تنتهي الحرب الإسرائيلية على غزة بعد التوصل إلى اتفاقية لوقف إطلاق النار وانسحاب تدريجي لجيش الاحتلال من مناطق القطاع، إلى جانب عودة غير مشروطة لسكان الشمال، ضمن صفقة تبادل للأسرى يخرج بموجبها حوالي 1000 أسير فلسطيني خلال المرحلة الأولى فقط، إذ من المرجح أن يتم الإفراج عن 30 أسيرًا فلسطينيًا مقابل كل أسير إسرائيلي، على 6 دفعات، تكون المرحلة الأولى والسادسة أكبرها من ناحية العدد.
وبعد انقضاء 15 شهرًا من حرب الإبادة الجماعية التي بدأها الاحتلال في السابع من أكتوبر 2023، في حرب هي الأطول منذ بدء الصراع العربي الإسرائيلي، كانت خسارة الفلسطينيين الإنسانية ضخمة، إذ راح ضحية هذا الحرب الوحشية أكثر من 46 ألف شهيد وأكثر من 109 آلاف جريح ومصاب من سكان غزة. ودمار 69% من مساحة القطاع، بمعدل 245 ألف وحدة سكنية لم تعد صالحة للعيش، إلى جانب نزوح 90% من سكان القطاع داخليًا إلى مناطق متفرقة.
لكنها حرب تحرر كبرى من آخر احتلال استعماري موجود على وجه البسيطة، ودائمًا ما كان ثمن الحرية غاليًا ومهولًا، وإذا ما كان الفلسطينيون قد دفعوا في معركة طوفان الأقصى ثمنًا هائلًا لتحررهم من ربقة الاحتلال، فإن المستعمرين الصهاينة يألمون كما يألم أبناء الأرض، ويتجرعون مرارة احتلالهم وأثمان عدوانهم من حياتهم وأموالهم وسمعتهم بل ومستقبل كيانهم وأبنائهم.
فقد كبدت المقاومة “إسرائيل” خسائر غير مسبوقة على الصعيدين البشري والمادي، إذ قتل في غزة أكثر من 840 جنديًا إسرائيليًا في أثناء عمليات الاجتياح داخل القطاع، في حين خرج أكثر من 10 آلاف جندي مصابًا عقب اشتباكات عنيفة مع فصائل المقاومة. وتشير التقارير إلى أن 70% من هؤلاء الجنود يعانون من إعاقات دائمة، نتيجة إصابات خطيرة في أطرافهم. عدا عن تعرض “إسرائيل” لأضرار جسيمة في اقتصادها وسمعتها الدولية، يصعب عليها تجاوزها على المدى الطويل.
خسائر الاحتلال المادية
كشفت لجنة فحص ميزانية الأمن والدفاع الإسرائيلية “ناجل” في حديث حول أرقام الحرب ونتائجها، أن تكلفة الحرب على قطاع غزة بلغت ما يقارب 250 مليار شيكل (67.57 مليار دولار) حتى نهاية عام 2024، وهو مبلغ يقتصر على التكاليف الأمنية المباشرة والنفقات المدنية وخسائر الإيرادات، ولا يشمل باقي الجوانب.
فيما قالت وزارة المالية الإسرائيلية إن ميزانية الدولة سجلت عجزًا قدره 19.2 مليار شيكل (5.2 مليار دولار)، حتى ديسمبر/كانون الأول 2024، وهو الأعلى منذ عام 2020. مشيرة إلى أن نفقات الحرب كاملة (في غزة ولبنان) وصلت إلى 621 مليار شيكل (169.7 مليار دولار)، بزيادة 20% عن العام السابق. وهو ما قد يكون سببًا في رفع ميزانية وزارة الدفاع خلال العقود القادمة.
وقد أشارت صحف عبرية محلية إلى عدم دقة ما أعلنته الحكومة الإسرائيلية في تقريرها الصادر نهاية عام 2024، عن وصول العجز المالي إلى 6.9% من الناتج المحلي الإجمالي، واصفة الوضع بـ”أكثر قتامة”، إذ أظهرت التحليلات أن العجز الحقيقي للدولة يصل إلى 7.2% من الناتج المحلي الإجمالي، أي حوالي 142 مليار شيكل (37.7 مليار دولار).
وعلى الرغم من احتفاء رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش برقم دون 7% من العجز، فإن البيانات تؤكد تباطؤ نمو الاقتصاد الإسرائيلي، حيث من المتوقع أن يسجل الناتج المحلي الإجمالي للفرد انكماشًا خلال العام الجديد، بالتزامن مع ارتفاع تكاليف المعيشة بشكل كبير وتأثر الشركات الصغيرة والمتوسطة وإغلاق المئات منها.
