على مدار السنوات الماضية، شاهدت الغالبية العظمى منا كيف تهربت حكومات العالم من أزمة اللاجئين الفارين إلى أراضيها الآمنة، وكيف فشلت السياسات الحقوقية والمنظمات الدولية، بكل ثقلها، في إنصافهم واحتوائهم. في الوقت عينه، ارتبط اسم تركيا بشكل وثيق بهذه المسألة، وتحملت حكومتها أعباءها وانعكاساتها، وذلك ليس غريبًا تمامًا على رئيسها رجب طيب أردوغان الذي حرص دومًا على الفوز بدور البطولة في القضايا الإنسانية بالذات وخصوصًا تلك التي تمس المنطقة العربية.
ولأن السياسة ليست بالمجان ولا تعترف بالأعمال الخيرية، لم تكن تجربة تركيا في هذا الشأن أمرًا خاليًا من المنافع والمصالح السياسية العظيمة، ولم تكن خطوتها اختيارية بالكامل، لأنه إذا عدنا إلى الوراء في التاريخ وجمعنا نتف الحكايات والأحداث التي وقعت بجوار وداخل هذه البلد، فسنجد أن موقعها الجغرافي حدد تاريخها السياسي منذ البداية وقرر مصيرها، ولكن طموحاتها السياسية أصبحت أكبر من ذي قبل وباتت تسعى لمساحة أكبر على المسرح الدولي، وذلك ما يفسر جزئيًا سبب قيادتها لهذا الملف.
ومع التداعيات الأخيرة التي أثارتها عمليات ترحيل اللاجئين السوريين من تركيا، ترددت الكثير من التساؤلات عن مصير هؤلاء النازحين والأسباب التي دفعت السلطات التركية لاتخاذ هذه الإجراءات، بشكل مفاجئ، ولذلك قررنا في “نون بوست” البحث في تاريخ الجمهورية وإلقاء الضوء على خبرتها في استقبال واستضافة اللاجئين على مر التاريخ وكيف تطورت سياسات وقوانين اللجوء فيها، وهل تلاءمت سياساتها مع توقعات اللاجئين؟
الهجرة من وعبر تركيا
وضعت أزمة اللاجئين تركيا أمام تحديات كبيرة، كان بعضها أكبر من إمكاناتها الفعلية، ولكنها لم تكن مواجهتها الأولى في تاريخ البلاد، فلقد جعلها موقعها الجغرافي عند تقاطع قارتي آسيا وأوروبا، معبرًا ومنفذًا للمهاجرين إلى أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا، كما عُرفت، في فترة الستينيات، بكونها بلد هجرة مع توجه العديد من مواطنيها العمال إلى أوروبا، وتحديدًا إلى ألمانيا التي يعيش فيها حاليًّا نحو 3 ملايين تركي من أصل 15 مليون تركي مهاجر حول العالم، وهو ما يجعلهم الجالية الأكبر من بين المهاجرين خارج البلاد.
مجموعة من العمال الأتراك ينتظرون وصول الحافلة المتجهة من إسطنبول إلى فرانكفورت
وإذا أردنا أن نبحث عن الأسباب التي دفعت بهؤلاء إلى ترك تركيا واللجوء إلى ألمانيا، فسنجد أن “عقود المجد الثلاث” أو المعجزة الاقتصادية التي عاشتها ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ألزمتها بإبرام اتفاقات مع دول عدة، من أجل تصدير أيدٍ عاملة إليها، وكانت تركيا واحدة من تلك الدول التي وقعت على معاهدة “العمال المدعوون/الضيوف”.
تستضيف تركيا نحو 4 ملايين لاجئ سوري، اتبعت معهم سياسة “الباب المفتوح” التي روج لها بخطابات إنسانية، وقوانين مرنة للغاية. ولكن في الأيام الماضية القليلة، غابت هذه الملامح عن السياسة التركية واستبدلت الخطابات الإنسانية بتصريحات متشددة
وإضافة إلى موجات الهجرة منها وعبرها، كانت هناك أيضًا تدفقات إليها طوال القرن العشرين وخلال الحرب الباردة، وخاصةً من مناطق أوروبا الشرقية ودول البلقان، التي هرب أهلها من الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي، إلى جانب ذلك، شهدت تركيا زيادة هائلة في أعداد الأشخاص الفارين من مناطق الصراع والنزاعات في الشرق الأوسط، ومنذ ذاك الحين بدأت الجمهورية التركية بإجراء تعديلات على قوانين اللجوء لديها، لكي تستطيع استيعاب هذه الأعداد والتعامل مع قضاياهم ومشاكلهم.
