من أهم سمات الاستعمار بمفهومه القديم، الاحتلال العسكري المباشر للبلد والإدارة المباشرة له، ثم بعد ذلك تسخير جميع موارد البلد المُحتل من خيرات وموارد طبيعية وطاقات بشرية لصالح بلد الاحتلال. أما فيما يتعلق بالاستعمار الحديث، فإن دول الاحتلال تستغني عن الأساليب الاستعمارية القديمة بأساليب حديثة، لا تحتاج فيها إلى قوات عسكرية مباشرة، إنما تستخدم عملاء لها من أبناء الشعب القابع تحت الاحتلال لتجنيدهم لخدمة الاحتلال، وتسهيل مهمته في نهب موارد البلد المُحتل وخيراته.
ويوجد استعمار من نوع آخر، طبقه الغزاة الأوربيون حينما غزوا الأمريكتين، فهو احتلال استحلالي، يتم فيه إبادة الشعب الأصلي لتلك الأرض واستبداله بشعب آخر، من خلال القتل والإبادة، وما نراه في العراق اليوم، حالة مركّبة من عدة أنواع من الاستعمار، بوجهه القديم والحديث.
النظام الإيراني الذي استغل فرصة احتلال العراق من الولايات المتحدة، استطاع خداع أكبر قوة بالعالم، وانتزع العراق من أيديها لصالحه، ولم يبذل جهدًا في إسقاط النظام العراقي السابق بقوة السلاح، فانتقل مباشرة إلى المرحلة الثانية من الاستعمار الحديث التي تتعلق باستغلال البلد المُحتل بشكل مباشر وتسخير كل موارده لصالحه، وبحماية من عملاء له ينتمون زورًا للشعب العراقي.
وفق أرقام صادرة من وزارة التخطيط العراقية، احتلت إيران المرتبة الخامسة في قائمة المصدرين الرئيسيين للعراق عام 2016، لكنها قفزت إلى المرتبة الأولى سنة 2017، وبواقع تصدير يصل إلى 8 مليارات و700 مليون دولار
فالأحزاب التي تمسك النظام العراقي حاليًّا، هي أحزاب من صنع النظام الإيراني وترعرعت في أحضانه، والمليشيات التي تمسك بالملف الأمني في العراق، هي مليشيات أُسس بعضها داخل إيران، وبعضها الآخر أُسس في العراق برعايتها ووفق توجهاتها. فما كان من هؤلاء إلا أن سخّروا كل خيرات هذا البلد لصالح المستعمر الإيراني، دون مراعاة ولو لأبسط حقوق الشعب العراقي المغلوب على أمره.
فمنذ بداية الاحتلال لم يخف رجالات الأحزاب الموالية لإيران رغبتهم في التباري بينهم، بشأن أيَّهم يخدم النظام الإيراني ويساعده على نهب ثروات هذا البلد، ففي الأيام الأولى لدخولهما للعراق قادمين من إيران، أعلن محمد باقر الحكيم وأخيه عبد العزيز الحكيم، وافقتهم بذلك منظمة “بدر”، بأن أول مطالبهم، تعويض العراق للنظام الإيراني عن خسائره في الحرب العراقية الإيرانية، التي قدروها حينها بـ200 مليار دولار.
في تقرير لقناة الحرة الأمريكية، سلَّطت فيه الضوء على عمليات النهب الممنهج لثروات العراق، بشكل أقرب ما يكون للنهب العلني، وأخذ التقرير مثالًا بسيطًا على ذلك، وهو اختلال الميزان التجاري بين البلدين بموضوع المحاصيل الغذائية، وبالأخص محصول الطماطم والبطيخ الأخضر (الرقي) منها، حيث ذكر التقرير، أن استيراد العراق من مادة الطماطم الإيرانية الذي كان بقيمة تقارب المليون دولار عام 2016، قفز إلى مليار و655 مليون دولار، والمضحك بالأمر أن التقرير ذكر، أن قيمة هذا الاستيراد، تعادل ما استوردته دول مثل كندا والولايات المتحدة وإسبانيا مجتمعةً من ذات المحصول وفي نفس العام.
أما عن استيراد البطيخ الأخضر من إيران، فقد قفز من 16 مليون دولار عام 2016، إلى مليارين وثمانمئة مليون دولار أمريكي عام 2017، وهو مبلغ يعادل خمسة أضعاف موازنة وزارة الزراعة العراقية في تلك السنة.
في الزيارة الأخيرة التي قام بها عادل عبد المهدي إلى طهران، رافقه فيها وزير النفط العراقي ثامر الغضبان الذي قال: “حصلنا على تطمينات إيرانية لحرية الملاحة بمضيق هرمز”، ومن الطبيعي أن تطمئن إيران العراق بالأخص فيما يخص الصادرات النفطية العراقية
ووفق أرقام صادرة من وزارة التخطيط العراقية، احتلت إيران المرتبة الخامسة في قائمة المصدرين الرئيسيين للعراق عام 2016، لكنها قفزت إلى المرتبة الأولى سنة 2017، بواقع تصدير يصل إلى 8 مليارات و700 مليون دولار.
