هل هي بداية انسحاب أكبر أم إجراء لتعزيز فرص التفاوض بين الفرقاء؟ وما دلالة أن يأتي بعد سحب الإمارات أغلب قواتها من مناطق يمينة محددة؟ وهل تريد أبوظبي الانسحاب حقًا؟ تُطرح هذه الأسئلة وغيرها الكثير من علامات الاستفهام في وقت أُعلن فيه أن القوات السودانية المشاركة في حرب اليمن ضمن التحالف السعودي الإماراتي لدعم الشرعية انسحبت من عدد من مناطق تمركزها في جبهة الساحل الغربي بمحافظة الحديدة (غربي اليمن)، وذلك في وقت تعلن فيه عدة أطراف استعدادها للحوار سبيلاً لحلحلة الوضع القائم.
على خُطى القوات الإماراتية
في خطوة جديدة من شأنها أن تهدد بانهيار التحالف العسكري الذي تقوده السعودية في اليمن، بدأت مجموعة أولية من القوات السودانية المتواجدة في اليمن في الانسحاب من الساحل الغربي الذي تتواجد فيه القوات السودانية بشكل أساسي، بالإضافة إلى مدينة المخا وعلى مشارف مدينة الحديدة، وكانت قد شاركت في عمليات عسكرية كبيرة من مضيق باب المندب حتى محافظة الحديدة في ساحل البحر الأحمر غرب البلاد.
وفي تفاصيل الخطوة السودانية، أوضح المتحدث باسم القوات المشتركة في جبهة الساحل الغربي العقيد وضاح الدبيش أن القوات السودانية – ثاني أكبر المشاركين بالقوات البرية في اليمن في إطار التحالف بعد الإمارات – انسحبت من 3 مناطق (لم يسمها) كانت تتواجد فيها، في إطار عملية إعادة تموضع القوات المشتركة المكونة من أكثر من 11 لواءً عسكريًا.
يرى خبراء عسكريون أن ما قامت به القوات السودانية – كما هي الإماراتية – لا يعد انسحابًا بالمفهوم العسكري بقدر ما هو عملية لإعادة الانتشار، أو هروب من من الهزيمة
اللافت في الأمر هو الحديث عن استبدال قوات هذه المناطق التي انسحبت منها القوات السودانية بقوات مدعومة إماراتيًا، أُعلن عن تشكيلها في الآونة الأخيرة في الساحل الغربي، وتتكون من قوات العمالقة التابعة للجيش الوطني والمقاومة التهامية (مجموعة مسلحة تشكلت من قبل السكان المحليين) والمقاومة الجنوبية، وقوات الحرس الجمهوري الذي أضعفته السعودية، وكلها أجهزة تمولها الإمارات.
ويأتي الإعلان عن انسحاب القوات السودانية عقب خُطوة إماراتية مماثلة في الساحل الغربي لليمن، فقد نفذَّت أبوظبي انسحابًا “جزئيًا” وُصف بأنه جزء من الصراع الخفي بين الرياض وأبوظبي الذي كشفته أحداث طرد القوات الإماراتية من منطقة سيئون، ووصلت حديثًا قوات وتعزيزات سعودية لتحل محل القوات الإماراتية المـنسحبة، وهو ما قد يُفسَّر بأنه مسعى لخلخلة جبهة الساحل الغربي وإضعافها.
قوات تابعة للتحالف بينها قوات سودانية تتجمع على مشارف مدينة الحديدة
وبالنظر إلى التغيرات على الأرض، يرى خبراء عسكريون أن ما قامت به القوات السودانية – كما هي الإماراتية – لا يعد انسحابًا بالمفهوم العسكري بقدر ما هو عملية لإعادة الانتشار، أو هروب من الهزيمة، وذلك مقارنةً بسحب المملكة المغربية بداية العام الجاري لقواتها المقاتلة في اليمن.
ويؤكد ذلك استباق الإمارات قرارها المعلن بسحب قواتها من اليمن بتوحيد مجموعة من القوات والألوية التي تقاتل في جبهة الساحل الغربي في كيان عسكري واحد يدين لها بالولاء، وهذا الكيان “الإماراتي الولاء” هو من تسلم المواقع العسكرية التي تقول أبوظبي إنها انسحبت منها، وهو أيضًا مَنْ حل محل القوات السودانية.