وفي وقتنا الحاضر، تستضيف تركيا نحو 4 ملايين لاجئ سوري – مسجل بنظام الحماية المؤقتة المعروف باسم “كيمليك” -، فروا إليها بالتدريج بنهاية عام 2011 ولم يكن عددهم حينها يتجاوز الـ8 آلاف شخص بعد. اتبعت تركيا معهم سياسة “الباب المفتوح” التي روج لها بخطابات إنسانية، وقوانين مرنة للغاية، ولكن في الأيام الماضية القليلة، غابت هذه الملامح عن السياسة التركية واستبدلت الخطابات الإنسانية بتصريحات متشددة وإجراءات تعسفية.
قوانين اللجوء في تركيا.. إلى أي فئة ينتمي اللاجئون السوريون؟
صدر أول قانون تركي يتعلق باللجوء والهجرة في تركيا عام 1934، برقم 2510، وحصر هذا القانون حق اللجوء على المنحدرين من أصل تركي فقط. في عام 2006، تم اعتماد قانون جديد يعترف بتركيا كموطن للاجئين وطالبي اللجوء، ولكنه سمح بمنح الجنسية فقط لمن هم من أصول تركية، مع انضمام تركيا إلى الدول الموقعة على اتفاقية عام 1951 المتعلقة بوضع اللاجئين وهي وثيقة للأمم المتحدة تحدد فيها تعريف “اللاجئ” والحماية القانونية وأشكال المساعدة والحقوق الاجتماعية التي يحق للاجئين الحصول عليها.
على إثر هذه المعاهدة، التزمت تركيا “بالقيود الجغرافية” الموضحة في الاتفاقية التي تسمح لها بمنح اسم “اللاجئ” فقط للذين يفرون من أوروبا، وبالتالي وضعها هذا الشرط أمام ما يعرف بـ”سياسة اللجوء ثنائية المستوى”، التي تقضي بتصنيف الأفراد الفارين من بلادهم إلى نوعين: الأول “لاجئون بموجب الاتفاقية وهم الأوربيون، والثاني “لاجئون ليسوا بموجب الاتفاقية” وهم غير الأوروبيين، ولكل فئة حقوق ومعايير تختلف عن الأخرى.
اتضحت هذه السياسية بعد عام 1979 في أعقاب الثورة الإيرانية، حين استقبلت تركيا أول موجة كبيرة من طالبي اللجوء غير الأوروبيين منذ تأسيس الجمهورية عام 1923، إذ طالب الآلاف بحق اللجوء على أراضيها، ولكن السلطات التركية لم تعترف بهم رسميًا كلاجئين بسبب الاتفاقية التي وقعت عليها، وذلك رغم أن الهاربين إليها هم نفس الأشخاص الذين هربوا من نفس نيران الرصاص والحروب.
الإطار القانوني يضم 3 فئات من اللاجئين الأجانب الباحثين عن الحماية الدوليةوهم: اللاجئون الأوربيون المعترف بهم رسميًا كلاجئين وفقًا لسياسة الثنائية، والثانية يندرج تحتها اللاجئون الشرطيون الذين من المقرر إعادة توطينهم في بلد ثالث
ومع تحيز السياسات للاجئين الأوروبيين وبدء الأزمة السورية عام 2011، اشتدت حاجة تركيا إلى قوانين الحماية المؤقتة التي من شأنها أن تتعامل مع طالبي اللجوء من المستوى الثاني “غير الأوروبيين”، ما دفعها لاحقًا عام 2013 إلى تعديل الإجراءات المتعلقة بإقامة الأجانب والتأشيرات واعتمدت على قانون الأجانب والحماية الدولية رقم 6458، وهو أول قانون تنصه الحكومة من أجل معالجة نظام اللجوء والهجرة داخل البلاد، وعلى إثره أسست الإدارة العامة للهجرة ومنها الهجرة الإنسانية غير القانونية أو غير المصرح بها.
