لم تقف خسائر إيران في حلفائها، منذ الإعلان الأمريكي بإلغاء الإعفاءات للعقوبات المفروضة، على الدول المتعاونة مع طهران في النفط، على شاكلة الاتحاد الأوروبي وبعض بلدان المنطقة، بل طالت الهند التي لم تضطر فقط إلى تنويع مورادها، ولكن لإعادة تقييم سياساتها في الشرق الأوسط، وفتح مسارات بديلة مع دول مجلس التعاون الخليجي و”إسرائيل”، ما يطرح السؤال الأكثر أهمية: إلى أي مدى تضررت العلاقة مع طهران؟ وهل نيودلهي ما زالت قادرة على خلط الأوراق والاحتفاظ بخيط في علاقتها مع الدولة الفارسية، رغم سعيها بسرعة الصاروخ لتطوير علاقتها مع دول الخليج و”إسرائيل”، وهم ألد أعداء إيران؟
ماذا حدث للهند؟
منذ مايو الماضي، والهند التي كانت أكبر مشتر للنفط الإيراني بعد الصين، تتحول تمامًا، يتوقف المارد الذي ظهر ضعيفًا أمام القرار الأمريكي، ولم يبد أي مقاومة يمكن مقارنتها بالصين وروسيا، أو البلدان التي تحاول وضع الغرور الأمريكي في حدوده الآمنة، وتوقفت فجأة عن الاستيراد بعدما أنهت واشنطن جملة إعفاءات كانت منحتها لثماني دول من بينها الهند، وسمحت بموجبها لهذه الدول، باستيراد بعض مكونات الخام الإيراني.
تقف ضمن المشهد المعقد في هذه الأزمة، الحصص المتبادلة بين كلا البلدين، إذ تملك إيران حصة نسبتها نحو 15% في شركة تشيناي بتروليوم التابعة لمؤسسة النفط الهندية، وهي أكبر شركة تكرير في الهند، كما كانت تخطط لاستثمار 5.1 مليار دولار، في مصفاة ناجاباتينام، بولاية تاميل نادو جنوب البلاد، البالغة طاقتها 20 ألف برميل يوميًا، لتحل محلها محطة تعمل بطاقة 180 ألف برميل يوميًا، ما يعود بالأرباح الكبيرة على البلدين.
يعتبر بعض المحلليين أن موقف الهند الحاليّ من العقوبات على إيران، بمثابة انقلاب كامل على موقفها القديم الموثق والمعلن، إذا كانت تتحدى العقوبات الأمريكية وتؤكد أنها لن تلتزم إلا بالعقوبات التي تقرها الأمم المتحدة
كل هذه المغانم تبدو كأنها ذهبت أدراج الرياح، رغم الإغراءات الكثيرة التي تقدمها إيران للاستمرار في الشراكة مع الهند، مقابل التحايل على العقوبات، وعلى رأس العروض الإيرانية التي كانت مقدمة، الاستثمار في توسعة مصفاة بجنوب الهند، ولكن الأخيرة لم تلتفت للعرض، وأصبح شغلها الشاغل، تقييم علاقاتها كاملة بإيران في ظل إصرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، على تدمير طهران وكل من يتحالف معها، ما قد ينعكس بشكل كبير على العلاقات الأمريكية – الهندية، وهي أولى عند نيودلهي من طهران، الأمر الذي جعلها تتجه إلى مجلس التعاون الخليجي و”إسرائيل”، لسد احتياجتها وبناء تحالفات بديلة يمكنها تعويض إيران على جميع المستويات.
وإعمالات بهذه التوجهات الجديدة، توقفت الأرصدة الهندية من النفط الإيراني بحدود شهر مارس الماضي، حيث كانت تجلب حتى هذا التاريح، نحو نصف مليون برميل يوميًا، وهي نسبة كبيرة، دعت ترامب للنظر بعين الصداقة إلى الخسائر الكبرى لنيودلهي، وطالب حلفاءه في الخليج بتعويض الهند عن خسائرها، وحصلت بالفعل على ضمانات من الإمارات العربية المتحدة، بتغطية أي نقص قد تواجهه بسبب موقفها من إيران.
