يبدو أن الأوضاع في السودان تأبى إلا أن تحمل العديد من المفاجآت بين الحين والآخر، تلك المفاجآت التي لا تنشط إلا مع حدوث أي تقدم يخدم المسار الثوري ويجعل كلمة الشارع هي العليا، الأمر الذي ينعكس بلا شك على إتمام أي خطوات يتم الاتفاق عليها بشأن المرحلة المقبلة.
الجيش السوداني أعلن في بيان له أمس أن عددًا من ضباط القوات المسلحة وجهاز الأمن والمخابرات الوطني برتب رفيعة شاركوا في محاولة انقلابية، جنبًا إلى جنب مع من سماهم “قيادات من الحركة الإسلامية وحزب المؤتمر الوطني البائد”، مضيفًا أنهم يخضعون للتحقيق حاليًّا تمهيدًا لمحاكمتهم، وفق ما ذكرت وكالة الأنباء السودانية “سونا”.
البيان أورد كذلك أن “هدف المحاولة الانقلابية الفاشلة هو إجهاض ثورة الشعب المجيدة وعودة نظام المؤتمر الوطني البائد للحكم وقطع الطريق أمام الحل السياسي المرتقب الذي يرمي إلى تأسيس الدولة المدنية التي يحلم بها الشعب السوداني”، علمًا بأن هذه المحاولة هي الخامسة منذ الإطاحة بالنظام السابق.
يأتي هذا الإعلان بعد ساعات قليلة من تسريبات لمصادر عسكرية، أمس الأربعاء، بشأن أنباء عن اعتقال عدد من القيادات العسكرية أبرزهم رئيس هيئة أركان الجيش السوداني الفريق هاشم عبد المطلب، وقيادات مدنية موالية لنظام الرئيس المعزول عمر البشير، على خلفية اتهامهم بالتخطيط لمحاولة انقلابية.
تساؤلات عدة فرضت نفسها مع إعلان الجيش السوداني عن هذا المخطط الذي يتزامن مع قرب التوقيع على الوثيقة الدستورية بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير لإدارة المرحلة المقبلة، هذا في الوقت الذي تواصل فيه قوى المعارضة مشاوراتها للتوصل إلى صيغة توافقية بشأن بنود الإعلان الذي كان مقررًا له أن يوقع الجمعة الماضية لكن تم تأجيله حتى انتهاء تلك المشاورات.
تصفية حسابات
ذكرت مصادر أن حملة الاعتقالات شملت بجانب رئيس هيئة الأركان، قائد سلاح المدرعات اللواء نصر الدين نصر الدين عبد الفتاح، وقائد المنطقة المركزية اللواء بحر أحمد بحر، وضباط آخرين، هذا بخلاف بعض المنتمين للحركة الإسلامية على رأسهم الأمين العام للحركة ووزير المالية الأسبق الزبير أحمد الحسن، الذي يصنف على أنه أحد المشرفين على تنظيم حزب المؤتمر الوطني الحاكم سابقًا داخل الجيش السوداني، علاوة على منسق قوات الدفاع الأسبق علي كرتي الذي شغل أيضًا منصب وزير الخارجية في عهد البشير.
حالة من التباين تسود الشارع السوداني بشأن هوية الجهة التي تقف وراء هذه المحاولة، خاصة أنها ليست الأولى من نوعها، إذ تشير بعض المصادر أن موجة الاعتقالات التي شنها الجيش السوداني بذريعة الانقلاب ربما تكون أقرب لمحاولة تصفية حسابات من بعض العناصر داخل المؤسسة العسكرية.
أنصار هذا الرأي يميلون إلى أن الجيش ما زال به الكثير من رموز البشير ممن يشكلون خطرًا على المجلس العسكري الانتقالي والعكس، ومن ثم كان لا بد من استئصالهم على الأقل هذه الفترة لحين استقرار الأوضاع، موضحين أن ثمة تشابه كبير بين ما يحدث الآن داخل الجيش السوداني وما حدث في مصر داخل المؤسسة العسكرية بعد تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي مقاليد الأمور في 2014.