من ناحيته قال وزير الشؤون الاقتصادية والمالية الإيراني علي طيب نيا، إن حجم التبادل الاقتصادي بين إيران والعراق، بلغ أكثر من 12 مليار دولار خلال العام الماضي (2018). وقراءة بسيطة لتلك الأرقام، تدلُّ على مقدار ما يتم نهبه من العملة الصعبة من العراق لصالح إيران، تزامنًا مع وصول ترامب إلى سدة الحكم في واشنطن، الذي كان يتوعد إيران بحصار خانق لها إذا لم تعقد اتفاقًا نوويًا جديدًا مع الولايات المتحدة، كما يدل على قيمة وحجم غسيل الأموال التي تقوم به إيران لتمويل عملياتها المشبوهة في دول عديدة منها العراق، ويدل أيضًا على أن النظام الإيراني اتخذ قرارًا بتحويل العراق إلى نافذة اقتصادية له، يستطيع من خلالها التغلب على أزماته الاقتصادية.
إن تقرير القناة الأمريكية لا يغطي إلا جزءًا بسيط من عمليات النهب الممنهجة للثروات العراقية، فما بالك ببقية القطاعات الاقتصادية الأخرى؟ كما أن التقرير لم يتطرق إلى عمليات التخريب المقصودة لمقومات الاقتصاد العراقي من تسميمٍ للثروة السمكية والدواجن العراقية وحرقٍ لمحاصيل الحنطة والشعير وضربٍ لسوق المنتجات الزراعية عبر إغراق السوق بها، أما فيما يتعلق بالصناعة العراقية فإن 80% منها انهزم فعليًا في معركة غير متكافئة مع السلع المستوردة من الجارة إيران، ومعظم الصناعيين انسحبوا من المواجهة وتحوّلوا لممارسة التجارة، ما أدى لارتفاع نسبة البطالة، أما الـ20% المتبقية من تلك الصناعة، بقيت تعمل بنصف طاقتها.
في الزيارة الأخيرة التي قام بها عادل عبد المهدي إلى طهران، رافقه فيها وزير النفط العراقي ثامر الغضبان الذي قال: “حصلنا على تطمينات إيرانية لحرية الملاحة بمضيق هرمز”، ومن الطبيعي أن تطمئن إيران العراق بالأخص فيما يخص الصادرات النفطية العراقية، والسبب واضح لهذه التطمينات، فكيف سيتم النهب الإيراني للعملة الصعبة العراقية إذا لم يستطع العراق تصدير نفطه؟
بعد أن استولى النظام الإيراني على ثروات العراق بشكل شبه كلي، عمِد إلى استخدام أساليب الاستعمار القديم، من خلال تجنيد أبناء الشعب العراقي، ليخوض بهم حروبه
ومنذ احتلال العراق عام 2003 وحتى اليوم، ما زال النظام الإيراني يتغول على السوق العراقية، حتى إن الحدود العراقية الإيرانية بقيت مفتوحة دونما رقابة لفترة طويلة، وإلى اليوم لا يمكننا معرفة مدى سيطرة الحكومة على تلك الحدود، فبعض المنافذ الحدودية تخضع لسلطة الأحزاب والعشائر كما في منفذ “الشيب” في محافظة ميسان، وبعضها تخضع لسلطة المليشيات كما هو الحال في معبر “سومار” بناحية مندلي الحدودية مع إيران من جهة محافظة ديالى، ولا نعرف بالضبط وضع المنافذ الأخرى.
لم يكتف النظام الإيراني بذلك، فبعد أن استولى على ثروات العراق بشكل شبه كلي، عمِد إلى استخدام أساليب الاستعمار القديم، من خلال تجنيد أبناء الشعب العراقي، ليخوض بهم حروبه، فالمليشيات التي شكلها من الشباب العراقي، يستخدمها بحروبه داخل العراق وسوريا، وليس مستبعدًا أن يزج بهم بحروب مستقبليه له مع دول الخليج، وما حادثة الطائرات المسيرة التي ضربت مواقع نفطية سعودية انطلاقًا من العراق، إلا مثالٍ حيّ على ذلك.
حتى أساليب الغزاة التي استعملها الأوربيون مع شعب الأمريكتين، حينما أبادوا سكانها الأصليين واحتجزوا القليل المتبقي منهم في محميّات صغيرة بعيدة عن كل مظهر حضاري تشبه محميات الحيوانات، قامت به إيران فعليًا مع أبناء المكون العربي السنَّي في العراق، فهي باسم الخدعة الكبرى المسماة “تنظيم داعش”، هدمت حواضرهم، وقتلت وزجت بالسجون الآلاف من شبابهم، وجعلت بقية أبناء هذا المكون يعيشون بمخيمات النزوح، بطريقة تشبه محميات السكان الأمريكيين الأصليين.
الذي يجعلنا في ذهول مما يجري، أن كل هذا الذي تفعله إيران بالعراق، ونحن في القرن الـ21، ولسنا بالقرون الوسطى، وأمام مرأى ومسمع العالم، فلا المجتمع الدولي خرج عن صمته ليستنكر هذه الأفعال، ولا أخوة الدين وأخوة الدم ساندوا الشعب العراقي، بل الجميع تركوه ليواجه مصيره المحتوم وحيدًا دون معين.