لم تمنعه شخصيته وتاريخه المثيران للجدل من طرق أبواب رئاسة الوزراء البريطانية، إيذانًا بتربعه على سدة حكم المملكة التي بالكاد تطلع عليها الشمس – إن طلعت – سواء من حيث الواقع المناخي الغائب والبارد غالبًا أم المجاز السياسي المتمثل غالبًا أيضًا بانضواء هذه البلاد منذ رئيس حكومتها الأسبق توني بلير على الأقل تحت ظلال الإستراتيجيات الأمريكية، وهي تعاكس ما يرويه تاريخ الهيمنة الإمبراطورية الاستعمارية على أجزاء شاسعة المساحات من عالم ما قبل الحرب العالمية الثانية.
إنه وزير الخارجية البريطاني السابق بوريس جونسون الفائز بسلاسة ويسر وبفارق كبير، بزعامة حزب المحافظين ورئاسة الوزراء على منافسه جيريمي هانت وزير الخارجية الحاليّ، لكن جونسون لا يجد طريقًا مفروشًا بالورود بقدر ما يجد ملفات متراكمة وقضايا مستعصية أورثته إياها رئيسة الحكومة المستقيلة تيريزا ماي، فكيف سيأتي بما لم يتسن لماي في ملفات معقدة من أهمها الخروج من الاتحاد الأوروبي؟ وما أولويات رئيس الوزراء البريطاني الجديد؟ وكيف سيسعى لتنفيذها؟ وهل سيتَّبع أهواء “سيد البيت الأبيض” الذي لا يُخفي إعجابه به؟
أزمات وتحديات على الطريق
أصبح الرجل، وهو في منتصف الخمسينيات من عمره، نزيل مبنى “10 داوننغ ستريت” (مقر الإقامة الرسمية ومكتب رئيس وزراء بريطانيا)، لكن لا هدف معلن لديه ولدى الدولة البريطانية يعلو على حل معضلة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي “البريكست” بعدما كانت سابقته تيريزا ماي قد استقالت أو “أُسقطت” نتيجة إخفاقها الحاد في إنجاز صيغة طلاق ترضي الطرفين طوال سنتين من الرقص على الحبال المشدودة بين لندن وبروكسل.
الآن، جاء دور جونسون، وقد كان أبرز “عرَّابي البريكست” وأشرس المدافعين عنه خلال استفتاء 2016، لكن الحدَّاد فعل بالمجتمع البريطاني ما فعله جونسون منذ قاد حملة خروج المملكة من عباءة بروكسل خلال هذه الفترة، مخلِّفًا وراءه انقسامًا حادًا على طول البلاد وعرضها، أخطر ما فيه أنه يقف على أحد ضفتيه رافعًا عقيرته بقوة في وجه أنصار الاتحاد الأوروبي ولسان حاله يقول: “ليكن البريكست أو لا نكون، سنهزم بريكست، سنوحد البلاد، سنهزم جيريمي كوربن”.
جونسون يعي أن الوصول لاتفاق مع بروكسل شبه مستحيل بالنظر إلى طبيعة الفترة المتبقية قبل الموعد النهائي المقرر لإتمام “البريكست” نهاية أكتوبر/تشرين الأول المقبل
كما أن “بو جو” – كما يحلو للبريطانيين تسميته – في مقابل إخفاق سلفه تيريزا ماي تعهد بعد إعلان فوزه “بإنهاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي”، وأعلن خلال حملته الانتخابية نيته إتمام الانفصال التاريخي بأي ثمن في موعده المقرر ولو كلَّف ذلك الخروج دون اتفاق، وهذا في حد ذاته قد يتكفل بحسب مراقبين بشق صفوف أنصاره الموالين للاتحاد الأوروبي في حزب المحافظين الذين تعهدوا بمنع جونسون من محاولة إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق، وحذروا كما يحذر بعض الاقتصاديين من تداعيات الخروج غير المنظم من الاتحاد الأوروبي.
لكن جونسون يعي أن الوصول لاتفاق مع بروكسل شبه مستحيل بالنظر إلى طبيعة الفترة المتبقية قبل الموعد النهائي المقرر لإتمام “البريكست” نهاية أكتوبر/تشرين الأول المقبل، حيث الإجازات الصيفية التي لن تسمح له بالحركة إلا في شهري سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول المقبلين، كما تصر بروكسل على أنها لن تعيد فتح المفاوضات.
يتحدث بوريس جونسون بعد إعلانه رئيسًا للحكومة البريطنية القادم في مركز الملكة إليزابيث الثاني في لندن
لكن هناك خطرًا أكبر يتهدد البلاد التي طال أمد انزوائها في ظلال أمريكا، وقد حذرت منه تيريزا ماي عشية رحيلها، وهو تشرذم المملكة المتحدة بين باقٍ في الاتحاد ومغادر، وهو ما قد يتحقق إن لم يُبدع جونسون خطة انفصال ترضي أطراف الأسرة البريطانية من إنجلترا إلى إسكتلندا مرورًا بأيرلندا الشمالية، وتعيد للاتحاد الأوروبي حقوقًا مالية تُقدَّر بعشرات المليارات من الدولارات.
