ترجمة وتحرير نون بوست
يوم الجمعة، وبينما كانت الأعلام الفلسطينية ترفرف في الهواء، رفع الفلسطينيون لافتات كُتب عليها “لا تسكتوا عن حقوقكم” وسط هتافات مناهضة “لصفقة القرن” الأمريكية، داعين إلى تطبيق حق العودة للاجئين. لكن المظاهرات لم تندلع هذه المرة في الأراضي الفلسطينية المُحتلة، بل كانت في لبنان.
لقد كان يوم الجمعة يوم غضب في جميع مخيمات اللاجئين الفلسطينيين الاثني عشر المنتشرة في جميع أنحاء لبنان، حيث سار الآلاف من المتظاهرين في العاصمة بيروت للتنديد بالإجراءات الأخيرة التي اتخذها وزير العمل اللبناني كميل أبو سليمان الذي أعلن الحرب على “العمالة الأجنبية غير القانونية”.
في أوائل شهر حزيران/ يونيو، منح أبو سليمان، الذي تدعمه القوات اللبنانية، وهو حزب له تاريخ طويل من المواقف المعادية للفلسطينيين، لأصحاب المشاريع غير اللبنانيين الذين يعملون بشكل غير قانوني في البلاد مهلة شهر للحصول على تراخيص عمل. وعقب انتهاء هذه المهلة بشكل مباشر، أدت سلسلة من عمليات التفتيش في جميع أنحاء البلاد إلى إغلاق العشرات من الشركات. وفي الحقيقة، يشمل هذا القانون حتى اللاجئين الفلسطينيين المتواجدين في لبنان منذ سنة 1948، عندما فر الآلاف من منازلهم في فلسطين خلال قيام دولة إسرائيل فيما يعرف بـ “النكبة”.
وفقا لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، وصل عدد اللاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون في لبنان منذ سنة 2014 إلى 450 ألف شخص، علما بأنهم يشكلون حوالي 10 بالمائة من إجمالي سكان البلاد. ورغم تاريخها الطويل في لبنان، عانت الجالية الفلسطينية لعقود من التمييز الاجتماعي حتى على مستوى الدولة. ويخشى الكثيرون من أن الخطوات الأخيرة التي اتخذتها الحكومة اللبنانية ستزيد الطين بلة.
وفقا للقوانين اللبنانية، يمكن معاملة الفلسطينيين كلاجئين أو أجانب أو عديمي الجنسية. وهناك العديد من القوانين التي تمنع الفلسطينيين بشكل خاص من امتلاك عقارات أو الذهاب إلى المدارس العامة
تمييز طويل الأمد
لم يتغيب لاجئ فلسطيني من مخيم عين الحلوة -جنوب لبنان- يدعى محمد علي يوما عن المظاهرات المندلعة منذ 15 تموز/ يوليو. وحيال هذا الشأن، قال محمد علي لـ “موقع ميدل إيست آي”: “إن الوقت مناسب للإعراب عن مشاغلنا حول حقوقنا. لا نريد سوى الكرامة. ويعد منعنا من جميع حقوقنا المدنية، بما في ذلك الحق في العمل أمرا غير إنساني”. وقد أوضح هذا الشاب البالغ من العمر 27 سنة، “إن القانون اللبناني ليس واضحا فيما يتعلق باللاجئين الفلسطينيين في لبنان”.
استشهد محمد علي بمثال والده كمال، الذي يمتلك شركة صغيرة قانونية خارج مخيم عين الحلوة. وأفاد محمد علي بأن المفتشين اللبنانيين أعطوا والده مهلة شهر للحصول على تراخيص عمل للفلسطينيين الذين يعملون معه. ويجب على والده الدفع لتسجيلهم في نظام الضمان الاجتماعي حتى يتمكن من الحصول على هذه التراخيص، لكن المضحك في الأمر أنه لن يُسمح لهم بالاستفادة من هذه الخدمات”.
إيماءات اللاجئين الفلسطينيين خلال احتجاج على الإجراءات الصارمة المتخذة ضد العمالة الأجنبية في لبنان.
لقد فشلت القوانين واللوائح اللبنانية طوال 72 سنة الماضية في معالجة الحالة المدنية للفلسطينيين. ويعود السبب وراء عدم وضوح وضع الفلسطينيين في لبنان إلى التوترات الطائفية القديمة في البلاد ومعارضة الأحزاب السياسية المسيحية لخطوات دمج الغالبية الفلسطينية السنية المسلمة في المجتمع اللبناني، وذلك خوفا من أن يؤدي هذا الأمر إلى قلب موازين القوى الطائفية.
