لا يختلف أحد على أهمية الدور الذي تلعبه مؤسسة القضاء، مدعومة بمنظومة القوانين وفي مقدمتها الدستور، في إدارة دفة الأمور في المجتمع الأمريكي، خاصة فيما يتعلق بالمسائل الوطنية الداخلية، فعلى امتداد قرون من عمر محكمة النقض العليا الأمريكية، كانت للهيئة القضائية الكلمة الفصل في تفضيلات المجتمع ومبادئه والقواعد التي تحكم كل من السلطة التشريعية المتمثلة في الكونجرس، والتنفيذية المتمثلة بالبيت الأبيض والإدارات المختلفة.
ورغم أن علاقة معقدة ومتبادلة تحكم السلطات الأمريكية الثلاث فيما يُعرف بنظام “Checks and Balances” (الضوابط والتوازنات)، وهو الإطار التنظيمي لمبدأ الفصل بين السلطات، إلا أن السلطة القضائية، باعتبارها راعية مبدأ سيادة القانون وبما تملكه من سمعة واحترام بين فئات المجتمع الأمريكي، ظلت محط أنظار الحزبين الحاكمين في الولايات المتحدة، الجمهوري والديمقراطي.
وظل يحاول كل رئيس أمريكي يتولى مهامه في البيت الأبيض وضع بصمته في منظومة القوانين من خلال سنّ جملة من القرارات التنفيذية، ودفع الكونغرس لتبني جملة من القوانين الجديدة المتفقة مع أجندته من ناحية، وإعادة تشكيل الجهاز القضائي بالتعيينات القضائية الرئاسية على المستويين الفيدرالي والنقض العليا من جهة أخرى.
لم يسبق أن شهدت الولايات المتحدة علاقة جدلية ومتوترة بين النظام القضائي وما تمثله من منظومة التشريعات الحاكمة، بما فيها الدستور، مثل تلك التي شهدتها خلال الفترة الرئاسية الأولى لترامب وما تلاها من شدّ وجذب طوال الفترة التي سبقت توليه فترته الرئاسية الثانية.
ولم تشهد الولايات المتحدة حتى علاقة مشابهة لتلك التي تمثلت في إدارة نيكسون بفشلها المعروف في خلق توازن بين السلطات. فما هي طبيعة هذه العلاقة؟ وكيف تنوعت مستوياتها؟ كيف استطاع ترامب إعادة تشكيل المنظومة القضائية بصورة أكثر محافظة ويمينية؟ وما هو دور التعيينات القضائية لترامب في إعادة توجيه القوانين الداخلية وتلك التي تحكم علاقتها بالبيت الأبيض من الناحية المقابلة؟ يحاول هذا المقال ضمن ملف “شريعة ترامب” الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها.
القرارات التنفيذية: عندما يصير الرئيس مُشرّعًا
يمنح الدستور الأمريكي سيد البيت الأبيض سلطة إصدار حزمة من القرارات التنفيذية والتوجيهات التي تمتلك قوة تشريعية دون الحاجة إلى انتظار تصويت الكونغرس، ورغم أن هذا النوع من القرارات والتوجيهات لا يملك قوة القانون المشرّع من الكونغرس، ويمكن للكونغرس والمحاكم المختلفة نقضه إذا خالف التشريعات أو الدستور، إلا أنه عادة ما يُعتبر أداة فعّالة لتثبيت أركان الإدارة الجديدة، والبدء دون تأخير في فرض أجندتها وتأطير سياساتها.
تعهد ترامب خلال حملته الانتخابية الأخيرة بسنّ حزمة واسعة من القرارات التنفيذية المتعلقة بالهجرة والصحة والطاقة والاقتصاد خلال أيامه الأولى في البيت الأبيض، وشملت إجراءات تمس المهاجرين غير النظاميين في البلاد المهددين بأكبر عملية ترحيل في تاريخ الولايات المتحدة في أثناء الولاية الثانية للترامب.
يضاف إلى ذلك، إلى قرارات تستهدف حق الإجهاض وبرامج الرعاية الصحية المخفضة، كما تشمل الحزمة أيضًا فرض تعرفة جمركية على البضائع الأجنبية القادمة من الصين والمكسيك وكندا والاتحاد الأوروبي، فضلًا عن قرارات بالانسحاب أو تجميد العضوية في عدد من الاتفاقيات التجارية الدولية.
هذه القرارات من شأنها أن توجه دفة الأمور على مستوى السياسة الخارجية والساحة المحلية على السواء، وستشغل المحاكم والمؤسسات الحقوقية وحكومات المجتمع الدولي، كما هو متوقع، لشهور إن لم يكن لسنوات قادمة، خاصة وأن الحزب الجمهوري يقف بكامل قوته، وبأكثرية في مجلسي الكونغرس، لدعم الرئيس في أجندته المقبلة.
