باتت مصادر سوريا المائية على المحك، بعد سيطرة “إسرائيل” على 10 مصادر ومسطحات مائية في الجنوب السوري، أهمها سد “المنطرة” شريان حياة محافظة القنيطرة، وقبله بمدة قصيرة الوصول إلى سد كودنة ورويحينة والوحدة على حدود الأردن، ما يعني تشكيل عائق أمام إمدادات المياه السورية التي تميز البلاد.
وتشكل أزمة المياه في سوريا جزءًا من أزمة مرعبة تلقي بكاهلها على السوريين، بسبب تأثيرات الحرب على البنية التحتية للمياه وجفاف نهر الفرات وما رافق ذلك من استخدامه كورقة ضغط سياسي، إضافة إلى موجات الجفاف الأخيرة.
إلا أن ذلك شكّل فرصة ذهبية ستستفيد منها “إسرائيل”، وأرضًا خصبة لاختراق الجنوب الغربي السوري من أجل تثبيت نفوذها الإقليمي، والتحكم بمصادر الحياة السورية.
الأمن المائي السوري
تقف سوريا على ثروة مائية ضخمة، إذ تتوزع على أراضيها 7 أحواض مائية هي: حوض الفرات وحلب، وحوض دجلة والخابور، وحوض الساحل، وحوض البادية، وحوض العاصي، وحوض بردى والأعوج، وحوض اليرموك.
كما يمرّ عبرها 16 نهرًا ورافدًا، 5 منها مشتركة دوليًا (الفرات، دجلة، العاصي، اليرموك، والكبير الجنوبي)، إضافة إلى 9 بحيرات.
ويشكّل تدفق الأنهار ما يقرب من 75% من إجمالي موارد المياه السطحية المنظمة في البلاد، وأكثر من 45% من موارد المياه المتاحة للاستخدام، كما يقدر مجموع كمية الموارد المائية في سوريا ما بين (18.209-16.375) مليار م3/سنة من المياه، فيما يقدر متوسط إمدادات المياه السطحية بحوالي 10 مليارات متر مكعب، ومتوسط إمدادات المياه الجوفية المتجددة حوالي 6 مليارات متر مكعب.
ورغم الغنى الظاهر في الأحواض، فإن الحقيقة تشير إلى أن سوريا تعاني فقرًا مائيًا حادًا، فحسب دراسة نشرتها منظمة “Action Against Hunger” الإنسانية الدولية عام 2020، فإن مؤشرات الأمان المائي في سوريا تزداد خطورة، حيث يحتاج 15.5 مليون سوري إلى المياه الآمنة، بحلول عام 2050، العام الذي تصل فيه نسبة العجز المائي في سوريا إلى أكثر من 6 مليار متر مكعب.
بالمقابل، فقد قالت دراسة للبنك الدولي، نشرت في أبريل/نيسان 2023، إنه بنهاية العقد الحالي، ستنخفض كمية المياه المتاحة للفرد سنويًا عن الحد المطلق لشح المياه، البالغ 500 متر مكعب للفرد سنويًا، كما أنه وبحلول عام 2050، ستكون هناك حاجة إلى 25 مليار متر مكعب إضافية من المياه سنويًا لتلبية احتياجات المنطقة.
الأمن المائي ينطلق من الجولان
إلى جانب احتلال “إسرائيل” الجولان، الهضبة المتحكمة بمصادر المياه الأساسية في المنطقة، والتي توفّر حوالي ثلث إمدادات المياه العذبة لها، توغلت منذ السابع من ديسمبر/كانون الأول 2024 في مناطق عديدة جنوب سوريا لتتجاوز خط وقف إطلاق النار الذي تمّ الاتفاق عليه عام 1974، وتسيطر على ما تبقى من مرتفعات الجولان الاستراتيجية، أي جبل “الشيخ” بالكامل الذي يشكّل حدود الجولان الشمالية ويعدّ أهم المصادر المائية المغذية للجولان والمناطق المجاورة، إذ تغذي ينابيعه العديد من الأنهار، كالحاصباني وبانياس واللدان والأردن أطولها، عدا عن انكشاف منابع مائية استراتيجية في جبل الشيخ، تغذي مناطق واسعة في ريف دمشق وضواحي العاصمة الغربية والجنوبية.