وبالتالي، أصبح هذا الإطار القانوني يضم 3 فئات من اللاجئين الأجانب الباحثين عن الحماية الدولية، حيث تضم الفئة الأولى اللاجئين الأوربيين المعترف بهم رسميًا كلاجئين وفقًا لسياسة الثنائية، والثانية يندرج تحتها اللاجئون الشرطيون الذين من المقرر إعادة توطينهم في بلد ثالث، والثالثة هم الأفراد الخاضعون للحماية المؤقتة وهم الأشخاص الذين سيتعرضون للخطر إذا تم إعادتهم إلى بلدهم الأصلي، وهي الفئة التي ينتمي إليها غالبية اللاجئين السوريين في تركيا، وليس كلهم.
بعد إقرار هذا القانون، وضعت تركيا خطة عمل مشتركة مع الاتحاد الأوروبي عام 2015، تقضي بتقديم الاتحاد الأوروبي 3 مليارات يورو إلى تركيا مقابل إدارة اللاجئين داخل أراضيها ووقف طوفانهم إلى البلدان الأوروبية وإغلاق المنافذ البرية والبحرية التي يتسلل منها اللاجئون إلى حدود الدول الأوروبية، وبالفعل انخفضت حالات التهريب غير القانونية عبر بحر إيجه، إلى النصف تقريبًا.
ومن هنا بدأت مسألة الهجرة تأخذ شكلًا أكثر جديًا بالنسبة للسلطات التركية، كما باتت تشكل تحديًا كبيرًا للنظام الاجتماعي فيها، لا سيما أن شريحة واسعة من الشارع التركي نظرت إلى هذه المسألة كتهديد أمني لهم وسبب في مشاكلهم الاجتماعية وأزماتهم الاقتصادية التي تزامنت، لسوء الحظ، مع الوجود السوري في البلاد.
كيف تعاملت تركيا مع اللاجئين إليها منذ عام 1980؟
في بداية الثمانينيات، أي ما بعد الثورة الإيرانية، شهدت البلاد تحولًا كبيرًا في أعداد وجنسيات اللاجئين، فلقد تلقت طلبات لجوء من أكثر من مليوني لاجئ من الإيرانيين والأكراد العراقيين، ومنذ ذاك الوقت، بدأت تركيا بسن قوانين وسياسات بهدف التجاوب مع هذه المشكلة، فلقد حصل نحو 1.5 مليون من الإيرانيين الهاربين من اضطهاد الخميني ووحشية نظامه، على حق اللجوء المؤقت في تركيا بين عامي 1980 و1991، ورغم قبولهم مؤقتًا، سعت الحكومة إلى إعادة توطينهم في بلدان أخرى في أوروبا وأمريكا الشمالية.
تبع هذا التدفق الجماعي الذي يعتبر واحدًا من أكبر موجات الهجرة غير الأوروبية التي مرت بها تركيا في تاريخها المعاصر، موجة أخرى من اللاجئين الأكراد العراقيين، ففي تاريخ 25 من أغسطس 1988، هاجمت الحكومة العراقية مدينة حلبجة الكردية بالأسلحة الكيماوية، واحتلت القوات الإيرانية والمقاتلون الأكراد العراقيون المدينة، ما أدى إلى احتدام المواجهة بينهم وبين الجيش العراقي، وتلاه هروب سكان هذه المدينة إلى الحدود التركية.
صورة جندي تركي يعيق تدفق اللاجئين الأكراد العراقين إلى الأراضي التركية عام 1992
لكن الحكومة رفضت استقبالهم في البداية بسبب تخوفها من تسلل أفراد من حزب العمال الكردستاني إلى أراضيها، ولكن نتيجة للضغوط المحلية والدولية، أمر رئيس الوزراء التركي الراحل تورجوت أوزال، بفتح الحدود للاجئين في 28 من أغسطس، ودخلها نحو 60 ألف لاجئ، وكما هو الحال مع اللاجئين الإيرانيين، قدمت تركيا إقامة مؤقتة للاجئين الأكراد العراقيين، وجمعت نحو ألفين منهم ونقلتهم قسرًا إلى مدن كردية في إيران، وتدريجيًا تفرق وتشتت من بقي منهم بين العراق واليونان وفرنسا وأمريكا وبعض المدن الكردية التركية.
