تعد السينما الفلسطينية في حقل دراسات السينما معلمًا بارزًا ومثار اهتمام، ويتفاخر البعض بكونهم متابعين جادين لأحدث إنتاجاتها، قاصدين بذلك الإشارة إلى “عمق” تجربتهم السينمائية، وبُعدها عن السطحية والتنميط أو الاهتمام بالنماذج الرائجة فقط، ولهذا التوجه ما يبرره، فعدا عن كون السينما في فلسطين بدأت باكرًا جدًا، نظرًا لأهمية فلسطين الدينية والجغرافية، بالتالي أهميتها الثقافية والسياسية، (الباحثة السينمائية والمخرجة المصرية فيولا شفيق، وثقت زيارة الأخوين لوميير لفلسطين مطلع القرن الواحد والعشرين، تلاهما توماس أديسون، بهدف تصوير “المشرق”، في رحلة شملت مصر والجزائر والأرض المقدسة: أي فلسطين)، ففلسطين تغلي منذ مطلع القرن العشرين على وقع صراع سياسي مرير، فقد بقيت على أراضيها حتى اليوم أحدث وآخر النماذج الاستعمارية التقليدية.
وكونها منطقة تغلي بالأحداث والمستجدات وتواصل احتلال العناوين الأبرز في شاشات الأخبار، فإن ذلك سيفضي بالطبع إلى أن تتحول فلسطين وأهلها والصراع فيها إلى ثيمة سينمائية يرغب المؤيدون لفلسطين والمؤيدون لـ”إسرائيل” على حد سواء بمتابعتها عن كثب والاطلاع عليها.
مدخل للسياسة في السينما الفلسطينية
وما دام اسمها مرتبطًا بفلسطين، فإن هذه السينما لا شك ستكون محملة بمعانٍ سياسية، مهما حاول مخرجوها تجنب ذلك، وإذا تتبعنا أثر السياسة في السينما الفلسطينية، يتبين لنا كيف أن السنوات التي تلت النكبة مباشرة، كانت أكثر السنوات التي حملت فيها الأفلام معانٍ سياسية وصلت درجة البروباغاندا والتجييش المباشر، خاصة سينما مرحلة بيروت (1960 – 1982)، التي كانت تنضوي في حينها تحت إطار ما يعرف في أدبيات السينما بـ”السينما الثالثة” أو “سينما العالم الثالث”.
وفي بلد تسبب الاستعمار وتبعاته من هجرة وشتات وسنوات طويلة من القتال والحرب بكل هذا الاختلاف السياسي الذي يصل حد العداء والتخوين، عدا عن الانقسام الجغرافي الواضح في السلطة والأيديولوجيا، فإن السياسة لغم خطير قابل للانفجار في وجه كل من يحاول مقاربته، خاصة ثقافيًا، وهذا مأزق من أبرز المآزق التي تواجهها الأفلام السياسية، ومنها بالطبع السينما الفلسطينية.
لكن لم تكن السينما في فلسطين لتتمكن من التنصل من الدخول في هذا المأزق، وعوضًا عن محاولة تجنب البُعد السياسي في الفيلم الفلسطيني، وهو شيء مستحيل في الواقع، يحتاج المخرجون الفلسطينيون للتفكير بالطريقة التي يمكنهم فيها استغلال هذه السينما، بكل ما فيها من أبعاد سياسية واقتصادية وسوسيولوجية وفكرية وجمالية في إنتاج محتوى ناظم للكل الفلسطيني، يجمع ولا يشتت، يقوّي ولا يضعف، وهذا ممكن، فالبشر لديهم قدرة على التأثر بالسينما أكثر، حينما يرون على الشاشة قصصهم وحكاياهم وسردًا سينمائيًا يشبههم.