القوات الإسرائيلية المتوغلة، كانت قد وصلت قرى وبلدات في حوض اليرموك (ريف درعا الغربي)، الحوض الحيوي للأمن المائي في سوريا والأردن، فهناك نهر اليرموك محطّ اهتمام الأطماع الإسرائيلية والنابع من بحيرة مزيريب وأكبر روافد نهر الأردن، الذي يغذي الأراضي الزراعية ويوفّر مياه الشرب لملايين السكان في السويداء ودرعا وشمال الأردن.
عدا عن وجود العديد من العيون المائية والسدود السورية التي تقدّر كمية مائها بنحو 225 مليون متر مكعب، كسد اليرموك، وسد الوحدة السد الخرساني الذي يبلغ ارتفاعه 110 أمتار، ويخزن وحده 225 مليون متر مكعب، وقد سبق أن عارضت “إسرائيل” اشتراك سوريا والأردن في بنائه، متحججة بأن السد وخزانه من شأنه أن يهدد إمدادات نهر الأردن لها، والذي تعتمد عليه لمياه الشرب.
سد “المنطرة” شريان القنيطرة
في القنيطرة جنوب سوريا، وصل جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى سد “المنطرة”، أكبر وأهم سد لحوض اليرموك وشريان حياة القنيطرة والمناطق المحيطة بها، والذي يبلغ طوله 3.5 كيلومترات، وتقع داخل المنطقة العازلة التي فرضتها الأمم المتحدة على بعد بضع مئات من الأمتار شرق القنيطرة وحوالي 50 كيلومترًا جنوب غرب العاصمة دمشق.
ويغذي سد المنطرة مدينة القنيطرة التي توغلت بها “إسرائيل”، والمنطقة الجنوبية القاحلة الأوسع في سوريا، ويعني احتلاله خسارة 30-40% من موارد سوريا المائية، و40% من إمدادات المياه في الأردن، لصالح “إسرائيل”، ليضاف إلى المصادر المائية التسعة الأخرى من أنهار وسدود ومسطحات مائية وصلتها “إسرائيل” (9 منخفضة نسبيًا ذات خزانات ضحلة وسد واحد مرتفع)، كسد “رويحينة” على بعد 2.5 كم أسفل “نهر الرقاد” ذاته، والذي يشكل الحدود الطبيعية لمرتفعات الجولان إلى الشرق، وسد “كودنا” الذي يبلغ طوله ثلاثة كيلومترات، والذي يشغله “سد بريقة” الأصغر المجاور له، إضافة إلى سدي “غدير البستان”، و”جسر الرقاد” الأكبر حجمًا نسبيًا على نهر الرقاد أحد روافد اليرموك.
وهناك ثلاثة سدود مأهولة أخرى تقع إلى الشرق على روافد نهر الرقاد وهي سد “شبراق”، وسد “سحم الجولان”، وسد “عابدين”، وبذلك تكون منطقة الاحتلال ممتدة الآن من المنحدرات الشرقية لجبل الشيخ على الحدود اللبنانية إلى وادي نهر اليرموك بالقرب من الأردن جنوبًا.
تطويق دمشق
يساهم حوضا دمشق: “بردى” النابع من سهل الزبداني في إرواء دمشق وري سهل الغوطة المحيط به بما يرفده من وديان وينابيع أهمها وأكبرها عين الفيجة، أما الحوض الثاني “الأعوج” النابع من سفوح جبل الشيخ باتحاد فرعيه “السيبراني والجناني”، فيستخدم في ري سهل الغوطة فقط، لكن الوصول الإسرائيلي أعلى سفوح جبل الشيخ والاقتراب عشرين كيلومترًا من العاصمة دمشق، زاد المخاوف من احتلال سدود حوض بردى والأعوج في ريف دمشق، والتي تستوعب نحو 8596 ملايين متر مكعب من المياه، وتروي ما يزيد على 17 ألف هكتار من الأراضي في محافظتي دمشق وريفها الجنوبي الغربي.
ما يعني تهديد المستقبل المائي لدمشق وريفها إلى جانب محافظات درعا والسويداء والقنيطرة وتدهور القطاع الزراعي في هذين الحوضين، وتأزم الواقع الاقتصادي.
في حديثه لـ”نون بوست”، يشير المهندس المعماري والباحث في تخطيط المدن، نزيه بريك، إلى أن التوغلات الإسرائيلية في الجنوب السوري والسيطرة على مصادر المياه تندرج ضمن العقيدة الصهيونية بتوسيع سيطرتها على الثروة المائية، وهذا سيكون له انعكاسات خطيرة ومصيرية على السكان المحليين.