وتقف الفترة الرئاسية الأولى لترامب كمثال حيٍّ على براعة ترامب وإدارته بتنفيذ أجندتهم من خلال القرارات التنفيذية التي تستهدف مسائل متنوعة بإجراءات مباشرة وحاسمة، فقد اتخذ ترامب خلال المئة يوم الأولى لرئاسته السابقة ما مجموعه 33 قرارًا تنفيذيًا؛ تركز معظمها على تجميد قرارات اتخذتها إدارة أوباما وبدء علاقة تقوقعية مع العالم، تعلي من شأن الاقتصاد الأمريكي وتعزز القيم الجمهورية الأكثر محافظة.
كما تركت قرارات عديدة بصمتها على منطقتنا العربية والإسلامية، كان أهمها قرار “حظر التأشيرة على الدول ذات الأكثرية المسلمة 13769″، والقرارات المتعلقة بإغلاق السفارة الفلسطينية ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وقرار محاربة معاداة السامية الذي استهدف النشاط المناصر للقضية الفلسطينية، وآخرها كانت القرارات الراعية لاتفاقيات التطبيع في المنطقة.
من جهته، عمل بايدن على نقض عدد كبير من القرارات التنفيذية التي اتخذتها إدارة ترامب، مثل الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ وقرارات تشديد التنظيمات الحاكمة للهجرة وتوسيع تمويل بناء الجدار الفاصل مع المكسيك، غير أنه – في المقابل- أبقى على أكثرها فتكاً بقضايا منطقتنا، ومنها موقعية السفارة الأمريكية في القدس، واتفاقات أبراهام، وقرار إغلاق السفارة الفلسطينية، وقطع العلاقات الدبلوماسية في واشنطن.
كذلك ألغى الكونجرس عددًا من قرارات ترامب التنفيذية عبر المراجعة التشريعية التي تلت انتهاء فترته الرئاسية الأولى؛ ومنها قرارات متعلقة بالطاقة المتجددة وبيئة العمل والساحة الاقتصادية، كما سنّ تشريعات لاحقة تبطل عمل قرارات ترامب المتعلقة بالتضخم.
أوقفت أيضًا العديد من محاكم الولايات العمل بالعديد من قرارات ترامب التنفيذية التي يتجاوز بها حدود سلطته ويخالف جوهر الدستور، مثل قرار حظر التأشيرة بسبب طبيعته التمييزية، لكن ترامب استجاب لهذه المعارك القانونية الطاحنة بتعديل القرار السابق بقرار “رقم 9645” المصوغ لاستهداف دولاً بعينها بإجراءات أكثر تخصيصًا من سابقه، بدعوى تشكيلها خطرًا على الأمن القومي الأمريكي، وشملت إيران وليبيا وكوريا الشمالية والصومال وسوريا.
ورغم التحديات القانونية التي ثارت مرة أخرى حول هذا القرار، فقد أقرته محكمة النقض العليا عام 2018، لينتهي به الأمر في مكب النفايات بعدما نقضه بايدن بـ“قرار 10141” عام 2021.
تبقى القرارات التنفيذية، بمواضيعها المتعددة وتأثيراتها الواسعة على المجتمع الأمريكي ومجمل السياسة الخارجية الأمريكية، سارية ومتحكمة في عمل الإدارات الفيدرالية المختلفة إلى أن تتحداها المحاكم المختلفة ببيروقراطيتها المعهودة، أو يسنّ الكونجرس بخلافها، أو ينقضها من الرئيس التالي.
وزارة العدل: مكتب ترامب القانوني
أعد المحامي الأمريكي المخضرم بوب باوير، والذي خدم كمستشار قانوني للبيت الأبيض إبان حكم أوباما، تحقيقًا لخص فيه العلاقة التي يجب أن تربط وزارة العدل بالرئيس الأمريكي المنتخب، والتي أخلّ ترامب بأساسياتها، حيث قال إن: “القليل من السياسة في المؤسسة القانونية يشلّ يد الرئيس ويحرمه من أدوات تنفيذ سياساته، بينما الكثير منها يعني بالضرورة تهديد الحيادية في سنّ وتنفيذ القوانين”.
