو دمجها.
تساؤلات عدة جرت على لسان الكثير من الصحفيين والإداريين العاملين بتلك المؤسسات بشأن ما تحمله اللائحة الجديدة من غموض يحمل التأويل على نطاق واسع، وهو ما يجعل مستقبل هؤلاء على المحك، هذا في الوقت الذي تتجه فيه الدولة إلى تقليل النفقات عبر العديد من الإستراتيجيات الاقتصادية والإدارية المتبعة.
مواد غامضة
تضمنت اللائحة العديد من المواد المثيرة للجدل وفق بعض المراقبين، إذ أشارت في مادتها الثانية إلى “أن تتولى الهيئة الوطنية للصحافة إدارة المؤسسات الصحفية القومية، وتعمل على تطويرها وتنمية أصولها وتحديثها، وضمان استقلالها وحيادها والتزامها بأداء مهني وإداري واقتصادي رشيد”.
المادة حوت كذلك على أحقية الهيئة أن “تتخذ كافة القرارات وتُجري جميع التصرفات والأعمال لتحقيق أهدافها، وعلى الأخص ما يأتي؛ إجراء حصر شامل لكافة المؤسسات الصحفية والقومية ولكافة أصولها وموجوداتها المستغلة وغير المستغلة ووضع وتنفيذ خطة لتنمية وتعظيم الاستفادة الاقتصادية منها بأفضل السبل، ولها أن تستعين في ذلك بأية جهات أو أشخاص من ذوي الخبرة في هذا المجال”.
كما تشير المادة السادسة إلى ضرورة أن “يُبلغ رئيس مجلس إدارة المؤسسة الصحفية القومية الهيئة بصورة مُعتمدة من القرارات التي يصدرها مجلس إدارة المؤسسة، وذلك خلال أسبوع من صدورها، ولرئيس الهيئة، عند الاقتضاء، أن يستصدر قرارًا عاجلاً من هيئة المكتب بالاعتراض على القرارات المخالفة للقانون أو لهذه اللائحة، ويطلب من المؤسسة وقف القرار المخالف لحين عرض الأمر على الهيئة لاتخاذ القرار النهائي في الأمر”.
فيما نصت المادة الأخيرة على “تقوم المؤسسة الصحفية القومية بإعداد الدراسات اللازمة لإصدار أية صحيفة جديدة، على أن تتضمن الهدف من إنشائها والجدوى المالية لها أو أية عناصر ضرورية أخرى، ثم تُعرض هذه الدراسات على مجلس إدارة المؤسسة للنظر في الموافقة على إصدار الصحيفة تمهيدًا للعرض على الهيئة لتقرر ما تراه مناسبًا في هذا الشأن”.
تعاني الصحف القومية المصرية من أزمات طاحنة خلال السنوات الأخيرة، إذ بلغت قيمة العجز بها قرابة 19 مليار جنيه ما بين ديون وخسائر
وتتمحور الأهداف التي حددتها الهيئة في هدفين اثنين: الأول وضع آلية لرصد ومتابعة وتقويم الأداء الاقتصادي والإداري للمؤسسات الصحفية القومية على نحو يمكن الهيئة من بسط رقابتها وإشرافها على النواحي الاقتصادية والإدارية بتلك المؤسسات، في ضوء السياسات والخطط الاقتصادية التي تضعها كل منها وتوافق عليها الهيئة.
هذا الهدف يمنح الهيئة الحق في وضع قواعد وضوابط محددة لتعيين رؤساء مجالس إدارة المؤسسات الصحفية القومية وتحرير المطبوعات الصادرة عنها والمواقع الإلكترونية، والأعضاء المعينين في الجمعيات العمومية لهذه المؤسسات، هذا بخلاف مسؤوليتها عن تحديد البدلات التي يتقاضاها رؤساء وأعضاء الجمعيات العمومية للمؤسسات الصحفية القومية، وتضع قواعد تحديد البدلات التي يتقاضاها رؤساء وأعضاء مجالس إدارة هذه المؤسسات.
فيما يشمل الهدف الثاني “وضع آلية للتوفيق في المنازعات التي قد تنشأ فيما بين المؤسسات الصحفية القومية أو بينها وبين غيرها، وذلك بإنشاء لجنة داخل الهيئة تتولى مهمة التوفيق في تلك المنازعات، على أن تتضمن هذه الآلية تنظيم طريقة لجوء أطراف النزاع إلى اللجنة، وتحديد الصلاحيات المُخولة للجنة في سبيل التقريب بين وجهات نظر أطراف النزاع، وبيان الوقت المتاح لانتهاء جهود التوفيق والكيفية التي يتم بها اعتماد الهيئة لما يتم التوصل إليه من اتفاق بين أطراف النزاع”.
رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي
الصحافة القومية.. خسائر متواصلة
تعاني الصحف القومية المصرية من أزمات طاحنة خلال السنوات الأخيرة، إذ بلغت قيمة العجز بها قرابة 19 مليار جنيه ما بين ديون وخسائر، بحسب رئيس الهيئة الوطنية للصحافة، كرم جبر الذي أوضح خلال فحصه نسب الخسارة والمكسب أن الدين لا يتعدى ثلث المبلغ المذكور سابقًا، مضيفًا أن هناك العديد من الديون مختلف عليها، حيث تدخلت الدولة في مرحلة من المراحل ومنحت المؤسسات معونات كما منحت القطاعات الأخرى، من خلال صندوق “دعم مؤسسات الدولة”، لكن الحكومة سجلت هذا الدعم على أساس ديون.
