لا يكاد الحديث عن المنطقة الآمنة في سوريا التي تعتزم تركيا إقامتها في الأراضي السورية المتاخمة لها، يخبو، إلا وتعيده أنقرة إلى دائرة الضوء. واليوم مع احتداد الموقف محليًا وضيق صدور بعض الأتراك باللاجئين السوريين لأسباب مختلفة -محقة كانت أم مختلقة -، والذي عبروا عنه في الانتخابات البلدية وأسفر عن فوز مرشح المعارضة ببلدية إسطنبول الكبرى، تعود جهود تركيا الحثيثة لإقامة المنطقة الآمنة، تماشيًا ما إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، توسعة المنطقة الآمنة التي بدأتها تركيا في مناطق سيطرة قوات درع الفرات، “حتى يتمكن مليون لاجئ سوري من العودة إلى سوريا”.
وفي أحدث مستجدات القضية، اعتبر وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أمس الأربعاء، أن الاقتراحات الأمريكية الجديدة المتعلقة بالمنطقة الآمنة في شمال سوريا “قاصرة”، وأن صبر تركيا ينفد بسبب ما يبدو من مماطلة أمريكية لجهود التوصل إلى اتفاق بهذا الشأن.
ويأتي هذا، بعد مباحثات أجراها هذا الأسبوع المبعوث الأمريكي الخاص لسوريا جيمس جيفري في أنقرة هذا الأسبوع حول المنطقة الآمنة وأمور أخرى منها ما أحرز من تقدم بشأن خارطة طريق جرى الاتفاق عليها العام الماضي لإخلاء مدينة منبج الواقعة في شمال سوريا من وحدات حماية الشعب الكردية.
تحركات وحشود
مع اشتداد وتيرة التهديدات التركية وإعادة فتح ملف شرق الفرات مجددًا، أرسلت وزارة الدفاع التركية الأحد 21 من يوليو/تموز تعزيزات عسكرية إلى قضاء أقجة قلعة في ولاية شانلي أورفا جنوبي شرق تركيا التي تقابل بلدة تل أبيض السورية، وسط تحليق مكثف لطائرات الاستطلاع التركية.
وتضمنت التعزيزات ناقلات جند ووحدات من القوات الخاصة التركية وشاحنات محملة بالذخائر ودبابات ومدافع الهاوتزر، كما ذكرت شبكة “فرات بوست” في صفحتها على فيسبوك أن الجيش التركي أزال الجدار الإسمنتي الفاصل مع الأراضي السورية مقابل تل أبيض، كما أبلغت القوات التركية الفصائل السورية في الجيش الوطني السوري برفع جاهزيتها للمشاركة في المعركة التي باتت قريبةً جدًا.
بدورها أرسلت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) تعزيزات عسكرية إلى مدينة تل أبيض شمال الرقة ومدينتي المالكية والدرباسية شمال الحسكة، كما عززت المليشيات مواقعها في مدينة رأس العين بريف الحسكة، ورفعت جاهزيتها العسكرية للتصدي لأي تحرك تركي نحو المنطقة.
تصر تركيا على إبعاد مليشيا الوحدات التي تسيطر على مناطق شرق الفرات عن حدودها، لضمان أمنها القومي، وذلك من خلال تواصلها المستمر مع الولايات المتحدة الأمريكية
وأعلنت ولاية شانلي أورفا في بيان أصدرته الإثنين 22 من يوليو/حزيران، سقوط قذيفتين من الجانب السوري داخل قضاء جيلان بينار، مما أسفر عن إصابة ستة مدنيين بينهم طفل بحسب وكالة الأناضول التركية، من جهتها ردت القوات التركية على مصادر القصف الذي استهدف أراضيها مساء الإثنين، وأعلنت تدمير سبعة أهداف باستخدام الأسلحة الثقيلة من ولاية شانلي أورفا جنوب البلاد.