كما تتكلف بلديات المستوطنات التبعات المادية لصواريخ حماس بشكل مستمر، حيث كلّف إخلاء مستوطنات الشمال البالغ عددها 28 مستوطنة – حتى فبراير/شباط 2024 – حوالي 613 مليون دولار (بتكلفة توازي 163 ألف دولار يوميًا)، فيما خُصص نحو 1.7 مليار دولار لاستمرار عمليات إخلاء السكان وتوفير سكن بديل لهم.
وبالنسبة إلى الخسائر العسكرية منذ 7 أكتوبر 2023، فمن الصعب الجزم بأرقام دقيقة بسبب تباين التقارير وافتقار البيانات الرسمية الشاملة، مع ذلك تفيد بعض المصادر إلى فقدان “إسرائيل” ما يقرب 88 مركبة مدرعة خلال الأيام الخمسة الأولى من القتال في غزة، تبعها 335 مركبة عسكرية بحلول نوفمبر/تشربن الثاني 2023، ولا يقل عن 1000 دبابة عسكرية بحلول 2023، حسب تصريحات متفرقة لقادة حماس.
أما عن ميزانية عام 2025 التي سنتها حكومة نتنياهو، فقد نجحت في اجتياز التصويت الأولي في الكنيست، لكنها لا تزال بحاجة إلى موافقتين إضافيتين لتصبح قانونًا نافذًا. وفي حال عدم تمرير الميزانية بحلول 31 مارس/آذار 2025 فإن حكومة نتنياهو ستكون مهددة بإجراء انتخابات جديدة، ما يزيد من تعقيد المشهد السياسي الاقتصادي لدولة الاحتلال.
وقد جاء في تقرير لصحيفة “كالكاليست” العبرية اعتمد على تقديرات “بنك إسرائيل”، أن هذه التكلفة “الثقيلة” والمتزايدة تعكس “الفشل” في الحرب على قطاع غزة، موضحة أن هذا يعني “الحاجة إلى رفع ميزانية الدفاع لشراء المزيد من الطائرات والمروحيات وناقلات الجنود المدرعة وكميات أكبر من الأسلحة والذخائر”، إلى جانب زيادة الاستثمار البشري و”الاستثمار في الجندي الإسرائيلي”.
خسائر الاحتلال البشرية
اعتبارًا من يناير 2025، تكبدت “إسرائيل” خسائر بشرية متزايدة في صفوف الجيش والمستوطنين، من بينهم 840 جنديًا، إضافة إلى 58 فردًا من الشرطة و10 أعضاء من جهاز الأمن الداخلي (شين بيت)، فيما تمكنت المقاومة من أسر 251 إسرائيليًا بينهم حملة جنسيات أجنبية، قُتل 36 منهم في القصف الإسرائيلي المكثف على قطاع غزة. عدا عن وقوع أكثر من 1900 جريح أغلبهم في الأيام الأولى التالية لعملية طوفان الأقصى.
وفقًا لمعطيات رسمية صادرة عن وزارة الدفاع الإسرائيلية، استقبل قسم إعادة التأهيل بالوزارة 10 آلاف و56 جنديًا جريحًا بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 وأغسطس/آب 2024، بمعدل يفوق ألف جريح شهريًا نتيجة العمليات العسكرية في غزة.
وأوضحت البيانات أن أكثر من 3700 من المصابين يعانون من إصابات في الأطراف، بينما تشمل الإصابات الأخرى 192 إصابة في الرأس، و168 إصابة في العين، و690 إصابة في النخاع الشوكي، بالإضافة إلى 50 حالة لبتر الأطراف تتلقى العلاج في قسم إعادة التأهيل.
وكشفت هيئة البث الإسرائيلية عن أن 35% من الجنود الجرحى يعانون من اضطرابات نفسية، تشمل القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، في حين أن 37% منهم فقدوا أحد أطرافهم.
وأضافت الهيئة أن غالبية الجرحى، بنسبة 68%، هم من جنود الاحتياط ومعظمهم من فئة الشباب، حيث تتراوح أعمار 51% منهم بين 18 و30 عامًا، و31% بين 30 و40 عامًا. وأشارت أيضًا إلى أن 28% من الجرحى صنفوا “الصعوبات العقلية” باعتبارها المشكلة الأكبر التي تواجههم بعد العودة من القتال في غزة.
ويعلن جيش الاحتلال بشكل متكرر عن إصابات جسدية في صفوف جنوده، وخاصة تلك التي تطال الأطراف، نتيجة الاشتباكات المباشرة من مسافات قريبة في أثناء وجودهم داخل مركباتهم، فيما يتكتّم الجيش بشأن الأعداد الدقيقة للقتلى من الجنود، خشية تأثير ذلك على معنويات باقي أفراد الجيش وامتناعهم عن الذهاب إلى جبهات القتال.
