لطالما اعتملت في نفس الإنسان رغبة الاندماج حتى في الوقت الذي يكون فيه مستعدًا أن يختلف عن بيئته، إلا أن الحاجة المستمرة للشعور بالألفة والعيش مع مجموعة تشبههم أو أفراد يتبنون ذات الأهداف ويتحدثون نفس اللغة، كانت سببًا رئيسيًا لنشوء الكثير من الحركات والتجمعات والفرق الفكرية والاجتماعية والرياضية، وكان من بين ذلك الحركات الكشفية أيضًا التي تأخذ على عاتقها تأمين بيئات تعاونية تفاعلية منظمة لعدة فئات من الأطفال والشباب بهدف استغلال أوقاتهم وطاقاتهم بما يفيد سنهم ويساعدهم في اكتساب المهارات.
وقد كان لازدياد الوجود العربي في تركيا، وفي مدينة إسطنبول على وجه الخصوص، وجاهة في تشكيل أول فرقة كشفية للفتيات العربيات في تركيا تهدف لجمعهن ضمن نشاط تربوي وترفيهي بسيط تسري فيه الروح والقوانين الكشفية، ومن هنا كانت بداية “فرقة الفاتح الكشفية” التي تأسست على يدّ ثلة من الفتيات السوريات اللواتي كن يكملن تعليمهن الجامعي معتمدات على طاقاتهن ورغبتهن في ترك بصمة على أبناء الجيل الجديد في المهجر، رغم قلة ذات اليد وانعدام الدعم.
معوقات
تنوعت تحديات وجود الفرقة في بداية انطلاقها ما بين غياب الدعم اللوجستي وعدم وجود الخبرة الكافية للقائدات في إدارة النشاطات أو إحاطتهن بكل جوانب وتعاليم الحركة الكشفية، وعدم تقبل الكثير من الأهالي خروج بناتهن بمفردهن من منطقة إلى أخرى في مدينة كبيرة مثل إسطنبول، ولكن كل هذه الأسباب لم تثن عائشة خالد مؤسسة الفرقة، التي تعمل حاليًّا صحفية في قناة TRT العربية، وصديقاتها، عن الاستمرار في إطلاق المبادرة وتحقيق أهداف الفرقة، فتقول في حديث لـ”نون بوست”، “عندما أعود إلى الوقت الذي أسست فيه فرقة الفاتح أعتقد أن كل ما كنت أفكر فيه حينها هو الوطن، أردت أن أصنع مكانًا قادرًا على جمعنا كلنا رغم اختلافاتنا وتنوعنا، وشيء يمثل الوطن الذي نحلم به، أما السبب الثاني فكان رغبة في خلق جو من الاندماج مع البيئة التركية، ولكن في نفس الوقت بالمحافظة على هويتنا العربية في مدينة كبيرة ومتنوعة ثقافيًا وتضم مساحة واسعة للإبداع يمكن توجيه طاقات الفتيات من خلالها. كما أن احساسنا بالواجب الإنساني تجاه سوريا، وتجاه الطفل وإيماننا بأداء واجبنا شحذ من عزيمتنا بالرغم من التعب والجهد وغياب المقابل”.
أثر
تنقسم الحركة الكشفية لمستويات ثلاث هي مجموعة الزهرات والمرشدات والرائدات، مصنفات حسب أعمارهن، تختلف النشاطات والمناهج الترفيهية والتربوية التي سيتلقينها بين مجموعة وأخرى، إذ بينما تركز مجموعة الزهرات ما بين الـ7- 10 سنوات على كيفية التعرف على أشخاص جدد واستكشاف الطبيعة والأشياء من حولهن أو العمل واللعب داخل جماعة بطرق ذكية وبسيطة، تكون مجموعة المرشدات ما بين الـ11- 14 سنة يعملن على البحث في التاريخ والجغرافيا وتقديم المساعدة الاجتماعية والتطوع في مؤسسات خيرية وتعلّم أهداف وقوانين الحركة الكشفية التي تنقسم بين أساسيات التعايش مع الطبيعة والعمل ضمن فريق واحد خلال اللقاءات الكشفية التي تنظم أسبوعيًا.