على أن قوات سوريا الديمقراطية سارعت لنفي أن تكون مصدر القذائف، وقال المتحدث باسم قوات سوريا الديمقراطية في بيان حصل عليه “نون بوست”: “هذا العمل الاستفزازي قام به أشخاص مجهولون يرغبون في خلق الفتنة وإلحاق الضرر بالاستقرار في المنطقة”، وأضاف “تقوم حاليًّا قوات سوريا الديمقراطية والأجهزة الأمنية، بالتحقيقات اللازمة لكشف مصدر القذيفة والأشخاص المرتبطين بهذا الحادث”.
وعلى إثر التحقيقات اعتقلت القوات الأمنية التابعة لقوات سوريا الديمقراطية، شخص المدني يدعى عزاوي الشيشاني بتهمة القصف من منزله في مدينة رأس العين بريف الحسكة، وزعمت مصادر مقربة من قسد أن الوحدات الأمنية التابعة لها مستمرة في البحث عن المتهمين بعملية القصف، بينما أكدت مصادر معارضة أن مليشيا قسد تحاول تبرئة نفسها من القصف، مشيرةً إلى استهداف تركيا بشكل غير مباشر عبر عناصر لها.
إصرار تركي
تصر تركيا على إبعاد مليشيا الوحدات التي تسيطر على مناطق شرق الفرات عن حدودها، لضمان أمنها القومي، وتتواصل لأجل ذلك باستمرار مع الولايات المتحدة الأمريكية، الداعم الأول لمليشيا الوحدات الممثلة بـ(قسد)، ورغم خلاصهما إلى اتفاق منبج في الربع الأخير من العام الماضي، إلا أن واشنطن تماطل في تنفيذ الاتفاق كما أوضحنا في تقرير سابق لـ”نون بوست”، مما دفع أنقرة لتوسيع عمليتها لتشمل مناطق شرق الفرات، الواقعة على حدودها.
لم يصل طرفا الاتفاق إلى حل نهائي يرضي تركيا، لتعدد المصالح واختلافها، وبدت الولايات المتحدة متمسكة بحلفائها وما هي إلا محاولة لتهدئة تركيا التي تصر على استئصال الوحدات الكردية شرق الفرات
وطالبت أنقرة بإنشاء منطقة آمنة شرق الفرات تضمن لها الحدود كما تضمن عودة آلاف السوريين المقيمين داخل الأراضي التركية بحسب تصريحات حكومية تركية، وخلال تلك الفترة حاولت تركيا إعادة تماسك العشائر المقيمين في تركيا وتشكيل مجالس محلية إلى جانب وضع خطط عدة في إطار إدارة المنطقة الآمنة، بحسب تقرير آخر لـ”نون بوست”، لكن واشنطن حاولت تمييع القضية وتحويلها إلى مصالح مقابل الجانب التركي الذي يبحث أمن بلاده بالدرجة الأولى.
وعادت تركيا مجددًا إلى إرسال تهديدات مباشرة لقوات سوريا الديمقراطية لإعادة فتح الملف مع أمريكا الذي طوي لأسابيع عدة، ومحاولات الأخيرة عدم التخلي عن حلفائها في سوريا، ما دفع تركيا إلى عقد اجتماع مع مسؤولين أمريكيين، لوضع خريطة طريق تحقق مطالب تركيا.
وعقد الاجتماع خلال 22 و24 من يوليو/حزيران في المجمع الرئاسي التركي بالعاصمة أنقرة، وقال متحدث الرئاسة التركية إبراهيم قالن للمبعوث الأمريكي إلى سوريا جيمس جيفري: إن “إنشاء المنطقة الآمنة شرق الفرات، لن يتم إلا من خلال خطة تلبي تطلعات أنقرة”، وتناول اللقاء مسألة تأسيس المنطقة الآمنة شرق الفرات، بينما أكد قالن حماية الأمن القومي لبلاده وتحقيق تطلعاته في ذلك.
ولم يصل طرفا الاتفاق إلى حل نهائي يرضي تركيا، لتعدد المصالح واختلافها، وبدت الولايات المتحدة متمسكة بحلفائها، مع محاولتها المستمرة لتهدئة تركيا التي تصر على استئصال الوحدات الكردية شرق الفرات، ويعتبر هذا المؤتمر الخامس من أجل القضية بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، دون الوصول إلى نتيجةٍ ملموسة.