وقد أتى ترامب مع إدارته الثانية عشية فوزه بانتخابات 2024، بما لم يأت به من سبقوه من رؤساء الحزبين؛ فقد رشح محاميين وأسماء تربطه بهم علاقة شخصية ومثلوه بمحاكماته السابقة، لتولي مناصب حساسة في وزارة العدل، ابتداءً من المدعي العام ووصولًا إلى نوابه ومساعديه، مشكّلاً بذلك ما وصفه باوير بـ”مكتب محاماة شخصي” بدلاً من وزارة عدل فيدرالية مهنية.
أثيرت زوبعة من الشكوك والانتقادات حول الترشيح الأول لترامب لمات جايتز لتولي منصب المدعي العام الفيدرالي، لما يملكه الأخير من ملف أخلاقي وقانوني ملطخ بقضايا التحرش الجنسي والمواد الممنوعة وغيرهامن قضايا تمس المهنية والشرف الوظيفي.
الأمر الذي دفعه للتخلي عن المنصب بعد أن فتحت لجنة الأخلاقيات التابعة للكونجرس تحقيقًا بشأن سلوكه استجابة للضغط العام، وبالتالي أعاد ترامب حساباته ورشح فيما بعد بام بوندي، محاميته الشخصية في قضية حجب الثقة أمام الكونجرس وإحدى الشخصيات المحافظة في الحزب الجمهوري والتي انخرطت في “الانتخابات المختطفة” بعيد فوز بايدن 2020.
تتوالى قائمة الأسماء التي رشحها ترامب للمناصب السيادية في وزارة العدل، لا بحسب مهنيتها واستحقاقها توافقًا مع مبدأ الاستقلالية الذي يحكم عادات الرؤساء الأمريكيين باختيار مرشحي المناصب القيادية في هذه الوزارة بالذات، ولكن وفقًا للمبدأ الأقرب إلى قلب ترامب “مبدأ الولاء”.
إذ إن الأسماء المطروحة هي بالكلية ممن تربطهم بترامب علاقة شخصية قوية، وأثبتوا ولاءهم لأجندته وسياساته إبان فترته الرئاسية الأولى وبعد فشله في انتخابات 2020 ومن ثمّ في مواجهة الزوبعة القضائية التي لاحقته طوال سنوات حكم بايدن وحتى تسلمه مهامه الرئاسية للفترة الثانية، وهي الأسماء التي تهدد منظومة العدالة برمتها في الولايات المتحدة، ويحولها من رقيب ومحاسب على عمل البيت الأبيض وإدارة ترامب إلى أداة لإنفاذ المشاريع وتمرير السياسات.
نظام قضائي متساهل والنتيجة رئيس مُدان
تجرأ ترامب على النظام القضائي لم يأتِ من فراغ، فقد منحه النظام ذاته فسحةً مسيسة ومتلكئة في التعامل مع قضايا مصيرية كان يجب أن تضع حدًا لطموحه السياسي، قضايا تنوعت بين التحريض وبث الكراهية وتهديد الأمن العام والتحرش الجنسي والتهرب الضريبي، والقائمة تطول. والنتيجة أنّ الناخب، كما وصفته صحيفة النيويورك تايمز، معذورٌ بتساهله بانتخاب رئيس مدانٍ وعدم وضعه لمبدأ سيادة القانون نصب عينيه قبل أن يدلي بصوته.
إذ فشل مجلس الشيوخ بإدانة ترامب بتهمة التحريض على التمرد إبان أحداث السادس من يناير/كانون الثاني 2021، عندما هاجم أنصاره مبنى الكابيتول رفضًا لإقرار نتائج انتخابات 2020 التي جاءت ببايدن، في مشهد عنف وفوضى لم تشهده شوارع العاصمة الأمريكية في التاريخ المعاصر.
ورغم أنّ الجمهوريين في المجلس كانوا سببًا رئيسًا وراء إفشال قرار سحب الثقة من ترامب، إلا أن هذا الفشل الثاني بإدانة ترامب بسحب الثقة منه والذي سبقه قرار بالتبرئة عام 2017 من تهمة التواطئ مع أوكرانيا في التلاعب بنتائج الانتخابات الأمريكية السابقة واللاحقة، أتى كصك غفران للرئيس الملاحق أمام أنصاره ومحبيه.
من ناحيتها، فقد أسهمت محكمة النقض العليا في قرارها الحاسم يوم الأول من يوليو/تموز العام الماضي، والتي منحت فيه ترامب حصانة مطلقة من المحاسبة الجنائية عن كامل “الأعمال السيادية” التي ارتكبها خلال فترته الرئاسية وحصانة مدنية وإدارية مفترضة عن تلك الأعمال، في غرس مبدأ الحماية القضائية حول ترامب في مخلية الناخبين بكثير من الرهبة.