رئيس الهيئة في تصريحات سابقة له أضاف “بعض الديون على المؤسسات القومية بها خلاف مع الحكومة، بسبب تسجيلها لدى المؤسسات باعتبارها دعم، في الوقت الذي اعتبرتها الحكومة ديونًا”، موضحًا أنه بسبب الفوائد المتراكمة للبنوك وصلت ديون إحدى المؤسسات من 50 مليون جنيه إلى ما يقرب من المليار، مطالبًا بتقسيم وتوظيف هذه الديون حتى تستطيع المؤسسات الصحفية الالتزام بها.
وفي إطار مساعي الهيئة تحسين الأوضاع نسبيًا أصدرت قرارًا برفع أسعار الصحف بمقدار 50% يونيو الماضي، رغم ما تعانيه تلك المطبوعات من تراجع ملحوظ في حجم المبيعات خلال السنوات الماضية بسبب حزمة من الأسباب على رأسها تواضع المادة التحريرية المقدمة وعدم تلبيتها لرغبات القراء، بجانب الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعصف بالمصريين.
الهدف من وراء هذه الزيادة وفق ما جاء على لسان جبر كان “تعويض جزء يسير من الخسائر التي تتكبدها المؤسسات الصحفية، حيث تبلغ تكلفة الصحيفة اليومية 8 جنيهات والأسبوعية 12 جنيهًا في الوقت الذي تباع فيه بجنيهين فقط”، لافتًا إلى أن القرار مرتبط بتطوير شامل في المحتوى التحريري وتقديم خدمات جديدة للقراء وتطوير الصحف شكلاً ومضمونًا، حتى تحافظ على معدلات التوزيع وتكون قادرة على المنافسة.
19 مليار جنيه خسائر الصحف القومية
إلى أين؟
ذهب بعض الصحفيين العاملين بداخل تلك الصحف إلى أن هناك مخططًا للتصفية، بدأت إرهاصاته تلوح في الأفق مع الحديث عن فشل تلك الكيانات في مواكبة التطورات العصرية، ورفع يد الحكومة عنها بين الحين والآخر، لصالح كيانات أخرى خاصة، ما دفعها إلى الوقوع في مأزقها الحاليّ.
“أحمد. س” الصحفي بمؤسسة الأهرام القومية أشار إلى أن الهدف من تصفية تلك الصحف يتمثل في تسديد الديون ومحاولة تقليل حجم الخسائر، هذا بجانب تقليل الدعم ومن ثم توفير النفقات، محذرًا من النتائج المترتبة على هذه السياسة فيما يتعلق بمستقبل آلاف العاملين ما بين صحفيين وإداريين.
الصحفي بالأهرام في حديثه لـ”نون بوست” كشف عن مناشدات عدة تقدم بها الصحفيون للهيئة الوطنية للصحافة ومن قبلها المجلس الأعلى للصحافة بضرورة إعادة هيكلة تلك الصحف ووضع إستراتيجيات تحفظ لها هيبتها وتضمن لها البقاء عبر استحداث موارد جديدة تغطي النفقات العالية، مضيفًا: “من الواضح أنه لم تكن هناك رغبة حقيقية في التطوير، وعليه فالتصفية هي القرار على ما يبدو”.
تتمثل الإستراتيجية الثالثة في تحويل بعض الإصدارات إلى إصدارات إلكترونية فحسب، بهدف تقليص الخسائر التي تتكبّدها المطبوعات المختلفة واستيعاب عمالتها، إلى جانب توفير نفقات معينة
في تقرير سابق لـ”نون بوست” كشف عدد من الإستراتيجيات المتبعة لتصفية تلك الصحف، الإستراتيجية الأولى تتمثل في غلق بعض المطبوعات التي تتكبد خسائر كبيرة ولا تحقق جدوى من استمرارها، هذا الغلق يساعد الحكومة في استغلال الأراضي والمباني الخاصة بتلك الصحف وبيعها لتسديد الديون والاستفادة من العائد المالي جراء هذا البيع خاصة أن معظم تلك الصحف تقع في مناطق إستراتيجية ذات قيمة عالية ونسبة كبيرة منها في منطقة وسط البلد بالقاهرة.
أما الإستراتيجية الثانية فتعتمد على الدمج، حيث يتم دمج عدد من الإصدارات الخاصة بكل مؤسسة في إصدار واحد أو إصدارين على أقصى تقدير، في محاولة لتوفير النفقات، الأمر الذي ربما يحدث تكدسًا واضحًا في تلك الإصدارات جراء توزيع مئات العاملين عليها، وهو ما قد يقود في النهاية إلى الإطاحة بنسبة ليست بالقليلة من العمالة، علمًا بأن مؤسسة الأهرام على سبيل المثال بها أكثر من 30 إصدارًا بينما مؤسسة الأخبار فيتبعها 10 إصدارات تقريبًا.
فيما تتمثل الإستراتيجية الثالثة في تحويل بعض الإصدارات إلى إصدارات إلكترونية فحسب، بهدف تقليص الخسائر التي تتكبّدها المطبوعات المختلفة، واستيعاب عمالتها، إلى جانب توفير نفقات معينة، مع مراعاة استغلال المساحات الشاسعة التي تمتلكها بعض الصحف استثماريًا، بما يمكّنها من تحمّل الإنفاق على ذاتها من العائد الإيجاري لأدوار كاملة أو مبانٍ غير مستغلة.
وعلى الأرجح فإن الفترة القادمة ستشهد نزاعات متصاعدة بين العاملين في تلك المؤسسات ومجالس الإدارات التي وفق اللائحة المعلنة ستكون خاضة للهيئة الوطنية للصحافة، ليواجه آلاف الصحفيين وأسرهم مصيرًا مجهولاً في وقت تعاني فيه منظومة الإعلام المصرية من أزمات لم تشهدها منذ سبعينيات القرن الماضي.