داخليًا أيضًا، يواجه رئيس الوزراء الجديد محاسبة برلمانية صعبة، وكذلك انقسامات داخل حزبه، فهو يرث برلمانًا منقسمًا كما كان في أي وقت مضى تحت حكم تيريزا ماي، كما يرث أغلبية أضعف من تيريزا ماي، ما يعني أنه سيقود سفينة آيلة للغرق يرى الكثير أنها لن تطيح بجونسون وحده بل كذلك بحزب المحافظين الذي تزعم سدة الحكم لقرابة عقد كامل.
“ترامب جديد” في “10 داوننغ ستريت”
ليس لون البشرة وكثافة الشعر وملامح الشخصية هي فقط أسباب تشبيه جونسون بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وربما يكفي قليل من التمعن في صورته السياسية ليكشف مؤشرات أشد دلالة على أن “بريطانيا العظمى” قد اختارت باختياره رئيسًا لحكومتها أن تحذو حذو الولايات المتحدة وتسلم زمام أمورها لليمين الشعبوي الصاعد بين ظهرانيها كما في الغرب بشكل العام وإن اختلفت تسمياته وتفاوتت درجات صعوده بمثل ما تتفاوت برامجه وشعاراته بين التشدد والأقل تشددًا.
التماهي الملحوظ بين بوريس جونسون ودونالد ترامب يطرح تساؤلات بشأن تعاطي لندن مع ملف العلاقات مع إيران وإدارة أزمة الناقلات الراهنة بشكل خاص
رغم ذلك لن تكون الصورة التشبيهية بين جونسون وترامب قاتمة كلها على الأقل بالنسبة لحدهما، بل سيكون هناك انفراج في العلاقات المتوترة مع واشنطن، كيف لا؟ فالعلاقة التي تجمع سيد البيت الأبيض بجونسون لا تقتصر على تسريحات الشعر الغريبة، بل تتجاوز ذلك إلى كونه سياسيًا لا يعرف الخطوط الحمراء مثل ترامب الذي كان أول المهنئين بقوله “جونسون سيكون عظيمًا”، وتوقع الأسبوع الماضي أن جونسون سيصلح ما وصفه بـ”الكارثة” التي تسببت بها رئيسة الوزراء المستقيلة تيريزا ماي بشأن “البريكست”، وهو ما قد يُترجم بانخراط أكبر من لندن في مغامرات ترامب في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
بيد أن الواقع الجديد الذي يتسلم فيه بوريس جونسون مهام منصبه ربما يجعل من ملف “البريكست” بكل تعقيداته أحد التحديات لا أكبرها بالضرورة في ظل تحديات خارجية لا يغيب عنها التدهور الاقتصادي والتوتر في مضيق هرمز وأزمة الناقلات مع إيران التي تتفاعل توتراتها على نحو متلاحق، فثمة ناقلة نفط تحتجزها إيران على مرأى ومسمع حكومة جلالة الملكة كلها، حكومة تتهاوى على إثر استقالات متتالية لوزراء محافظين يرفضون العمل مع الرجل الذي يرون في نصره هزيمةً للقيم البريطانية وانتصارًا لتشدد اليمين، وهو أمر يحذر الخبراء من أنه سيدفع اقتصاد المملكة المتحدة إلى تباطؤ حاد.
ولأنه لا يمكن لبريطانيا أن تدير ظهرها لمثل هذه الأحداث، فقد حاولت ضمن شركائها الأوروبيين في الاتفاق النووي الإبقاء على “شعرة معاوية” مع إيران ومحاولة إصلاح ما أحدثه الخروج الأمريكي من الاتفاق العام الماضي، لكن التماهي الملحوظ بين بوريس جونسون ودونالد ترامب يطرح تساؤلات بشأن تعاطي لندن مع ملف العلاقات مع إيران وإدارة أزمة الناقلات الراهنة بشكل خاص.
دونالد ترامب يصافح بوريس جونسون في الأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 2017
في هذا الصدد، تقول نائبة مدير السياسة الخارجية في معهد بروكينجز سوزان مالوني، في مقال بصحيفة The Guardian البريطانية، إن مصادرة إيران لناقلة نفط بريطانية يهدد الخلاف المتصاعد بين واشنطن وطهران، لكن في الوقت نفسه الذي تتعقد فيه الأزمة بينهما، هناك فرصة على رئيس الوزراء الجديد أن يستغلها، وهي التقارب أكثر مع ترامب للتخلص من المسؤولية مع تعزيز العلاقة المضطربة عبر الأطلسي حول إيران، وترى أن بريطانيا والولايات المتحدة تحتاجان أيضًا إلى تحقيق توازن دقيق في الرد على هذا الحادث الأخير، وأن جونسون في وضع جيد للعمل مع واشنطن لتعزيز هذه الرسالة وإعادة بناء نهج مشترك لأمن الخليج.