ومن تلك الانعكاسات – حسب بريك المنحدر من الجولان المحتل – تهديد الأمن الغذائي للسكان، وهو تهديد وجودي، يبتز السكان المحليين، خاصة أن غالبيتهم يعتمدون في معيشتهم على القطاع الزراعي، كذلك ابتزاز السلطة الجديدة في سوريا، خاصة أن محافظة القنيطرة ودرعا وريف دمشق لها النصيب الأكبر في تأمين السلة الغذائية للعاصمة دمشق والمدن القريبة منها، وأخيرًا تعزيز الاستيطان في الجولان، عبر توظيف الثروة المائية الجديدة، في خدمة اقتصاد المستوطنات، الذي يقوم بدرجة أولى على الزراعة.
ويتوقع تقرير صادر عن مركز “المعرفة الإسرائيلي للاستعداد للتغير المناخي” المزيد من التصعيد الأمني المستقبلي في سوريا، والذي قد يكون نطاقه وتأثيره على “إسرائيل” أكثر أهمية بكثير من الماضي ويعود السبب في ذلك إلى تفاقم أزمة المياه والاتجاهات الديموغرافية التي تتوقع زيادة بنحو 60% في عدد سكان سوريا عام 2050، والذي يقدر بنحو 33 مليون نسمة.
ومن المتوقع أيضًا أن يؤدي نقص مياه الشرب في معظم المدن الكبرى والمستوطنات الحضرية في سوريا إلى أعمال شغب ضخمة، وهجرة جماعية من المستوطنات الريفية، وخاصة من الأطراف إلى المدن الكبرى، وكذلك توقع هجرة الملايين إلى تركيا ولبنان و”إسرائيل” التي ربما تعجز في الدفاع عن حدودها.
هذا عدا إلى الانتشار الإقليمي للأوبئة مثل الكوليرا، وتفاقم الأزمة الذي يمكن أن يؤدي إلى حرب موارد في الشرق الأوسط، وبما أن “إسرائيل” مستقرة من حيث مواردها المائية، فإنها ستصبح واحدة من أكثر الوجهات جاذبية للمهاجرين بسبب المناخ، وهذا بالطبع من جانب المهاجرين المناخيين من بلدان أخرى، وفي المقام الأول الأردن.
اختبار صعب أمام دمشق
مؤخرًا، علق قائد الإدارة الجديدة، أحمد الشرع، على التوغل الإسرائيلي، قائلًا: “إن تقدّم إسرائيل في المنطقة كان عذره تواجد الميليشيات الإيرانية وحزب الله، أما اليوم وبعد تحرير دمشق فليس لهم دور”، مشددًا على أن هناك ذرائع تتذرع بها “إسرائيل” للتقدم على المنطقة العازلة، وعليه الانسحاب.
ويمثّل الابتزاز الإسرائيلي بورقة المياه طعنةً قاسية للإدارة السورية الجديدة، باعتباره ينذر باختبار حرج لها في ظل الكم الهائل من الملفات الشائكة أمامها، إضافة إلى كارثة كبيرة لا يمكن أن تحملها سوريا على ما تعانيه أصلًا من فقر مائي وقيود على الوصول لمصادرها المائية ولا سيما في شرق سوريا.
فأمام التحكم التركي بتدفقات الفرات الطبيعية من جهة، وصراعها مع ميليشيات قسد الكردية وموجات الجفاف خلال العقد الأخير من جهة أخرى والتي أثرت بشكل كبير على الأمن المائي والغذائي، عوامل دفعت منظمة اليونيسيف لإصدار تقرير، أشارت فيه إلى أنه “اعتبارًا من عام 2021، أصبحت سوريا واحدة من 11 دولة في الشرق الأوسط تعاني من نقص المياه الأكثر خطورة في العالم”.
حسب الباحث بريك، فإن السلطة الجديدة في دمشق لم تقف بعد على قدميها، حيث استلمت بلدًا مدمرًا اقتصاديًا وعسكريًا ونفسيًا، ويواجه قضايا شائكة من شماله لجنوبه، ومع تمسك “إسرائيل” بسياساتها التوسعية، تبقى القوة شرطًا أساسيًا لمحاربتها.