ويعتبر بعض المحلليين أن موقف الهند الحاليّ من العقوبات على إيران، بمثابة انقلاب كامل على موقفها القديم الموثق والمعلن، إذا كانت تتحدى العقوبات الأمريكية، وتؤكد أنها لن تلتزم إلا بالعقوبات التي تقرها الأمم المتحدة، وهي بذلك كانت تنظر لمصالحها الخاصة، لإنقاذ شركات الوقود الأحفوري التي تأثرت بشدة بالعقوبات على إيران، لا سيما أن المؤسسات النفطية الأجنبية والأوروبية، ترفض المشاركة في مشروع “تشاباهار” النفطي، ما يبطئ من تطوره، قبل أن تتحمس له طهران وتستثمر فيه، في صفقة لم تكتمل بسبب الصراع شبه الصفري بين إيران وترامب.
الضغط الخارجي بورقة الهند وتأثير ذلك الشديد على إيران، كان يدور في عقل جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني الذي قاد حملة اتصالات مكثفة، والتقى بوزيرة الخارجية الهندية سوشما سواراج، وتحدث بشفافية كاملة عن حقيقة الأزمات مع أمريكا والوضع الراهن في ظل التصعيد السريع وتنامي ثقل العقوبات على صدر البلاد، وماذا يعني ذلك على محور الرفض لأمريكا، وليس على إيران فقط.
الأمر الملفت في مخرجات لقاء وزيري الخارجية الإيراني والهندي، أن الأخيرة ورغم إتاحة الفرصة لطهران للظهور، ومهاجمة أمريكا من على أرضها، لم تَعد إيران بأي شيء، سواء على المستوى الاقتصادي أم السياسي، ولم توضح موقفها فيما يتعلق باستيراد النفط من إيران.
يمكن رؤية ذلك واضحًا، بعد القرار المفاجئ لشركات طيران إماراتية وهندية، بالامتثال لقرار حظر الطيران، وفقًا للفيدرالية الأمريكية التي منعت التحليق فوق مضيق هرمز وخليج عُمان
ولم تخرج الزيارة التي خطط لها ظريف، وتصور أنه قادر خلالها على إحباط مخططات ترامب، عن إبلاغه بقرار محتمل للهند بشأن ورادات النفط الإيرانية، ولكن بعد انتهاء الانتخابات التي كانت تشهدها البلاد، وفاز فيها آنذاك رئيس الوزراء ناريندرا مودي بفترة جديدة على رأس الحكومة الهندية، أصبحت أهم تحدياتها التعامل مع النفط الفارسي الذي يصب مباشرة في الصالح الهندي، حال استخدامه في عمل نوع من التوازن، بالعلاقة بين الهند والولايات المتحدة، بشرط أن يتم اللعب على هذا الوتر بحرفية نادرة، وحذر كامل في الوقت نفسه، بسبب التغيرات السريعة في المشهد الدولي، والتكتيكات التي يتبعها ترامب، وتفاجئ بلدان العالم أجمع، ما يجبرها على تغيير إستراتيجيتها بنفس السرعة للإفلات من عقوباته.
ويمكن رؤية ذلك واضحًا، بعد القرار المفاجئ لشركات طيران إماراتية وهندية، بالامتثال لقرار حظر الطيران، وفقًا للفيدرالية الأمريكية التي منعت التحليق فوق مضيق هرمز وخليج عُمان، لتتبعها شركات طيران عالمية مثل الخطوط الجوية البريطانية وشركة يونايتد إيرلاينز فضلاً عن شركتي أميركان إيرلاينز ودلتا إيرلاينز الأمريكية، وجميعهم أعلنوا على الفور، خططًا بديلة لتجنب استخدام المجال الجوي الإيراني، ما عزز من التوترات المتصاعدة بين واشنطن وطهران في المنطقة.