وفقا للقوانين اللبنانية، يمكن معاملة الفلسطينيين كلاجئين أو أجانب أو عديمي الجنسية. وهناك العديد من القوانين التي تمنع الفلسطينيين بشكل خاص من امتلاك عقارات أو الذهاب إلى المدارس العامة، وقد تضرر الفلسطينيون أيضا من القانون الذي يمنع الأمهات اللبنانيات من نقل الجنسية إلى أطفالهن.
منذ سنة 2005، أصبح القانون اللبناني يحضر على اللاجئين الفلسطينيين العمل في 70 مهنة، بما في ذلك الطب والهندسة والتعليم وحتى الصيد أو قيادة سيارة أجرة. وتمتلك سماح سالم، التي تقطن في مخيم برج البراجنة للاجئين جنوب بيروت، شهادة في الصيدلة. وعلى الرغم من حصولها على نتائج جيدة في امتحاناتها، إلا أنه لا يُسمح لها بالعمل أو امتلاك صيدلية خاصة بها خارج حدود مخيم اللاجئين. وفي هذا الصدد، قالت سالم لـ “موقع ميدل إيست آي”: “يمتلك جميع زملائي الآن صيدليات خاصة بهم أو يعملون في صيدليات كبيرة ومشهورة. ويبدو أنني قد أهدرت وقتي وأموالي في محاولة الحصول على هذه الشهادة”.
تعاني صابر حليمة أيضا، التي تقطن في مخيم برج البراجنة، من التمييز سواء من الدولة أو المواطنين على الرغم من أن هذه الصحفية نصف أصولها لبنانية. وحيال هذا الشأن، قالت حليمة: “إن نصف أصولي لبنانية لكن عندما يتعلق الأمر بالحقوق المدنية، فأنا فلسطينية في أعين الحكومة اللبنانية. في الحقيقة، يرى بعض اللبنانيين أننا نشكل خطرا عليهم. لكن هذا الأمر غير صحيح، فنحن لا نمثل خطرا على أي شخص من أي مستوى كان. لا يحق لهم حبسنا في مخيم للاجئين وحرماننا من جميع وسائل الحياة، ثم يعتبروننا أشخاصا سيئين. في الحقيقة، يعيش أكثر من 60 بالمائة منا في المخيمات تحت خط الفقر. في بعض الأحيان، يبدو وكأنهم يهيئون لنا الظروف والمواقف لجعلنا نبدو سيئين في نظر المجتمع”.
تدخلت الفصائل السياسية الفلسطينية لدعم هذه الحركة الاحتجاجية التي حظيت بشعبية كبيرة، حيث دأب نواب من عدة أحزاب سياسية على عقد اجتماعات بشكل منتظم منذ بداية الأزمة في السفارة التابعة للسلطة الفلسطينية في بيروت
بالنسبة لحليمة، إن القيود الحالية، التي تشمل البناء في مخيمات اللاجئين المهجورة، تعني أن الخطوة الأخيرة التي اتخذتها وزارة العمل تعتبر بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة للعديد من اللاجئين. وقد أوضحت حليمة: “كل شهر تسقط أسقف البنايات على رؤوس الأشخاص. ويواجهون الكثير قبل أن يتمكنون من الحصول على بعض مواد البناء لإصلاح الأسقف فوق رؤوسهم. وعندما يموت الفلسطينيون في المخيمات، نحتاج إلى تصريح للحصول على الإسمنت والخرسانة للأضرحة ويتساءلون عن سبب احتجاجنا”.
الأحزاب الفلسطينية تقف وراء هذه التحركات
لقد أدت حملة القمع الأخيرة التي قامت بها الحكومة اللبنانية ضد العمال الذين لا يمتلكون وثائق، وما ترتب عنها من نتائج على اللاجئين الفلسطينيين، إلى استجابة قوية من قبل الجالية الفلسطينية التي تعاني من مستويات عالية من الفقر. وإلى جانب الاحتجاجات اليومية التي تشهدها عدة مخيمات في جميع أنحاء البلاد، دعا الفلسطينيون في مخيم عين الحلوة إلى مقاطعة البضائع اللبنانية منذ 15 تموز/ يوليو.