السينما الفلسطينية ومشكلة النظريات
كتبت العديد من المقالات والأبحاث عن السينما الفلسطينية، لكن المشكلة في كثير من هذه الكتابات، أن النقاد لم يقدموا فيها دراسة كافية وحقيقية للمسألة الفلسطينية، بل أدار كثير منهم ظهرهم لهذه المسألة، واستبعدوها عن حقل دراساتهم، معتبرين أن الاستعمار الإسرائيلي هناك ليس استعمارًا، فالوضع المعقد لفلسطين، وكونها مقسمة جغرافيًا إلى أكثر من بقعة، يعاني جزء منها استعمارًا متواصلًا يشبه تمامًا نموذج الاستعمار الأوروبي في إفريقيا، ويعاني جزء آخر احتلالًا عسكريًا وحواجز واستيطان، ويعاني جزء ثالث من غياب الوجود الفعلي العسكري الإسرائيلي على الأرض لكن حضوره في الحصار والسياسات الاقتصادية، ما أدى بدوره لاختلاف الواقع المعاش للفلسطينيين، بين مُستعمرين ومُحتلين ومحاصرين ولاجئين ونازحين ومعتقلين ومشتتين في المهجر، أدى لاستحالة الاستناد إلى نظرية ثابتة صماء، فقد يصلح تطبيق هذه النظرية على جزء من الشعب لكن لن تنطبق على البقية.
بديلًا عن التوجه التقليدي بدراسة القوميات، بدأ يظهر في الساحة الفكرية، تيارات تدعو إلى تبني نوع جديد من القومية، يدور في فلك التجارب الشعبية وصوت من هم في الأسفل، في انعزال واضح عن الخطاب القومي الرسمي والتنظير له
من أبرز المنطلقات النظرية التي انطلق بها النقاد حين تناولوا السينما الفلسطينية، هو تصنيف هذه السينما كسينما قومية، لكن يمكن المحاججة أن هذا التوظيف غير صحيح وغير مناسب في الحالة الفلسطينية، لعدة أسباب، أولها أن تاريخ الوطنية الرسمية في فلسطين (وهو ما يقصده معظم من ينظر للسينما الفلسطينية كسينما قومية) مرتبط ارتباطًا جذريًا بالاستعمار الإسرائيلي، وتكون كردة فعل على صدمة النكبة التي ولدت لدى الناس شعورًا مفاجئًا بالخسارة والضياع، وثانيها أن النظريات القومية التي تستند إلى الوطنية الرسمية، أي قومية الدولة، لن تتسع لتغطية شعب مختلف ومتباعد عن بعضه سياسيًا وثقافيًا وجغرافيًا مثل الشعب الفلسطيني، عدا عن أن هناك توجهًا نظريًا حديثًا يرى أن مفهوم القومية الرسمي آخذ بالانهيار تحت ضربات السياسات النيوليبرالية الجديدة والعولمة.
وفي هذا السياق العالمي الجديد، وبديلًا عن التوجه التقليدي بدراسة القوميات، بدأ يظهر في الساحة الفكرية، تيارات تدعو إلى تبني نوع جديد من القومية، يدور في فلك التجارب الشعبية وصوت من هم في الأسفل، في انعزال واضح عن الخطاب القومي الرسمي والتنظير له.
هل تمنح السينما الميكروفون لمن أُسكتت أصواتهم؟
نظرًا لكثرة وتنوع النقد الذي كتبه المفكرون في إطار دراسات ما بعد الاستعمار، والإضافة الثرية والمميزة لدراسات التابع (حقل فكري ظهر في الثمانينيات سعى منظروه ومعظمهم من أبناء التيار الما بعد كولونيالي لانتقاد التأريخ والاستشراق والقومية والمركزية الأوروبية)، من الممكن الاستناد نظريًا إلى موروثهم الفكري، فقد أبدى منظرو ما بعد الاستعمار ليونةً واتساعًا في طيف أفكارهم، ما جعل من الممكن تطبيقها على الحالة الفلسطينية دون الوقوف مرارًا أمام أسئلة مثل: “حسنًا.. أي فلسطيني تقصد هنا؟” أو “أي جزء تقصده من فلسطين؟”.