أصدرت السفارة الأمريكية في تركيا اليوم بيانًا قالت فيه: “واشنطن وأنقرة ملتزمتان بتحقيق تقدم سريع وملموس بشأن خريطة الطريق المتفق عليها بخصوص مدينة منبج الواقعة في شمال سوريا”
استبعاد أمريكي
تستبعد واشنطن الإدارة التركية للمنطقة الآمنة شرق الفرات التي تسعى تركيا للفوز بها بغية تأمينها وإعادة السوريين في تركيا إليها، فيما تستمر واشنطن بعقد لقاءات مع قادة من مجلس قوات سوريا الديمقراطية لتؤكد لهم استمرار دعمها لهم، مما أغضب تركيا.
ولم يكن السعي الأمريكي لاستقطاب مسؤولين غرب وعرب مثل وزير الدولة السعودي ثامر السبهان خلال الشهر الماضي، إلا إشارة للحفاظ على وجود قوات سوريا الديمقراطية وتعزيز موقفها من الدعم الذي وعد به السبهان، بحسب ما أفادت مصادر خاصة لـ”نون بوست” في تقرير سابق، وكذلك تشكيل قوة عربية تابعة لقسد تدير الحدود مع تركيا، واستبعادها من الدخول شرق الفرات.
تبدو المباحثات خلال اليومين الماضيين بين وفود تركية وأمريكية غير مثمرة، إلا بخصوص مدينة منبج السورية الواقعة غرب الفرات وتحيط بمنطقة درع الفرات التي سيطرت عليها القوات التركية وفصائل المعارضة بعد طرد داعش، وهنا توجد احتمالية تسليم هذه المدينة مقابل إيقاف تركيا تهديد الوحدات الكردية، ولكن لا يوجد شيء مؤكدة.
وأصدرت السفارة الأمريكية في تركيا الأربعاء، بيانًا قالت فيه: إن “واشنطن وأنقرة ملتزمتان بتحقيق تقدم سريع وملموس بشأن خريطة الطريق المتفق عليها بخصوص مدينة منبج الواقعة شمال سوريا”، وذكر بيان السفارة: “أن جيفري عقد اجتماعات إيجابية وبناءة مع مسؤولين أتراك، والجانبان ناقشا مقترحات تفصيلية لتعزيز أمن تركيا على طول حدودها الجنوبية”، دون الإشارة إلى إنشاء منطقة آمنة.
هل تقتصر السيطرة على منبج مقابل التخلي عن باقي الأهداف مثل شرق الفرات أم أن واشنطن باتت متمسكة بكل المناطق التي تسيطر عليها قسد
ويبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية عرضت خططًا جديدة على تركيا تعرقل تدخلها شرق الفرات، وهذا لا يرضي الأخيرة، كما عبّر عن ذلك وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أمس الأربعاء في تصريحاته التي سقناها في مقدمة هذا التقرير، مضيفًا أن “البلدان لم يتفقا بشأن إخراج المقاتلين الأكراد من المنطقة ولا على مدى عمقها أو من ستكون له السيطرة عليها”.
من جانبها باتت قوات سوريا الديمقراطية مرتاحةً في الآونة الأخيرة من حليفها الأمريكي الذي لا ينوي التخلي عنها، هذا ما تؤكده زيارة كينيث ماكينزي قائد القيادة المركزية بالجيش الأمريكي إلى كوباني واجتماعه مع قائد قوات سوريا الديموقراطية مظلوم عبدي، فواشنطن تستخدم مصالحها في شرق الفرات ضمن عدة ملفات ولا تنوي التخلي عن حلفائها، مما يشير إلى وصول كلا البلدين إلى طريق مسدود وغير مثمر في إنشاء المنطقة الآمنة، فهل تقتصر السيطرة على منبج مقابل التخلي عن باقي الأهداف مثل شرق الفرات أم أن واشنطن باتت متمسكة بكل المناطق التي تسيطر عليها قسد؟