في هذا الإطار، عزف أصحاب المتاجر عن شراء البضائع اللبنانية، تاركين أرفف متاجرهم فارغة تمامًا. وفي الآن ذاته، أطلق اللاجئون الفلسطينيون الذين يعيشون في مخيمات اللاجئين الأخرى، على غرار مخيّم الرشيدية الذي يقع بالقرب من مدينة صور، حملة لجمع التبرعات لإرسالها إلى المزارعين الفلسطينيين الذين يعيشون في مخيّم عين الحلوة.
في هذه الأثناء، تدخلت الفصائل السياسية الفلسطينية لدعم هذه الحركة الاحتجاجية التي حظيت بشعبية كبيرة، حيث دأب نواب من عدة أحزاب سياسية على عقد اجتماعات بشكل منتظم منذ بداية الأزمة في السفارة التابعة للسلطة الفلسطينية في بيروت.
تعد الحملة القمعية الأخيرة التي شُنّت ضد العمال الفلسطينيين جزءا لا يتجزّأ من سباق انتخابي في لبنان للفوز بالأصوات
جاء في بيان صدر عن أحد الاجتماعات المنعقدة: “سنواصل احتجاجاتنا السلمية في مخيمات اللاجئين حتى تعامل وزارة العمل اللبنانية اللاجئين الفلسطينيين بطريقة عادلة ومنصفة”. وفي تصريح لـ “موقع ميدل إيست آي”، قال أسامة حمدان، وهو أحد قادة حركة حماس في لبنان: “نحن الفلسطينيون لم نختر العيش في لبنان. ليس لدينا مكان آخر نلجأ إليه. سنواصل العيش في مخيمات اللاجئين هذه إلى أن نُمنح الحق في العودة إلى فلسطين [بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194]”. وأضاف حمدان قائلا: “كانت المظاهرات التي نظمها اللاجئون حضارية. ولن نتمكن من تحقيق أي مكاسب سياسية إذا لم تكن مصحوبة بحركة احتجاجية شعبية”.
فضلا عن ذلك، كشف حمدان أنه يتوقع الحصول على بعض “النتائج الإيجابية” في المستقبل القريب المتمخضة عن الاجتماعات التي من المقرّر أن تجمع بين المسؤولين الفلسطينيين ونظرائهم اللبنانيين، كما أنه متأكد من أن الفلسطينيين سيحترمون نتائج هذه الاجتماعات.
من جهته، أكّد سمير أبو عفش، أمين سرّ حركة فتح وفصائل منظمة التحرير في بيروت، على ضرورة إجراء حوار لبناني فلسطيني مستفيض، حيث قال: “يجب أن يدرك الفلسطينيون الذين يعيشون في لبنان واجباتهم وحقوقهم على حد سواء. لقد أصدرت الحكومة اللبنانية بطاقات هوية ووثائق سفر للفلسطينيين. وهذا ما يشير إلى أننا لم نعد غرباء في هذا البلد”.
بالنسبة لأبو عفش، تعد الحملة القمعية الأخيرة التي شُنّت ضد العمال الفلسطينيين جزءا لا يتجزّأ من سباق انتخابي في لبنان للفوز بالأصوات. وفي هذا السياق، قال أبو عفش: “أطلق التيّار الوطني الحر (للرئيس ميشال عون) حملة ضد اللاجئين السوريين في لبنان قبل بضعة أشهر، مما زاد من شعبية هذا الحزب. وأعتقد أن القوات اللبنانية تقوم بالشيء ذاته ضد الفلسطينيين لزيادة شعبيتها”.
كانت المظاهرات الجارية تتسم بالطابع السلمي، إذ لم يحمل اللاجئون الفلسطينيون السلاح ضد اللبنانيين منذ صراع النهر البارد الذي اندلع سنة 2007 بين الجيش اللبناني والمسلحين التابعين لجماعة فتح الإسلام
الانقسامات الداخلية في لبنان
يبدو أن رد القوات اللبنانية على المظاهرات الفلسطينية المستمرة يثبت وجهة نظر أبو عفش. فقد أشار سجعان قزي، الذي شغل حقيبة وزارة العمل سابقا كما أنه كان قائدا سابقا للقوات اللبنانية، إلى أن الإجراءات المتعلّقة بتسجيل العمال الذين لا يحملون وثائق قد طُرحت في البداية قبل ثلاث سنوات، حين كان وزيرا آنذاك، لكن كميل أبو سليمان لم يعمل على تنفيذها إلا في هذه الفترة.