الإرث التاريخي للعلاقة.. ماذا نفهم؟
الوقوف على الشكل النهائي للعلاقة بين إيران والهند، في ظل التحديدات الصعبة التي يحياها كل منهما، يجب أن يبدأ من الخلف قليلاً، حيث الحقبة الاستعمارية التي باعدت بشكل جيوسياسي بين الهند وإيران، وفي ضوئها شهدت العلاقات الهندية الإيرانية، ازدهارًا وانخفاضًا على مدى العقود الماضية، حيث كانت الهند من الدول المؤسسة لحركة دول عدم الانحياز، بينما إيران في زمن الشاه، كانت ضمن التحالف الأمريكي البريطاني الذي عرف آنذاك بـ”حلف بغداد”.
يمكن تفسير إبقاء الهند على خيط رفيع في علاقتها مع إيران، رغم كم الضغوط الأمريكية الشرسة عليها لقطع العلاقة تمامًا، في رغبة نيودلهي بالاستمرار بأسواق دول آسيا الوسطى وأفغانستان
هذا التباعد والتضاد لم يخل بالعلاقات الجيدة بين الهند وإيران، وظل البلدين على علاقات طيبة وحميمة، حتى سقوط الشاه واندلاع الثورة الإسلامية وتأسيس الدولة الجديدة بشكلها الحاليّ الذي حاربته أمريكا وحاولت عزله جغرافيًا واقتصاديًا وسياسيًا، ومارست ضغوطًا شديدة على جميع العواصم الصديقة لإيران، بما في ذلك نيودلهي للتخفيف من شراء النفط الإيراني.
كانت الدول الخليجية من أدوات العصا والجزرة الأمريكية في إقناع الهند، حيث سارعت دول الخليج في التوافد إلى العاصمة الهندية لإقناع الجانب الهندي بالاستغناء عن النفط الإيراني الذي كان يحتل المرتبة الثالثة في جدول الدول المصدرة للنفط إلى الهند، وخضعت نيودلهي لإغراءات مكثفة، ويبدو أنها تفهمت جيدًا الكماشة الدولية التي تهدف لإبعادها عن الاعتماد بشكل كبير على النفط الإيراني، وهو ما تم بالفعل، إذ أصبح يقف عن حدود المرتبة الـ12، وجاهدت الهند للإبقاء على علاقة هامشية بين البلدين، بحجة العقوبات الأمريكية الأوروبية على البنوك الإيرانية ومعارضة الولايات المتحدة العلنية لفتح بنوك إيرانية في الهند أو عقد أي تحالفات مع الكيانات الاقتصادية الكبرى.
ويمكن تفسير إبقاء الهند على خيط رفيع في علاقتها مع إيران، رغم كم الضغوط الأمريكية الشرسة عليها لقطع العلاقة تمامًا، في رغبة نيودلهي بالاستمرار بأسواق دول آسيا الوسطى وأفغانستان، لتفويت الفرصة على باكستان ـ عدوها اللدود ـ حتى لا تتسيد هذه المنطقة، وهو ما يبرر التفهم الأمريكي اتلك العلاقة التي يمكن استخدامها لاحقًا إذا ما جد أي جديد، لذا تتغافل عن إبرام العديد من الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية والعسكرية بين إيران والهند، والتعامل النقدي بينهما الذي يجرى في الكثير من الصفقات بالعملات المحلية، لتجنب العقوبات المفروضة على البنوك الإيرانية، وإقامة المشاريع التنموية المشتركة التي يتم تقديرها مسبقًا بميزان حساس، قبل الدخول فيها، حرصًا على تطور علاقتها بالخليج و”إسرائيل”، ودون أن تغضب أمركيا ترامب، أو تثير غضبه على واحدة من القوى الآسيوية الصاعدة بقوة الصاروخ لتنافس الصين وباقي النمور الآسيوية الجامحة.