الجيش السوداني.. وقود معارك التحالف في اليمن
بهذه الكلمات تختصر صحيفة Le Monde مهام القوات السودانية التي تنتشر في أكثر الجبهات شراسة، وتحديدًا في صحراء ميدي ومنطقة حرض بمحافظة حجة شمال غرب اليمن، ومعظم القتلى الذين يسقطون في تلك المنطقة، كما تتموقع تلك القوات في محافظة صعدة شمال البلاد، وتحديدًا في جبال مران ومناطق الظاهر وشدا والرازح على الحدود مع جازان، وكذلك علب وباقم على الحدود مع عسير، ثم البقع على الحدود مع نجران. إضافة إلى ذلك، يعسكر الجنود السودانيون في منطقة مهجورة بالقرب من بلدة الطوال المتاخمة لجازان، وقد شارك أفرادها في جميع عمليات التحالف تقريبًا في جنوب اليمن.
كشف نائب رئيس المجلس العسكري السوداني الفريق أول محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي” – متباهيًا بحجم قواته المشاركة في التحالف – أن قوام قوات بلاده المشاركة في حرب اليمن بلغ 30 ألف جندي، معظمهم من قوات الدعم السريع “الجنجويد” التي استعانت بها الحكومة السودانية سابقًا في نزاع دارفور
ووفقًا لتوصيف الصحيفة الفرنسية، أُوكلت للقوات السعودية مهمة حراسة القواعد الإماراتية في جنوب اليمن، والقيام بعمليات برية على وجه التحديد في الساحل الغربي، وخاصة جبهة الحديدة، في حين تنتشر 4 ألوية من الجنود السودانيين على الحدود اليمنية السعودية، هناك حيث المواجهات الساخنة والهجمات العسكرية التي يشنها الحوثيون على امتداد خط بري طويل وصحراء وأودية وتضاريس جغرافية صعبة.
ويثير تمركز القوات السودانية وانتشارها بشكل أساسي على الشريط الحدودي اليمني السعودي تساؤلات عمَّا إذا كان مدفوعًا بها لتكون حامية للسعودية بالوكالة والخط الأول لتلقي نيران الحوثيين، أو كما تقول الصحيفة الفرنسية إنهم “وقودٌ لمدافع التحالف في معاركه”، في حين تحافظ القوات الإماراتية والسعودية على مناطق حيوية وإستراتيجية لها فيها حسابات أخرى.
ومنذ مارس/آذار 2015 يشارك السودان في حرب اليمن إلى جانب التحالف السعودي الإماراتي، حينها دعم الرئيس السوداني المعزول عمر البشير التحالف بكل قوة، واتخذ قرارًا بإرسال كتيبة من القوات النظامية إلى اليمن، وكان قائدها الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس العسكري الانتقالي الحاكم حاليُا، وأكد أن أمن الحرمين الشريفين خط أحمر، وأن ما يقوم به السودان واجب مقدس وأخلاقي، لكن لم يشفع للبشير كل ما فعله في هذا الشأن حينما تقرر عزله.
قُتل العديد من القوات السودانية المشاركة في التحالف السعودي الإماراتي في اليمن
وبعد بضعة أشهر، أبرمت الإمارات صفقة موازية مع “حميدتي” لإرسال قوة أكبر بكثير من مقاتلي قوات الدعم السريع، للقتال في جنوب اليمن وعلى طول سهل تهامة، الذي يشمل مدينة الحديدة الساحلية، التي كانت مسرحًا لقتال عنيف في العام الماضي، ومن المحتمل أن تكون الإمارات هي من يدفع التكاليف المالية لذلك، ومن خلال الذهب ونشاط المرتزقة المعتمد رسميًا، أصبح حميدتي يتحكم بأكبر “ميزانية سياسية” للسودان، أموال يمكن إنفاقها على الأمن الخاص، أو أي نشاط، دون أي مساءلة.