فمثلًا، لم يكن من الممكن مناقشة السينما الفلسطينية كسينما قومية، علمًا أنه التصنيف الشائع لها، فسؤال القومية شائك ومعقد، ومن غير الممكن الجزم بأن التوصيف النظري الحديث لـ”القومية” ينطبق على الفلسطينيين في كل أماكن وجودهم، ما يجعل من الصعوبة بمكان دراسة الإنتاج الثقافي أو السينمائي في هذه الحالة، للفلسطينيين بوصفه منتوجًا قوميًا.
دراسات التابع أتت في وقت كان يسيطر فيه على الساحة الفكرية فرضيتان أساسيتان: الأولى تقول إن حركات التحرر الوطنية كانت مصلحية بالدرجة الأولى، دون هدف تحريري حقيقي إنما أداة للوصول إلى أهداف سلطوية، بينما الفرضية الثانية تقول إن هذه الحركات كانت تنطلق حصرًا من أهداف تحريرية أخلاقية وإنسانية سامية، وبما أن هاتين الفرضيتين تمثلان النقيض، ونظرًا لأن دراسات ما بعد الاستعمار تميل لتجنب الثنائيات الحادة، فإن دراسات التابع أتت لتقديم نظرة ثالثة متحررة من كلا الفرضيتين.
بالقول إن السلطة تقدم خطابًا قوميًا ورسميًا لا يتماشى مع الممكن أو المتاح في الواقع الفلسطيني، فإن من واجب السينما أن تبحث عن الحقيقة والجوهر لدى الفئات التي همشها خطاب هذه السلطة
في الهند مثلًا، أظهرت مدرسة التابع معارضة واضحة للتأريخ الوطني الذي قدم القادة الرسميين السياسيين على أنهم قادة الثورة الإقطاعية الحقيقيون، واستنكرت التركيز على توجههم الاستغرابي (التوجه نحو الغرب) بالإصرار على نقل الهند فجأة من دولة تعيش ظروفًا استعمارية وما قبل رأسمالية، لمرحلة تريد أن تجبر فيها البلاد أن تعيش جوًا من “الحداثة”، حيث تُعلى قيم “الحريات” و”المواطنة” و”تطبيق القانون”، بينما الحقيقة على أرض الواقع مختلفة تمامًا، فيما يشبه الأداء الذي تقوم به السلطة الفلسطينية في الأراضي المحتلة، حيث تحاول إجبار الناس على العيش ضمن “دولة المؤسسات والقانون” في حين في الحقيقة تغيب الدولة والمؤسسات وحتى القانون عن المشهد، ما يجعل من نقد منظري مدرسة التابع مادة نظرية يمكن البناء عليها في السياق الفلسطيني.
وبالقول إن السلطة تقدم خطابًا قوميًا ورسميًا لا يتماشى مع الممكن أو المتاح في الواقع الفلسطيني، فإن من واجب السينما أن تبحث عن الحقيقة والجوهر لدى الفئات التي همشها خطاب هذه السلطة، من خلال الاستماع إلى “من هم تحت”، وهو ما أخذت مدرسة التابع على عاتقها مهمة الكتابة والتنظير عنه، فرواد مدرسة التابع، أظهروا في مقالاتهم الأولى تحديدًا، اهتمامًا بكتابة “التاريخ من الأسفل”.
فوجود أصوات مُغيبة في الأسفل، في الرواية الرسمية الفلسطينية، كذلك في السرد السينمائي “القومي”، لا يعني الاستناد إلى نظرية القومية من باب الاستسهال، بل يعني البحث عن الصامتين، ومحاولة تفسير أسباب صمتهم وسياقاتها، وفهم هذه الأسباب، حتى لو لم يؤد بشكل مباشر لتغييرها، فإنه سيؤدي على الأقل لتقديم صورة وتاريخ أكثر مصداقية، ويستطيع الناس أن يروا أنفسهم فيه.