ذكر المحلل العسكري الإسرائيلي، عاموس هارئيل، في تحليل نُشر في صحيفة “هآرتس”، أن “الحكومة تسوّق سلسلة النجاحات العسكرية الأخيرة في غزة وإيران ولبنان كدليل على صحة استراتيجيتها وضرورة مواصلة الحرب على جميع الجبهات، لكن الواقع يفرض تساؤلات حول الثمن الباهظ الذي يدفعه الشعب الإسرائيلي إذا استمرت الحرب لفترة أطول”.
خسائر الاحتلال الاستراتيجية
منذ انطلاق عملية “طوفان الأقصى” وما أعقبها من مواجهات دامية مع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية، إضافة إلى عدة أشهر من الاشتباكات مع “حزب الله” على الحدود اللبنانية، تواجه “إسرائيل” خسائر استراتيجية تتصدر قائمة ما يصعب تعويضه أو تداركه. تمتد لتشمل أبعادًا اقتصادية وسياسية وأمنية، ما يجعلها أمام تحديات وجودية تمس صورتها ومكانتها على المستويين الإقليمي والدولي.
على سبيل المثال، خلص تقرير حديث لمعهد “ميتفيم” الإسرائيلي بعد استعراض جملة من “المكاسب الميدانية” المزعومة التي حققها جيش الاحتلال في حربه الأخيرة، إلى أن هذه المكاسب “جاءت على حساب تعميق الانقسامات داخل المجتمع الإسرائيلي، وتوتر العلاقات مع المجتمع الدولي، بالإضافة إلى إلحاق الضرر بصورة “إسرائيل” كدولة ديمقراطية تسعى إلى السلام وتلتزم بحماية الحقوق الفردية”، حسب وصفه.
كما يقرّ المشرفون على التقرير بأن “إسرائيل فشلت في التعامل مع قضية الرهائن في غزة بالطريقة المثلى”، ويضيف بأنه كان يجب أن تكون هزيمة حماس عسكريًا الورقة التفاوضية الرئيسية بيد “إسرائيل”، بدلًا عن المساومة على حياة الأسرى، ويشير إلى أن “الإصرار على عدم إنهاء الحرب في غزة حتى الآن مدفوع باعتبارات سياسية وليس عملياتية”، فيما يقيّم هذا الوضع بأنه “فشل أخلاقي، يتناقض بشكل صارخ مع القيم الأساسية لليهودية”، وفق تعبيره.
واستعرض المعهد أمثلة عديدة أخرى من بينها، تزايد الانتقادات العالمية ضد “إسرائيل” بما فيها الانتشار الكبير لخطاب الكراهية ومعاداة السامية، بالأخص فيما يتعلق بسياستها تجاه الفلسطينيين، عدا عن السابقة التاريخية لحضور “إسرائيل” في محكمة العدل الدولية كدولة متهمة بارتكاب جرائم حرب، وصدور مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء ووزير الجيش بتهمة، “وهذا ليس سوى غيض من فيض”.
عدا عن خسارة منطقة الجليل شمال الأراضي المحتلة ذات الأهمية الاستراتيجية والأمنية لصالح تحولها إلى منطقة مهددة وغير محصنة أمنيًا، على عكس ما كانت تتمتع به من استقرار طوال العقدين الماضيين مقارنة بمنطقة غلاف غزة جنوبًا. فحسب استطلاع للرأي أجراه معهد “مأجار موحوت” الإسرائيلي العام الماضي، عبّر 70% ممن تم إجلاؤهم من هذه المستوطنات عن عدم رغبتهم في العودة للمنطقة حتى بعد توقف الحرب.
وسبق أن أفاد “بنك إسرائيل” أن غياب 57 ألفًا و600 فرد من القوى العاملة في مستوطنات الشمال يُكبّد الاقتصاد الإسرائيلي خسائر لا يمكن تلافيها تقدر بحوالي 63.2 مليون دولار أسبوعيًا.
صفقة وقف إطلاق النار في غزة وانتهاء الحرب بشروط المقاومة، بقيادة حماس، تؤكد أن الخسائر التي تكبدتها “إسرائيل” تتجاوز بكثير حدود الخسائر البشرية والمادية والاستراتيجية، بل إن هذه الحرب تحمل معها هزيمة طويلة الأمد قد لا تتعافى منها “إسرائيل” إطلاقًا، حيث ظهرت جليًا محدودية القوة الإسرائيلية أمام إرادة المقاومة الفلسطينية.
ولا يمكننا تجاهل أن استمرار “إسرائيل” في القتال حتى يومنا هذا كان ممكنًا فقط بفضل الدعم الأمريكي المطلق وصمت المجتمع الدولي على جرائمها. وفي حال توقفت المساعدات الأمريكية غدًا، سيواجه الاقتصاد الإسرائيلي انهيارًا أكبر مع ارتفاع عجز الميزانية بنسبة إضافية تصل إلى 4.3% من الناتج المحلي الإجمالي، ما سيجعل الحفاظ على قوتها العسكرية أمرًا مستحيلًا على المدى البعيد.