أعرب قزي عن قلقه الشديد من تبعات الحركة الاحتجاجية الفلسطينية الراهنة المناهضة لهذا التشريع، حيث قال: “أخشى أن تقودنا إلى حرب أهلية جديدة بين اللبنانيين والفلسطينيين. لقد فاجأتني تصرفات الفلسطينيين! فهي ليست مبررة على الإطلاق. أعتقد أن هناك أطرافا تدعم هذه الحركة”. بالنسبة له، إن الصراع السياسي المستمر بين حركتيْ فتح وحماس في الأراضي الفلسطينية المحتلة قد أثّر على مشروعية مطالب الفلسطينيين في لبنان، حيث زعم أن “هذا الصراع ألقى بظلاله على المخيمات في لبنان”.
كما أشار قزي إلى عجز الحكومة اللبنانية الذي طال أمده عن توفير الخدمات الأساسية، على غرار الكهرباء والمياه الصالحة للشرب، بشكل مستمر لمواطنيها، مما يبرّر حرمان الفلسطينيين من حقوقهم. وتساءل: “كيف يُفترض أن تمنح الحكومة اللبنانية الفلسطينيين حقوقهم، عندما لا تكون قادرة على تلبية احتياجات شعبها؟”.
دافع الوزير السابق عن قرار تقييد عمل الفلسطينيين، مبرّرا ذلك بشعوره بالقلق من أن منح المزيد من الحقوق للاجئين الفلسطينيين في لبنان سيؤدي إلى استقرارهم بشكل دائم في البلاد، ويصبحوا مواطنين لبنانيين ويستولوا على السلطة في النهاية. وحيال هذا الشأن، قال قزي: “ما الذي سيوقف عملية إعادة توطين الفلسطينيين في لبنان؟ نحن نشعر بالقلق من إمكانية حدوث ذلك بالفعل. باعتباري مسيحيا مارونيا، أشعر بالقلق من أنه في حال أُعيد توطين الفلسطينيين، فسوف نصبح نحن المسيحيين أقلية. يوجد توازن سكاني في لبنان ينبغي علينا المحافظة عليه. لا يمكن لفلسطيني امتلاك سلاح كلاشينكوف والمطالبة بتولى منصب محاسب في الوقت ذاته”.
على عكس ادعاءات قزي، كانت المظاهرات الجارية تتسم بالطابع السلمي، إذ لم يحمل اللاجئون الفلسطينيون السلاح ضد اللبنانيين منذ صراع النهر البارد الذي اندلع سنة 2007 بين الجيش اللبناني والمسلحين التابعين لجماعة فتح الإسلام. والجدير بالذكر أنه ليست جميع الشخصيات السياسية اللبنانية على توافق مع وجهات نظر الأحزاب المسيحية اليمينية.
أحد المشاركين في الاحتجاجات يحمل لافتة كتب عليها “نعم لإلغاء التدابير التعسفية ضد العمال الفلسطينيين” في 19 تموز/ يونيو.
في المقابل، استنكر نبيه بري، رئيس مجلس النواب اللبناني ورئيس “حركة أمل” الشيعية، التدابير التي دعا إلى تنفيذها أبو سليمان، وطالب الوزير بإلغائها. في 17 تموز/ يوليو، أعلن المدير العام للأمن العام في لبنان، عباس إبراهيم، أن الفلسطينيين لن يُعاملوا بعد الآن كأجانب في المطارات ويمكنهم الآن، بعد مرور سبعة عقود عن تواجدهم في البلاد، الوقوف في صفوف مخصصة للمواطنين اللبنانيين. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الجهود تهدف لتخفيف بعض الضغوط على الفلسطينيين وإظهار حسن نية الحكومة اللبنانية.
في الوقت ذاته، تعهد اللاجئون الفلسطينيون بمواصلة احتجاجاتهم ومقاطعة السلع اللبنانية، حتى في ظل اقتراب عيد الأضحى، هذه المناسبة الدينية التي تطغى عليها الاحتفالات واقتناء ملابس جديدة وحلويات. وفي هذا الصدد، أكدت سهى أحمد، وهي أم لطفلين، أنه آن الأوان لتأمين مستقبل أفضل لأطفالها، حيث قالت: “لن أشتري لأطفالي ملابس العيد، على الرغم من أنني أدرك جيدا أن هذا الأمر سيحزنهم. لكن، عندما يكبرون، سيعون جيدا الأسباب التي دفعتني للقيام بذلك”. ومع ذلك، عبّرت عن أملها في أنه “مع حلول العيد، سنحتفل بهذه المناسبة جميعًا، فلسطينيين ولبنانيين، مثل عائلة متحدة كبيرة”.
المصدر: ميدل أيست آي