في فترة التسعينيات، شهدت تركيا موجات لجوء من المسلمين في دول البلقان مثل الشركس والبوماك والتتار والبوسنيين والألبان والكوسوفيين، وكان البوسنيون أكثرهم عددًا، فمع انهيار يوغوسلافيا عام 1991 وإعلان استقلال البوسنة والهرسك عام 1992، واندلاع الصراعات العرقية والحروب، طلب نحو 20 ألف مسلم من البوسنة و18 ألف من سكان كوسوفو حق اللجوء في تركيا، ومنحوا جميعهم حق اللجوء المؤقت، وحصل 320 من اللاجئين البوسنيين على الجنسية، ومعظمهم من خلال الزواج.
وضحت هذه الموجات المتدفقة من البلقان والعراق مدى تعقيد سياسة اللجوء ثنائية المستوى في تركيا، فلقد كان اللاجئون القادمون من البلقان – من أوروبا الشرقية – أكثر “استحقاقًا” في الحصول على حق اللجوء المؤقت، كما كان احتمال الاعتراف بهم رسميًا كـ”لاجئين” أكثر ترجيحًا من الأكراد العراقيين – القادمين من دولة غير أوروبية –
تزامنت هذه الأحداث، مع موجة جديدة من طالبي اللجوء الأكراد العراقيين عام 1991 حين استخدمت قوات الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، العنف والقمع في مظاهرات خرجت لتحدي النظام، ما تسبب في فرار نحو نصف مليون كردي إلى البلدان المجاورة، وكان نصيب تركيا منهم نحو 500 ألف من الذين استقروا في مخيمات على الحدود، و100 ألف آخرين توزعوا خارج المخيمات وبعضهم عادوا إلى العراق، ولم يبق إلا 5 آلاف منهم في تركيا.
وضحت هذه الموجات المتدفقة من البلقان والعراق مدى تعقيد سياسة اللجوء ثنائية المستوى في تركيا، فلقد كان اللاجئون القادمون من البلقان – من أوروبا الشرقية – أكثر “استحقاقًا” في الحصول على حق اللجوء المؤقت، كما كان احتمال الاعتراف بهم رسميًا كـ”لاجئين” أكثر ترجيحًا من الأكراد العراقيين – القادمين من دولة غير أوروبية – الذين كانت فرصتهم في التمتع بنفس الوضع والحق أو حتى الخدمات أقل من غيرهم، وذلك يشمل فرض المزيد من القيود على تحركاتهم ووصولهم إلى سوق العمل، ما نتج عنه غياب الأمان المعيشي واليقين من المستقبل.
ولم تكن الألفينات أكثر هدوءًا أو استقرارًا، فلقد شهدت هذه الفترة على الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق، ما أدى إلى فر الآلاف من هذه البلدان إلى تركيا خوفًا من نيران الحرب والتطرف والتعصب العرقي، مثل أقلية الهزارة وهي أكبر أقلية عرقية ودينية في أفغانستان، وهم من مسلمي الشيعة الذين استهدفتهم طالبان بشكل مستمر، وبما أن تركيا كانت وما زالت تتبع السياسة الثنائية، فكان أفضل خيار لهؤلاء اللاجئين هو إعادة توطينهم في دولة ثالثة تعترف بهم كلاجئين رسميًا، وهو أمر غير متاح في تركيا بالنسبة للاجئين غير الأوروبيين، إلا باستثناءات معدودة.
هل غيرت الأزمة السورية سياسة اللجوء في تركيا؟
على عكس أي موجة هجرة عاشتها تركيا من قبل، كانت هذه التجربة مختلفة لأن تركيا وفي فترة قصيرة أصبحت البلد المضيف الذي يضم أكبر عدد من اللاجئين السوريين، بالجانب إلى 350 ألف لاجئ غير سوري، حيث يشكل الأفغان وحدهم 35% منهم، والبقية من الإيرانيين والعراقيين الذين تضاعفت أعدادهم بالتزامن مع الأزمة السورية، وجميعهم يندرجون تحت المستوى الثاني من سياسة اللجوء في تركيا، وبالتالي لا يتم الاعتراف بهم رسميًا من الحكومة التركية كلاجئين.