وعلى مدى 4 أعوام من القتال ظل عدد هذه القوات طي الكتمان إلى أن كشف نائب رئيس المجلس العسكري السوداني الفريق أول محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي” – متباهيًا بحجم قواته المشاركة في التحالف – أن قوام قوات بلاده المشاركة في حرب اليمن بلغ 30 ألف جندي، معظمهم من قوات الدعم السريع “الجنجويد” التي استعانت بها الحكومة السودانية سابقًا في نزاع دارفور، والتي اتُهمت بارتكاب انتهاكات واسعة النطاق في السودان، بما في ذلك مجزرة فض الاعتصام في 3 يونيو/حزيران الماضين والتي قُتل فيها أكثر من 120 شخصًا، وألقي العديد من القتلى حينها في نهر النيل.
ووفقًا لصحيفة The New York Times الأمريكية، فإن 40% من الجنود السودانيين الذين يقاتلون إلى جانب التحالف السعودي الإماراتي هم أطفال يُدرَّبون في مناطق على الحدود مع السعودية، وقُسموا إلى وحدات تتراوح بين 500 و750 مقاتلاً، ويتسلمون رواتب تعادل 480 دولارًا شهريًا للمبتدئ البالغ من العمر 4 عامًا، و530 دولارًا لضابط “الجنجويد” المتمرس، ويتلقى المقاتل بعد 6 أشهر من العمل من 10 الآف دولار.
على الرغم من هذا الدعم السوداني، والدفع بالجنود وبمقدرات السودان إلى حرب اليمن، فإنها لم تحقق أي نتائج ملموسة أو نجاح يُذكر طوال 4 سنوات و4 أشهر
وأضافت الصحيفة الأمريكية في تقرير ترجمه سابقًا موقع “نون بوست” أن أعمار الأطفال المجندين ما بين 14 و17 سنة، وأنه منذ سنوات يقاتل في اليمن نحو 14 ألفًا من أفراد القوات السودانية، وقُتل المئات منهم، وهو ما يؤكده اعتراف قائد قوات الدعم السريع في السودان حميدتي، في سبتمبر/أيلول الماضي، بمقتل أكثر من 400 جندي سوداني بينهم 18 ضابطًا، بينما قدَّر مصدر حكومي عدد الذين قُتلوا من الجيش السوداني في حرب اليمن بـ850 ضايطًا وجنديًا.
ومع انطلاق عاصفة الحزم قبل 4 سنوات، أعلن السودان مشاركة 4 طائرات ضمن قوات التحالف، لكن لم تصل منها إلا طائرتان، وقد تضاءلت مشاركة القوات الجوية السودانية في اليمن حتى وصلت إلى أقل من 1%، ولم تعد تنفذ غارات.
ومن القادة السودانيين العسكريين الذين لهم دور في حرب اليمن الفريق الركن عماد مصطفى عدوي رئيس هيئة الأركان السودانية الذي زار قاعدة العند عام 2016، ورئيس المجلس العسكري السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان الذي أشرف على القوات السودانية في اليمن، بالتنسيق مع الفريق محمد حمدان حميدتي الذي تصفه وسائل الإعلام السودانية بـ”قائد ميليشيا الدعم السريع”، والذي أكد خلال لقائه مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أنه القوات السودانية في اليمن باقية حتى تحقق أهدافها، لكن على الرغم من هذا الدعم السوداني، والدفع بالجنود وبمقدرات السودان إلى حرب اليمن، فإنها لم تحقق أي نتائج ملموسة أو نجاح يُذكر طوال 4 سنوات و4 أشهر.
اليمن نحو مزيد من الحل أم التعقيد؟
انتقادات داخلية من قوى سياسية سودانية عديدة، أعلنت رفضها لمشاركة القوى السودانية ضمن الحرب التي تشنها السعودية وحلفاؤها في اليمن، يُضاف إلى ذلك انتقادات خارجية حقوقية، ومع استمرار مطالبات الثوار السودانيين بسحب القوات السودانية من اليمن، بعدما فقدت عقيدة وجودها وخسارة مجموعة من الجنود في مواجهتها مع الحوثيين، اعترض المجلس العسكري الانتقالي بقيادة الفريق أول ركن عبدالفتاح، وأعلن رفضه سحب القوات من اليمن دعمًا السعودية ضد تهديدات إيران.