“وباعتبار أن السلطة في سوريا لا تمتلك حاليًا أدنى أدوات القوة، وخاصة العسكرية، فيبدو أن “إسرائيل” ستبقى في المناطق الجديدة التي احتلتها بعد سقوط نظام عائلة الأسد لمدة طويلة، وفي ظل هذه المعطيات تبقى الورقة الأقوى للجم أطماع الدولة اليهودية، هو صمود السكان في بلداتهم، وعدم الخضوع لمشروع التهجير بأي ثمن”، يضيف بريك.
من جهته، يقول الباحث في الشأن الإسرائيلي ياسر مناع لـ”نون بوست”، إن اهتمام “إسرائيل” المتزايد بالسيطرة على السدود والمسطحات المائية، لا سيما تلك التي بين العاصمة دمشق والجولان، يأتي كجزء من استراتيجيتها لتوسيع نفوذها الإقليمي والسياسي والديني والتحرك مستقبلًا في أي مفاوضات مع سوريا أو أطراف أخرى، وإضعاف محاولات إعادة بناء الدولة السورية بعد الحرب.
المياه في العقيدة اليهودية
تركيز “إسرائيل” على مصادر المياه في سوريا لا يقتصر على اعتبارها أداة للضغط السياسي شديد الفعالية، بل يعود أيضًا لسبب ديني متعلق بسرديات عقدية في “التوراة” مرتبط بما يسمونه “أرض الميعاد”.
وقد عملت “إسرائيل” منذ قيامها على المطالبة بضمّ المناطق الغنية بالمياه إلى أرضها التي تزعم أنها جزء من “إسرائيل” التوراتية بغية استيعاب الاستيطان اليهودي، والملاحظ أن مسألة المياه طغت بقوة على تصورات الزعامات اليهودية ليس فقط في فلسطين بل تجاوزت إلى عمق كل بلاد الشام.
وقد كتب بن غوريون مقالة في نشرة “فلسطين” التابعة للمنظمة اليهودية، عام 1918، عبّر فيها عن تصوّره لحدود الدولة الصهيونية التي “تضم النقب برمته ويهودا والسامرة الضفة الغربية، والجليل وسنجق حوران وسنجق الكرك (معان والعقبة)، وجزءًا من سنجق دمشق الذي يضم أقضية القنيطرة، ووادي عنجر حاصبيا في لبنان.
وفي عام 1919 كان من أهم القرارات التي اتخذها المؤتمر الصهيوني العالمي الذي عقد بمدينة بازل بسويسرا: “يجب تذكير عصبة الأمم أنه لا بد من إدخال المياه الضرورية للري والقوة الكهربائية ضمن الحدود وتشمل نهر الليطاني وثلوج جبل الشيخ”.
الباحث بريك أوضح إلى أن مصادر المياه لطالما كانت محط أطماع الفكر الصهيوني الاستعماري، وقد عبر عن ذلك كتابيًا وشفويًا معظم القادة الصهاينة، قبل أن يتبلور الفكر الصهيوني في نشوء الدولة اليهودية وبعدها وعلى رأس هذه الأطماع مصادر المياه في الجولان وجبل الشيخ وحوض اليرموك ونهر الليطاني في جنوب لبنان.
ويشترك الباحث المناع في أن المياه في الفكر اليهودي تُعدّ رمزًا للحياة والازدهار، كما أن النصوص التوراتية تشير إلى الأرض الموعودة “تفيض لبنًا وعسلًا”، ما يربط المياه بتحقيق الرخاء والوعد الإلهي.
“كذلك فإن الأنهار والبحيرات مثل نهر الأردن وبحيرة طبريا تحمل أهمية رمزية ودينية كونها جزءًا من الجغرافيا التوراتية، فهذه الرؤية تُترجم إلى خطوات عملية تهدف إلى تحقيق الأحلام الدينية بالسيطرة على الأراضي التي تحتوي على موارد مائية رئيسية، كجزء من رؤية أرض الميعاد، التي تشمل مناطق تمتد من نهر النيل إلى الفرات”، يختم المناع حديثه.
من الواضح أن السياسات الإسرائيلية المتعلقة بالسيطرة على موارد المياه السورية، ستفرض ضغوطًا إضافية على النظام السياسي القائم، في حال عجزه عن تلبية احتياجات السكان، ومواجهة انخفاض حادٍ في الاقتصاد المتدهور أصلًا والقائم على الزراعة نوعًا ما، في ظل سطوع مشكلة أخرى وهي غياب أي اتفاق مائي سابق بين سوريا و”إسرائيل”، ما يعقّد المهام أكثر أمام الإدارة الجديدة باستثناء الاتفاق الوارد في موضوع خط الهدنة.