ولكن نظرًا للعدد الكبير من اللاجئين السوريين، اضطرت تركيا إلى إضافة وإصلاح الأنظمة والسياسات المختصة في إدارة هذا الملف، وحاولت الاستجابة لهذه المتغيرات المتسارعة واستيعاب ظروفها بالتعاون مع مجموعة كبيرة من الجهات الفاعلة الحكومية والدولية، مثل مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين (UNHCR) ورئاسة إدارة الكوارث والطوارئ (AFAD)، إضافة إلى المنظمات الإنسانية الرئيسية مثل الهلال الأحمر التركي (Kizilay) ومؤسسة الإغاثة الإنسانية IHH.
وهي جهات اهتمت بشكل أساسي بتوفير مساكن لهؤلاء اللاجئين وتقديم خدمات مثل التعليم الابتدائي والثانوي للأطفال والرعاية الصحية المجانية والتدريب المهني، وهي البرامج التي رفضت الحكومة التركية الانضمام إليها أو السماح بتنفيذها عندما وصل اللاجئون إليها في الثمانينيات والتسعينيات، فلم تكن تركيا توفر التعليم المطلوب للأطفال الأكراد العراقيين الذين فروا إليها ولم تقدم وكالات المعونة الدولية مساعداتها إلى بعض مخيماتهم، بسبب تصنيفاتها المعارضة لوضع “اللاجئ”، التي لا تمنحهم نفس الحقوق.
جدير بالذكر، أن بعد 40 عامًا من هروب ملايين اللاجئين إلى تركيا، اتخذت السلطات خطوة واسعة وحاسمة في موضوع الجنسية الذي كان مقتصرًا على العرق التركي، فلقد سمحت للسوريين بالحصول عليها بداية عام 2016، وغيرهم من الأجانب الذين يملكون إذن عمل، وذلك رغم الانتقادات التي تعرضت لها الحكومة من بعض الأحزاب والأوساط السياسية المعارضة والشعبية.
ومع ذلك، ما زالت هناك بعض المجالات التي لم تستطع الحكومة إدارتها بالشكل المطلوب لا سيما لو أردنا مقارنتها مع الدول الأخرى مثل كندا والسويد وألمانيا، ولو أنها بالأساس اعتمدت في حضورها وقوتها الاقتصادية على وجودهم، وهذا ما يفسر جزئيًا اهتمام بعض هذه الدول بقضية اللاجئين وتسهيل أوراقهم ومعاملاتهم الرسمية التي تساعدهم على دخول سوق العمل بشكل قانوني ومريح.
نقص المعلومات عن عملية اللجوء ووضع اللاجئين داخل النظام التركي من أكبر التحديات التي يواجهها اللاجئون وطالبو اللجوء في تركيا، ما دفع البعض منهم إلى البحث عن حلول خاصة بهم وبظروفهم
على سبيل المثال، كندا، فبحسب تقرير نشرته الصحفية السورية المقيمة في كندا، هزار نجار، على موقعنا “نون بوست”، تقول: “يحصل اللاجئون القادمون إلى كندا عن طريق الأمم المتحدة على أوراق الإقامة الدائمة بمجرد هبوطهم على الأراضي الكندية وقبل مغادرة المطار، فيما يحصل اللاجئون القادمون بطرق غير شرعية عبر الحدود الجنوبية مع الولايات المتحدة الأمريكية على الإقامة المؤقتة بمجرد عبورهم نقطة الحدود”، على اعتبار أن الوضع القانوني هو المفتاح الأول للانطلاقة الصحيحة والبدء بعملية الاندماج في مجال التعليم والعمل.