وبعيدًا عن صدق النوايا السودانية من عدمه، ترجم المبعوث الأممي مارتن غريفيث عملية إعادة الانتشار التي تنفذها القوات الإماراتية بأنها خطوة باتجاه السلام، وقال إنه يعتقد أن هذه الحرب قابلة للإنهاء على نحو وشيك، لأن الطرفين المتحاربين على حد وصفه وأطراف التوافق السياسي الدولي يدعمون اتفاقًا توصلت بشأنه الأمم المتحدة في ستوكهولم في ديسمبر/كانون الأول الماضي.
هذا التغير في اللهجة يوحي بأن الملف ككل يقدم على تحولات لافتة وجذرية تثير تساؤلات عن التوقيت وعلاقة هذا التطور بتصاعد التوتر في الخليج بشأن إيران واحتمال اندلاع حرب جديدة في المنطق
تصريحات غريفيث تأتي بعد أيام من إحاطة قدَّمها أمام مجلس الأمن، وأكد فيها أن هناك مدعاة للتفاؤل بشأن تحقيق السلام في اليمن، وذاك تفاؤل أتت مواقف عدة من أطراف الصراع في اليمن لتدعمه، وهي مواقف أقرب إلى إشارات متبادلة تعبر عن استعدادٍ للحوار، إذ ترد جماعة الحوثي باستعدادها للتفاوض، وتقول إن هذه الخطوات كفيلة بتمهيد الطريق نحو عملية سياسية حقيقية.
أكد ذلك رئيس المجلس السياسي الأعلى للحوثيين مهدي المشاط باستعداد الجماعة لوقف الهجمات الصاروخية والجوية والبرية ضد دول التحالف إذا التزم التحالف السعودي الإماراتي بالشيء ذاته، وسهَّل دخول المساعدات عبر موانئ اليمن، وقال المشاط إن جماعة الحوثي تؤيد السلام، وليس لديها أجندة سوى وقف ما وصفه بـ”العدوان” واحترام سيادة واستقلال اليمن.
محمد حمدان حميدتي خلال لقائه مع ولي العهد محمد بن سلمان في الرياض
وعلى المنوال نفسه، وضع وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش تحركات قوات بلاده في ميادين الحرب في اليمن في سياق بناء الثقة لإنهاء الصراع والانتقال إلى المسار السياسي من أجل إنهاء الصراع، وفي تطور لافت، قال قرقاش إن “هناك فرصة لتحقيق السلام في اليمن، وإن على العالم اغتنامها وردع أي طرف يسعى إلى استغلال أو تقويض هذه الفرصة”.
وذهب الوزير الإماراتي أبعد من ذلك بتأكيده على استمرار “الدور العسكري” لبلاده في اليمن، واستدرك قائلاً إنه “لم يكن هناك نصر سهل، ولن يكون هناك سلام سهل”، لكن لا يُعلم إن كانت تصريحات قرقاش تنم عن تحول حقيقي وجنوح إماراتي نحو الحل السياسي أم أنها محاولة لتجميل التحالف السعودي الإماراتي على خلفية سجله الإنساني السيء والدعوات لإنهاء الحرب في اليمن.
هذا التغير في اللهجة يوحي بأن الملف ككل يُقدِم على تحولات لافتة وجذرية تثير تساؤلات عن التوقيت وعلاقة هذا التطور بتصاعد التوتر في الخليج بشأن إيران واحتمال اندلاع حرب جديدة في المنطقة، كما يبقى السؤال واردًا عن الموقف السعودي، فقد باتت الرياض شبه وحيدة في مواجهة الحوثيين وسط أنباء عن انسحابات متلاحقة من اليمن.
لا شك أن اليمنيين سيرحبون بأي انسحاب لقوات الدول المشاركة في التحالف العسكري في اليمن، ويرون في ذلك خطوة نحو السلام لعلها تَحُد من معاناتهم، لكنهم سيتساءلون أكثر عن أسباب تأخير هذه الخطوة كل هذه المدة، أي بعد أكثر من 4 سنوات على انطلاق عاصفة الحزم، التي خلَّفت بلدًا مدمرًا، وقتلت الالآف، وجعلت قرابة 22 مليون يمني على حافة المجاعة وفق تقارير الأمم الأمم المتحدة. ومع ذلك، لا شرعية عادت، ولا استقرارًا جلبت.