لا سيما أن هذه الحصانة تأتي بموجب قرار من أعلى سلطة قضائية في البلاد، لكن عند النظر إلى الوراء قليلًا سيدرك الناخبين أنفسهم أن هذه السلطة ذاتها هي التي رفضت قرار بعض الولايات بمنع ترامب من الترشح لولاية رئاسية أخرى بسبب سجله الجنائي الحافل.
من جانبه، فقد استطاع ترامب، بفضل دعم حزبه، من تسويق حزمة من التهم ضد المؤسسة القضائية، محاولاً تصويرها كجزء من مؤامرة يحيكها خصومه من الديمقراطيين لإبعاده عن الساحة السياسية، وعلى رأسهم جو بايدن وكامالا هاريس.
كما استغل ترامب تأجيل إدانته القضائية، مشيرًا إلى ما اعتبره تهاونًا من النظام القضائي في محاكمته، رغم وجود 34 تهمة موجهة ضده في قضايا مختلفة، أبرزها قضية الرشوة التي دفعها لممثلة الأفلام الإباحية ستورمي دانيلز لشراء صمتها بشأن علاقة جمعته بها.
انتهت هذه القضية قبل أيام قليلة من مراسم تنصيبه لفترة رئاسية ثانية، بإدانة وصفها ترامب بأنها “هزلية”، واعتبرها غير مستحقة لأي عقوبة. وفي النهاية، قررت المحكمة أن يبدأ ترامب فترة رئاسته الثانية دون أية قيود، حتى وإن كان ذلك على حساب مبدأ سيادة القانون. وهكذا، أصبح الرئيس ترامب أول رئيس أمريكي يُدان بتهم جنائية في تاريخ البلاد.
التعيينات القضائية: مخلب ترامب في المحاكم
لم يفوت ترامب الفرصة لإعادة تشكيل النظام القضائي الأمريكي بما يتماشى مع توجهاته السياسية والاجتماعية المحافظة، مستفيدًا من الصلاحيات التي منحها له الدستور في تعيين القضاة على المستوى الفيدرالي، حيث عمل على ملء الشواغر في محكمة النقض العليا (المحكمة الفيدرالية العليا) التي يتم تعيين قضاتها التسعة مدى الحياة.
وخلال فترة ولايته الرئاسية الأولى، تمكن ترامب من تأكيد تعيين 234 قاضيًا محافظًا عبر مجلس الشيوخ، منهم ثلاثة قضاة في محكمة النقض العليا، بالإضافة إلى 54 قاضيًا لمحاكم الاستئناف، وكل ذلك في إطار تعزيز الاتجاهات المحافظة داخل الجهاز القضائي، وتوجيه القرارات القضائية لصالح الأجندة السياسية التي كان يسعى لتحقيقها.
أثمرت تعيينات ترامب للقضاة عن تغييرات كبيرة في قواعد ومبادئ مجتمعية كانت تعتبر تاريخية في الولايات المتحدة، كان من أبرزها نقض محكمة النقض العليا عام 2022 لقضية “روي ضد ويد” التي أسست حق المرأة الفيدرالي في الإجهاض.
يتبنى غالبية القضاة الذين عينهم ترامب أيديولوجية مؤيدة للصهيونية، وهو ما تجسد في توجه بعثة قضائية منهم إلى “إسرائيل”، بهدف التبادل الثقافي والإطلاع على عمل المؤسسات القضائية والعسكرية
كما أثرت التعيينات على مبادئ أخرى كان الديمقراطيون قد عملوا على تعزيزها وحمايتها، مثل مبدأ المساواة لحقوق المثليين، ففي قضية شركة 303 كرييتف ضد ولاية كولورادو، التي نظرتها محكمة النقض العليا، ألغيت الحماية الفيدرالية التي كانت تضمن المساواة والحقوق للمتحولين جنسيًا والأشخاص من مجتمع المثليين، وهو ما شكل تحولًا في سياسات حقوق الإنسان في البلاد.
لم يكن القراران المحافظان بشأن الإجهاض وحقوق المثليين ليتحققَا لولا تعيينات ترامب في المحكمة، التي أسست لرجحان كفة القضاة المحافظين على القضاة المحسوبين على التيار الليبرالي، الذين عادة ما يعينهم الديمقراطيون. وقد اتسمت تعيينات ترامب القضائية بتفضيله للرجال البيض ذوي التوجهات المحافظة واليمينية، على حساب التنوع الجندري والعرقي، فحوالي 82% من القضاة الذين عينهم ترامب هم من البيض، و65% منهم من الرجال البيض.