أما بالنسبة لتركيا، فلقد بدأت الحكومة بتقديم الأوراق الرسمية للاجئين السوريين، ونقصد هنا “الكيمليك”، عام 2013، أي بعد سنتين تقريبًا من وصولهم إلى البلاد، وبحسب تقرير منظمة “اللاجئين الدوليين”، فإن نقص المعلومات عن عملية اللجوء ووضع اللاجئين داخل النظام التركي من أكبر التحديات التي يواجهها اللاجئون وطالبو اللجوء في تركيا، ما دفع البعض منهم إلى البحث عن حلول خاصة بهم وبظروفهم، وهذا يعني أن قسم منهم تحول إلى العمل بشكل غير قانوني في القطاع الرسمي أو بقي دون تصريح أو أوراق رسمية، وأدى ذلك إلى ظهور مشكلة أخرى وهي استغلال اللاجئين في العمالة الرخيصة وغير الآمنة.
عندما يتم الحديث عن اللاجئين في تركيا، غالبًا ما تستخدم لفظة “سوري” للإشارة إلى لاجئ بغض النظر عن الهوية أو الجنسية الحقيقة للشخص
وفيما يخص التنوع الثقافي، كتبت هزار: “في المدارس، في الجامعات، في خطابات السياسيين، في جميع وسائل الإعلام، ومنذ اللحظة الأولى لوصول أي “قادم جديد” – كما جرت العادة بتسمية اللاجئين في كندا – يتم التأكيد على نقطة جوهرية ترتكز عليها الثقافة الكندية، وهي أن تعدد ثقافاتنا مصدر لقوتنا”.
وهي الخطابات والتعريفات التي غابت عن السياسات التركية، فعندما يتم الحديث عن اللاجئين في تركيا، غالبًا ما تستخدام لفظة “سوري” للإشارة إلى لاجئ بغض النظر عن الهوية أو الجنسية الحقيقة للشخص، ورغم العوامل الثقافية المشتركة بين الأتراك والسوريين، فإن الافتقار لوجود آلية واضحة في توزيع أماكن وجود السوريين، وعدم بذل الجهود الكافية في تعريف اللاجئ عن ثقافة البلد المضيف وحصر وجوده في أحياء خاصة، أدى إلى اتساع الفجوة بينهم وازدياد الأفكار النمطية والتصورات السلبية عن كل شعب.
هل لاءمت السياسة التركية توقعات اللاجئين؟
في هذا الخصوص، حاور “نون بوست” الخبير التركي القانوني محمد فاتح يشار، وقال: “لا نستطيع أن نقول بأن تركيا أحسنت إدارة هذا الملف، فالأمر لم يكن هينًا لا سيما مع تدفق ملايين اللاجئين من عدة بلدان إليها، بشكل سريع ومفاجئ، وبالتي كان هناك نقص وسياسات خاطئة، ولكن رغم ذلك، فلقد أعطت الأولوية لإيواء أرواح الهاربين من الحرب، وهذا كان كل ما يهم”، مضيفًا أنها “فعلت ما لم تفعله الدول الأخرى”.
وبالإشارة إلى افتقارها للخبرة المطلوبة في التعامل مع هذه القضية، يؤكد يشار على صعوبة استيعاب هذه المشكلة التي وصفها بـ”الفجائية”، ويرى أن السلطات التركية تعاملت مع السوريين بمرونة وكأنهم “ضيوف”، ولكنها لم تستطع في نفس الوقت تلبية توقعاتهم بالكامل، وخاصةً إذا أخذنا بعين أولوية “حفظ الأرواح” التي سعت تركيا إلى تحقيقها في البداية بصرف النظر عن إمكاناتها الفعلية، وذلك إلى جانب الفروقات اللغوية والثقافية التي زادت هذه المهمة تعقيدًا.
واستنادًا إلى التطورات التاريخية والوقائع الحاليّة، فلا يمكننا إنكار أن نظام اللجوء في تركيا ما زال يواجه تحديات كبيرة ويحتاج إلى تحديث لكي تفتح قنوات تواصل مع اللاجئين وتتحقق عملية الاحتواء التي من شأنها أن تساهم في خلق توازن مجتمعي ومعنوي في الدولة المستضيفة، والأهم من ذلك، أن توفر مدخل رسمي وواضح المعالم للقوانين التي تحكم اللاجئ إليها بالتحرك في إطارها.