وحتى وصولهن إلى العمر الذي يؤهلهن للانضمام إلى مجموعة الرائدات ما بين الـ 15-18 سنة وهي المجموعة الأخيرة ما قبل الانضمام إلى المرحلة التدريبية ليصبحن قائدات وحدة أو مجموعة بمراسم ترفيع كشفية يؤدين من خلالها الوعد والقانون ويرتدين المنديل الكشفي الجديد الذي يدل على أيّ فئة هن، تأتي هذه المرحلة الأصعب من بين سابقاتها، إذ يترتب على الفتيات مهام أكبر كالتطوع لساعات أكثر في الحملات الخيرية وإنهاء منهج كشفي يضم ربطات وعقد ومهارات عديدة يحتاجها الكشاف خلال رحلات التخييم، بالإضافة إلى سعي كل رائدة لإثبات جدارتها تؤهلها لدخول المرحلة الجديدة.
ومن خلال مقابلة أجريناها مع عدة فتيات منتميات إلى الحركة الكشفية قالت لمياء (18 سنة) من مجموعة الرائدات، إنها حين جاءت مع عائلتها إلى تركيا في عمر الـ13 لم يكن لديها أيّ مكان تشعر فيه بالألفة في حين جاء مجتمع الكشافة ونشاطاته مكانًا تواصلت فيه مع بنات جيلها من مدن مختلفة كونت معهن علاقات جديدة، بالإضافة إلى أن رحلات التخييم التي كانت تشارك فيها مع الفرقة بين الحين والآخر هيأت لها الجو المناسب لعيش الكثير من التجارب المتنوعة التي لم تعشها من قبل، ومن خلال صعوبات وتحديات عديدة مرّت بها في أثناء بقائها في المخيم بدأت تفكر بأبناء سنها ممن يعاني في المخيمات السورية.
بينما ترى جنى (9 سنوات) من فرقة الزهرات، أن قدومها إلى تركيا عرفها على بيئة ونمط عيش مختلف كثيرًا عما تذكره من حياتها في سوريا، وتضيف أنها الآن تعيش حياتين مختلفتين تمامًا بين البيت والمدرسة أبرزها اختلاف اللغة، وتقول متمنية لو أن باستطاعة كل الفتيات التي تعرفهن الانضمام إلى صفوف الكشافة والاستمتاع باللعب والتعلم كما تفعل هي مع زميلاتها. شارحة كيف كان للكشافة دور في مساعدتها على أن تصبح شجاعة أكثر في المدرسة والمنزل، كما أن لديها حلمًا بأن تكون قائدة لمجموعة الزهرات في المستقبل لتعلمهن كل ما عرفته عن الطبيعة والحيوانات.
كيف أثمرت هذه الجهود بنتائج كبيرة؟
أثمر عمل القائدات طوال السنوات الماضية باستمرار عمل الفرقة وتحقيق أكبر عدد ممكن من أهدافها وتخريج جيل من الفتيات الرائدات اللواتي أصبحت الكثير منهن مؤثرات في محيطهن، متخطين كل الصعوبات المتعلقة بالدعم المؤسساتي أو المادي، وهذا بفضل المحاولات الكبيرة لتعريف الفتيات بشخصيات عربية بارزة وناجحة وإشراكهن في الأنشطة الاجتماعية كالمسابقات الرمضانية والاحتفالات الموسمية والأعياد وترك زمام الأمور لهن في الكثير من الأحيان مما جعلهن قائدات بالفطرة.