تأجيل إعلان الوثيقة الدستورية يؤجج الأوضاع داخليًا
تأجيج الفترة الانتقالية
آخرون ذهبوا إلى أن مثل هذه المحاولات الهدف منها تأجيج الفترة الانتقالية، وأن من يقومون بها يهدفون إلى إجهاض الثورة الشعبية التي حققت أهدافها بالوسائل السلمية، بينما يريدون تحقيق أهدافهم عبر القمع والعنف والانقلاب، وهو ما أشار إليه وزير الدولة للدفاع الأسبق اللواء المتقاعد فضل الله برمة ناصر.
ناصر في تصريحات له كشف أن المستفيد من وراء تلك التحركات هو النظام السابق ودولته العميقة، التي لا تزال تسيطر على مفاصل السلطة، سواء في الجيش أم الأمن أم الشرطة أم الخدمة المدنية، مع امتلاكها المال الكافي لتدبير المؤامرات ضد الثورة، على حد قوله.
الوزير السابق حمّل المسؤولية عن تأجيج هذه الأوضاع لكل من المجلس العسكري الذي اعتبره “لم يقم بكل الإجراءات اللازمة لتأمين الثورة، عبر اعتقال جميع رموز النظام السابق والحد من مقدراتهم الاقتصادية والإعلامية التي شجعت عناصر النظام السابق على المغامرة بتلك المحاولات من أجل حماية مصالحهم الشخصية والحزبية”، بجانب “قوى إعلان الحرية والتغيير” وذلك “لتأخرها في تكوين مؤسسات الحكم الانتقالي، مثل المجلس السيادي ومجلس الوزراء والهيئة القضائية، وذلك حتى تقوم بدورها في تقديم رموز النظام السابق للمحاكمة”.
أما الناشط محمد الفاتح، فاستبعد نجاح مثل هذه الانقلابات الفاشلة، مرجعًا ذلك لوجود عوامل عدة تحول دون تحقيق أهدافها على رأسها عدم وجود رأي عام داعم لمثل هذه التحركات التي بلا شك ستعيد ذيول البشير مرة أخرى، هذا بجانب عدم توافر الدعم الخارجي بالشكل المباشر لها مقارنة بالدعم الذي يتلقاه المجلس الانتقالي الحاليّ.
الفاتح في تصريحاته لـ”نون بوست” توقع تكرار تلك المحاولات خلال المرحلة المقبلة ما لم يسرع الطرفان في إتمام الاتفاق، لافتًا إلى أن هناك قوى سياسية وعسكرية، داخلية وخارجية، ليس في مصلحتها إتمام أي اتفاق، ومن ثم ليس أمامهم إلا بث الفوضى وعدم الاستقرار لإجهاض أي خطوات نحو الأمام.
من جانبه حذر رئيس حزب الأمة القومي الصادق المهدي، من الثورة المُضادة ووصف المحاولة الانقلابية الأخيرة بالمُتوقعة، ودعا أطراف التفاوض من “الحرية والتغيير” و”الثورية” في أديس أبابا بالاستعجال والتوصل إلى اتفاق حاسم.
ودعا المهدي خلال مخاطبته أنصاره في ندوة سياسية بدار “الأمة” أمس، أطراف التفاوض في أديس بحسم الملفات فى غضون أسبوع وقال: “الطول فيها الهول”، ونوه المهدي إلى تحركات الثورة المُضادة، وأشار إلى كتائب النظام البائد وشدد على أنها تمتلك المال والسلاح، وقال: “لقد حذرنا من قبل وتوقعنا ما حدث من محاولة انقلابية”.
جدير بالذكر أن المجلس العسكري سبق أن أعلن عن إحباط ثلاث محاولات انقلابية، آخرها في 11 من يوليو/تموز الحاليّ، حيث اعتقل فيها 12 ضابطًا، كما أن للسودان سجلاً طويلاً من محاولات الانقلابات العسكرية، تتجاوز العشرات منذ الاستقلال في 1956، نجحت 3 منها فقط في استلام السلطة، الأولى عام 1958 والثانية 1969 فيما جاءت الثالثة والأخيرة على يد الرئيس السابق عمر البشير في 1989 قبل أن يطاح به في 11 من أبريل الماضي.