أما على صعيد منطقتنا، فقد دفعت القضية الفلسطينية ثمنًا باهظًا للتوجه الجمهوري المحافظ الذي ساد النظام القضائي الأمريكي بعد تعيينات ترامب، فقد مال القضاء الأمريكي آنذاك إلى منح ترامب حرية الحركة في اتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية تجاه القضية الفلسطينية.
رغم الجدل الكبير الذي صاحب هذه القرارات لما تمثله من انتهاكات صريحة للقانون الدولي والتزامات الولايات المتحدة تجاه المجتمع الدولي، إلا أنه لم يكن هناك تحديات قضائية جدية لقرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس أو لصفقة القرن التي تضمنت ضم الضفة الغربية.
كما اتخذت المحاكم التي تضم هيئات قضائية معينة من قبل ترامب قرارات صادمة تتعلق بمشروعية عمل حركة المقاطعة (BDS)، فقد أقرت عدة محاكم بمشروعية القوانين التي سنتها بعض الولايات لمناهضة أنشطة الحركة، رغم أن هذه القوانين تتعارض بشكل واضح مع التعديل الدستوري الأول الذي يكفل حرية التعبير والتجمع والعمل السياسي السلمي.
كان من أبرز هذه القضايا أركانساس تايمز ضد والدريب لعام 2022، حيث أيد القاضي الفيدرالي جوناثان كوبس، المعين من قبل ترامب، قانون ولاية أركانساس الذي يفرض على المتعاقدين مع الحكومة توقيع إقرار بعدم مقاطعة “إسرائيل”.
بالإضافة إلى ذلك، يتبنى غالبية القضاة الذين عينهم ترامب أيديولوجية مؤيدة للصهيونية، وهو ما تجسد في توجه بعثة قضائية منهم إلى “إسرائيل”، بهدف التبادل الثقافي والإطلاع على عمل المؤسسات القضائية والعسكرية، وتبادل الخبرات في مجالات مختلفة.
كان لزيارة القضاة الأمريكيين إلى “إسرائيل” أثر مباشر على القضايا المتعلقة بالمسألة الفلسطينية التي كانت منظورة أمام المحاكم الأمريكية، ففي عام 2023، أثارت قضية رفعتها منظمة الدفاع عن الأطفال، نيابة عن الضحايا الفلسطينيين، ضد الرئيس بايدن ووزيري الخارجية والدفاع، اتهمتهم بالضلوع في جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة، زوبعة إعلامية وحقوقية، حيث اكتشف الجمهور أن القاضي الذي كان من المقرر أن ينظر في القضية هو رايان نيلسون، المعين من قبل ترامب، وكان ضمن الوفد القضائي المتوجه إلى “إسرائيل”.
أثارت هذه المعطيات تساؤلات حول حيادية القاضي في النظر في القضية، وفي النهاية، انسحب القاضي نيلسون من النظر في القضية، التي انتهت بالفشل أمام هيئة قضائية اعتبرت أنه لا سلطة لديها على سياسة الرئيس الخارجية.
أخيراً، ربما لن يتمكن ترامب من تعيين نفس العدد الكبير من القضاة الذي عينه خلال فترته الرئاسية الأولى، وذلك لسبب بسيط يتمثل في أن بايدن قد سبق وخطى خطوة استباقية بتعيين 235 قاضيًا شغروا مناصبهم في المحاكم الفيدرالية المختلفة على امتداد الولايات المتحدة، وقد صادق الكونغرس على هذه التعيينات، مما ترك مساحة محدودة لترامب ليضيف إليها.
ومع ذلك، يظل العدد الكبير من القضاة المحافظين الذين عينهم ترامب، وأهمهم قضاة محكمة النقض العليا، في مواقعهم، وهم يعملون بجد لفرض أجندة المحافظين وتثبيت أركان حكمهم في المجتمع الأمريكي.
والآن، ونحن أمام حزمة من السياسات والمشاريع القانونية التي ستكون حازمة، خاصة في مسألة الحركة المناصرة للقضية الفلسطينية من قبل الطلاب والمؤسسات الحقوقية، التي اتهمها ترامب بدعم الإرهاب وتعهد بملاحقتهم وترحيلهم وسحب تراخيص مؤسساتهم، يبدو أن هذه التشكيلة القضائية التي أعاد ترامب تشكيلها سيكون لها تأثير سلبي على النظر في القضايا المرتبطة بالحق الفلسطيني ومناصريه.
إضافة إلى ذلك، ستكون لهذه التعيينات تداعيات على المسائل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الداخلية، حيث سيعمل ترامب على إنفاذ أجندته القومية المحافظة من خلال هذه التشكيلة القضائية، ما يعزز من تأثيرها في رسم سياسات البلاد في المستقبل.