انعكس كل هذا إيجابًا على الحياة الشخصية للفتيات وتوسيع إدراكهن ومعارفهن، وعلى اختياراتهن المستقبلية، فمنهن من حققت نجاحًا ملحوظًا في محيطها ومنهن من استمرت لتكون قائدة بعد إنهائها عدة مراحل من التدريبات؛ أولهن عاشة خالد التي أسست الفرقة وباتت واحدة من الصحفيات العربيات المهمات في قناة TRT بنسختها العربية، وشذا سويد (19 عامًا) وهي رائدة وعريف أول بفرقة الفاتح، باتت مسؤولة عن الطلاب العرب في مؤسسة الشباب الجامعية في إسطنبول، وكذلك القائدة ريما (22 سنة) التي قالت خلال حوار مع “نون بوست” إنها لا تعلم بالضبط ما الذي دفعها للاستمرار في الفرقة كقائدة كشفية بعد أن أمضت بها ما يقارب الـ5 سنوات، إلا أن للكشافة أرضًا خاصة لا يمكن فهمها دون الخوض بها، وبأن المخيمات واللقاءات الأسبوعية والعمل على مشاريع تطوعية باتت جزءًا من حياتها لا يمكنها الاستغناء عنه.
الاعتراف بالكشافة السورية رسميًا في تركيا
أدت كل هذه الجهود المستمرة والكبيرة إلى لفت أنظار الفيدرالية التركية، وهي الجهة المسؤولة عن إدارة المجموعات الكشفية في تركيا كافة، حيث فتحت الأبواب أمام الحركة الكشفية السورية بشكل أوسع في تركيا، واعتمدت فرقة الفاتح الفرقة السورية الأولى في تركيا نظرًا للجهود الكبيرة في إدارة أمور الفرقة والإقبال المتزايد في الانضمام لها من الأطفال والشباب، حتى بدأت بدعوتها لحضور مخيمات ورحلات تشارك فيها دول كبيرة وبمواسم صيفية وشتوية. كما فتحت الفرصة أمام القادة للتدرب بمؤسساتها مع أشخاص مؤهلين وبشهادات معترف بها ليكونوا قادة مسؤولين ضمن نشاطات الكشافة التركية.
هذا، دفع الكشافة التركية لمنحها مساحة أوسع لوجود الحركة الكشفية السورية في الكثير من المدن التركية، فتشكلت “الكشافة الأهلية السورية” وهي اللجنة الرسمية الآن التي تمثل الكشافة السورية في تركيا وترعى شؤونها. فقد ساعدت في توحيد الفرق الكثيرة التي تشكلت لاحقًا وتوفير المدربين والقادة المؤهلين لإدارة الفرق وتنظيم المخيمات السورية التي كان مخيم “سوريون حول العالم” أكبرها. وتقول خالد في هذا السياق “إن بداية العمل على المشروع كانت ناجحة جدًا وبجهود كبيرة شارك فيها مئات الأشخاص من الكثير من الأماكن، ولكن، لم يستمر الأمر طويلًا حتى بدأ الكثيرون محاولة فرض إيديولوجيتهم الخاصة بينما كانت الرؤية واحدة وهي تنشئة الطفل على استكشاف نفسه بغض النظر عن أيّ شيئ آخر، مما دفعنا كقادة ومؤسسين لفرقة الفاتح مغادرة الهيئة الأهلية نظرًا للاختلاف في الأهداف والطريقة حتى وإن كان هذا القرار على حساب تحقيق حلمنا بالوحدة والمؤسسة الوطنية الواحدة”.
وقد كان لتشكل الفرق المختلفة في أماكن متنوعة من تركيا عونًا في زيادة الإقبال على الانتساب نظرًا لقرب مقرات الفرق من مكان إقامتهم والفرق ذات الأهداف المتعددة كفرقة ابن الوليد المهتمة بالموسيقى الكشفية وتدريب المنتسبين على أدائها في حفلات التخرج والمحافل السورية في تركيا.
ما زالت فرقة الفاتح الإرشادية مستمرة حتى الآن وبجهود فردية جمعها حب الخير والاستكشاف لتحقيق أهداف واحدة وهي إيصال صورة صحيحة ومتكاملة عن الحركة الكشفية لدى الأهالي، وبرعاية الأجيال السورية في المهجر وتوجيه طاقاتهم في المكان الصحيح، وتنشئتهم على الاستكشاف والفضول والهرب من أن يكونوا نسخة مكررة.