استمرار مشاورات الحرية والتغيير والجبهة الثورية في أديس أبابا
ماذا عن الإسلاميين؟
في أول رد فعل لها استنكرت الحركة الإسلامية السودانية التي تمثل المرجعية الأساسية لحزب البشير “المؤتمر الوطني” الاتهامات الموجهة لها، حيث ذكرت في بيان لها مساء أمس، أنها “ظلت تراقب الأحداث الجارية منذ الإطاحة بالرئيس البشير وهي تضع دائمًا أمن واستقرار الوطن في المقدمة باعتبار استقرار الوطن مقدمًا على كل شيء، وتركت المجال للمجلس العسكري للعبور بالبلاد إلى بر الأمان”، مشيرة إلى أنه “رغمًا عن ذلك تابعت تحمل مسؤولية القصور والأخطاء”.
الحركة أوضحت في بيانها أن “البيان الصادر من المجلس العسكري باتهام لبعض من قادة الحركة الإسلامية بالمشاركة في محاولة انقلابية أمر لا يتفق ورؤية الحركة لأهمية الاستقرار والوفاق في هذه المرحلة”، مؤكدة أنها “تنفي أي مشاركة أو نية لها لعمل من هذه الشاكلة”، ودعت الجهات التي أصدرت هذا الاتهام بإظهار كل المعلومات والبراهين والأدلة للرأي العام.
أميرة ناصر الصحفية المصرية المتخصصة في الشأن السوداني، استبعدت تورط الإسلاميين في هذه المحاولة، لافتة أنهم أكثر المتضررين من فكرة الانقلابات، في إشارة منها إلى مشاركتهم في الانقلاب العسكري عام 1989 الذي اختطف تنظيمهم وفكرتهم على حد قولها.
الصحفية المصرية في تصريحاتها لـ”نون بوست” كشفت أن الحركة الإسلامية لا شك أنها تسعى لإيجاد موضع قدم لها في كعكة الثورة ومكتسباتها فيما بعد، إلا أنها لم ترجح فكرة مشاركتها في أي محاولات انقلابية، مرجعة اتهام الجيش لها بأنه تعزيز لسياسة “الهجوم أفضل وسيلة للدفاع” حيث تعاني المؤسسة العسكرية من انقسامات ومشاكل داخلية تحاول الهروب منها عبر تصفية الحسابات مع الإسلاميين.
مواصلة الحوار
وفي السياق ذاته تواصل قوى الحرية والتغيير وضمنها الجبهة الثورية فجر اليوم الخميس في أديس أبابا مشاوراتها للوصول إلى صيغة توافقية بشأن الوثيقة الدستورية المزمع التوقيع عليها، إثر تباين وجهات النظر بين الجانبين حيال بعض النقاط المتعلقة بالحصانات الممنوحة للمجلس العسكري ومشاركة بقية القوى السياسية المنضوية تحت لواء الحرية والتغيير.
القوى والجبهة في بيان مشترك لهما أشارا إلى أنهما، وعلى مدى عدة أيام، ناقشا ملفات كبرى تهم السودانيين وعلى رأسها الانتقال لحكم ديمقراطي في أسرع وقت، وتوفير الحياة الكريمة للشعب السوداني، وقالا إنهما اتفقا على الإسراع في تشكيل السلطة المدنية الانتقالية، على أن تكون أولى مهامها تحقيق اتفاق سلام شامل يبدأ بإجراءات تمهيدية عاجلة تخلق المناخ الملائم للسلام.
الطرفان اتفقا كذلك على إنشاء هيكل يقود قوى الحرية والتغيير طوال المرحلة الانتقالية يحشد الشعب لإنجاح أهداف الثورة، كما تمت صياغة رؤية موحدة بشأن الاتفاق السياسي والإعلان الدستوري مستجيبة لتطلعات الجماهير، هذا في الوقت الذي تشير فيه بعض المصادر إلى انتهاء عملية المشاورات على أن تعلن نتائج ما تم التوصل إليه خلال الساعات المقبلة.