وعلى عكس ترامب، ليس جونسون منكرًا لتغير المناخ، ولكن مع ذلك، أعرب الممثل الخاص السابق للمملكة المتحدة لتغير المناخ ديفيد كينج عن قلقه من حكومة جونسون بسبب سجله في تهميش القضية كوزير للخارجية، وقد تعهد بخفض الضرائب على أصحاب الأجور المرتفعة، ويريد تطبيق نظام الهجرة على النظام الأسترالي، مع ضمان أن بريطانيا لا تحلم إلا بأكثر المهاجرين ذكاءً وإفادة للشركات الكبيرة المتمركزة في بريطانيا.
هل سيتأتى أي من هذا؟ بحسب نيك ديردن، مدير منظمة العدالة العالمية الآن، يبدو من الصعب تحديد ذلك، لأن جونسون لا يمكن توقعه ولا يمكن الوثوق بأي شيء يقوله، ويبدو أن كذبه مَرَضي، لكن الأمر الواضح أنه مثل ترامب، سوف يفعل أي شيء للتمسك بالسلطة، أضف إلى ذلك يمينية جونسون وتاريخها، ورغبته في الانضمام إلى “الرجال المتشددين” للنظام العالمي الجديد، والأكثر من ذلك، يمكن تكييف معتقدات جونسون التاريخية بسهولة مع موجة الشعوبية الاستبدادية التي تجتاح الكوكب، حيث صعود ترامب وبولسانارو ودوتيرتي ومودي وأمثالهم.
ما هو متوقع من جونسون
لا يزال كسر جونسون للقواعد أكثر قتامة، حتى أصبح التعصب الذي استخدمه سيء السمعة الآن، فقد سبق أن وصف النساء المسلمات اللائي يرتدين النقاب بـ”لصوص البنوك” و”صناديق البريد”، وفي مقالته الأسبوعية في “ديلي تليجراف”، وصف الأفارقة بأنهم “أطفال سود صغار”، وأشار إلى “ابتسامات البطيخ”.
حاول بوريس جونسون محو كثير من زلات لسانه السابقة وخاصة فيما يتعلق بالمسلمين الذين طالتهم منه إساءات كثيرة، فيردد كثيرًا ليدفع عن نفسه تهمة معاداة الإسلام أن “جده تركي مسلم من أصول شركسية”، إذ يذكِّره معارضون بكلام مهين قاله في حق النساء المنتقبات، يسارع إلى الاعتذار المحسوب، ليتساءل البعض: “هل كانت محاولات الرجل تصحيح مسار أم مجرد رسائل انتخابية تنقضي بانقضاء الحاجة إليها؟”.
ستكشف الأيام المقبلة توجهات السياسات البريطانية الجديدة لا في ملف إيران فقط، وإنما على مستوى القضية الفلسطينية على وقع وصف جونسون نفسه سابقًا بـ”الصهيوني حتى النخاع”
هذا التهرب يعني أننا لا نعرف ما الذي سيفعله بوريس جونسون بالفعل، لكن هناك لمحات يشارك فيها بلا شك ترامب، وقد تكشف سياسة رئيس الحكومة الجديد المقبلة، على سبيل المثال، فيما يتعلق بالهجرة، كان التخويف من صعود جيريمي كوربين زعيم حزب العمل أحد أهم أركان الدعاية الانتخابية التي تبناها جونسون وكل منافسيه على قيادة حزب المحافظين، فقد صوروا الرجل العُمَّالي الذي يتعاطف مع المهاجرين ويبدي قدرًا من التفهم النسبي لكفاح الشعوب من أجل حريتها على أنه خطر داهم على بريطانيا.
ومن غير المتوقع أن يغيب هذا الهاجس عن رئيس الحكومة الجديد، لا سيما أن سيرته الذاتية تقول إن مولده عام 1964 كان أشبه بـ”سوء طالع”، فقد خسر المحافظون بزعامة إليك دوغلاس هيوم بعده رئاسة الحكومة لصالح العمال بزعامة هارولد ويلسون، وجلسوا في مقاعد المعارضة 6 سنين لاحقة.
ستكشف الأيام المقبلة توجهات السياسات البريطانية الجديدة لا في ملف إيران فقط، وإنما على مستوى القضية الفلسطينية على وقع وصف جونسون نفسه سابقًا بـ”الصهيوني حتى النخاع، وأن “إسرائيل البلد العظيم الذي يحبه”، بحسب ما نقل عنه موقع “ديبكا” الاستخباراتي الإسرائيلي.