تعددت تسميات الدبلوماسية كثيرًا حتى وقتنا هذا، فبينما كان النبي محمد أول من عمل بها كطريقة للتواصل وتبادل المراسلات مع نجاشي الحبشة وهرقل عظيم الروم وكسرى ملك الفرس في تاريخنا العربي الإسلامي، كانت حاضرة أيضًا في سياسة اليونان القديمة تحت اسم دبلوما diploma التي تعني الوثيقة التي تصدر عن أصحاب السلطة والرؤساء السياسيين تمنح حاملها امتيازات معينة.
الطريقة التي تعمل بها الدبلوماسية الآن في الأوساط السياسية استخدمت لأول مرة في إنجلترا عام 1796
استخدمها الرومان في الإشارة إلى الوثيقة المطوية على وجه الخصوص التي يحملها المبتعث السياسي للدولة للتفاوض وتسهيل أمور عمله وتحركاته، ما يعني أنها كانت تلعب دور جواز السفر في بعض الأحيان.
وقد اختلف معنى مصطلح الدبلوماسية وصلاحيات الدبلوماسي عما كان عليه في الماضي، إذ إن الطريقة التي تعمل بها الدبلوماسية الآن في الأوساط السياسية استخدمت لأول مرة في إنجلترا عام 1796 حين تم تغيير اسمها إلى Diplomacy باللغة الإنجليزية وهو ما اشتق منه الاسم العربي. وأصبحت الكلمة منذ ذلك الحين ذات قوانين وشروط اكتسبتها إثر مؤتمر فيينا عام 1815، وهو مؤتمر لسفراء الدول الأوروبية هدف إلى إعادة رسم الخريطة السياسية للقارة.
وفي ضوء هذا التطور ظهرت كوادر دبلوماسية متخصصة ومتميزة عن رجال السياسة منظمة ومرتبة حسب أسبقية رؤساء البعثات ومزاياها وخصائصها.
ماهية الدبلوماسية السياسية
عرّف الكثير من السياسيين ورجال السلطة والأساتذة معنى الدبلوماسية حسب خبراتهم وتجاربهم التي لمسوها في أثناء أدائهم لهذه الوظيفة، إذ قال عنها أول رئيس وزراء صيني تشو إن لاي، بين 1949 و1958 بأنّها استمرار الحرب لكن بوسائل مختلفة دون استخدام للقوة المباشرة، أي ما يشبه الحرب الباردة، كما ذهب جوزيف ناي أستاذ العلوم السياسية والعميد السابق لجامعة جون كينيدي قائلًا إنها قوة ناعمة لها القدرة على إقناع الناس بآرائنا دون استخدام القوة العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية.
تنقسم الدبلوماسية إلى عدة أشكال.. من بينها: دبلوماسية التهدئة.. ودبلوماسية الدولار
ويحدد علي صادق أبو هيف مؤلف كتاب القانون الدبلوماسي، بأن عمل الدبلوماسية يتمثل في ثلاثة أوجه وهي: مراقبة مجريات الأمور والحوادث وحماية مصالح الدولة والمفاوضة في كل ما يهمها.
ولعل من أقدم التعاريف العربية للدبلوماسية كلمة “كتاب” التي جاءت عن أبي يوسف حين قال: “الولاة إذا ما لقوا رسولاً يسألونه عن اسمه، فإن قال: أنا رسول الملك بعثني إلى ملك العرب وهذا كتابه معي، وما معي من الدواب والمتاع والرقيق فهدية له، فإنه يصدق ولا سبيل عليه”.
وإلى جانب كلمة “كتاب” كانت كلمة “سفارة” تأتي بمعنى الرسالة، أي التوجه والانطلاق إلى القوم بغية التفاوض.
أنواع الدبلوماسية
تنقسم الدبلوماسية إلى عدة أشكال يختلف فيها الهدف والطريقة في الوصول إلى اتفاق، من بينها: دبلوماسية التهدئة التي ترتكز على المحافظة على ما هو دون تفاقم الوضع لكسب الوقت، ودبلوماسية الدولار التي يستخدم فيها الاقتصاد للتوصل إلى حل وتحقيق أهداف مشتركة.
كانت صحيفة هاربر الأسبوعية أول من استخدم هذه الكلمة في 23 من أبريل عام 1910 لوصف جهود وزير الخارجية الأمريكي نوكس لتأمين فرص للاستثمارات الخارجية الأمريكية، وبعد الحرب العالمية استخدم للإشارة إلى تقديم المساعدات الاقتصادية، خاصة لدول أمريكا اللاتينية وذلك غالبًا مقابل خضوع تلك الدول لإشراف المستشارين الاقتصاديين الأمريكيين.
الدبلوماسية هي.. تطبيق الحيلة والذكاء في إدارة العلاقات الرسمية بين الحكومات والدول المستقلة”.
أما دبلوماسية القوة الناعمة فهي طريقة إغراء أكثر منها إكراه أو فرض في سبيل الحصول على النتائج المرجوّة، وهناك أيضًا الدبلوماسية الثقافية ونراها كثيرًا، آخرها الجارية بين تركيا والأردن وتكون بتعزيز التعاون الثقافي والاجتماعي والمصالح الوطنية.
الدبلوماسيون في وقتنا الحاضر
على الدبلوماسي التمتع بالكثير من الصفات والقدرات الخاصة التي تؤهله لأداء هذه الوظيفة كالقدرة العالية على التركيز لفهم النقاش والإحاطة بالهدف منه وإدارته لما يصب في صالحه وتقدير مصالح الطرف الآخر بالإضافة إلى إتقان أكثر من لغة بطلاقة وأن يكون ذا ذاكرة حاضرة في كل وقت، فكما قال الباحث والدبلوماسي البريطاني، أرنست ساتو، بأنها “تطبيق الحيلة والذكاء في إدارة العلاقات الرسمية بين الحكومات والدول المستقلة”.
في الواقع، ظهرت مع الوقت أشكالًا جديدة لصفة الدبلوماسي أعطيت لغير الدبلوماسيين، مثل محرري الصحف وكبار المراسلين في الخارج في الصحف الكبرى الذين أثروا في العلاقات الدولية وساهموا من خلال وظائفهم في تقوية أو إنهاء صفقات ومعاهدات كبيرة، إذ أطلقت عليهم أوصافًا دبلوماسية، من أبرز الأمثلة فالنتين شيرول محرر الشؤون الخارجية بمجلة “تايمز” البريطانية بين عاميّ 1899 و1911 الذي وصفه الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت بالأب الروحي للمعاهدة الإنجليزية اليابانية عام 1902.
وأيضًا مع توسع مهام الأجهزة المسؤولة عن العمل الدبلوماسي في الوقت الحاضر وتشابكها بطريقة معقدة مع القضايا والفاعلين على المستوى المحلي، فإن مصطلحيّ الدبلوماسية والدبلوماسي باتا يستخدمان على نطاق أوسع حتى شملا الأنشطة الثقافية والرياضية، مما أدى إلى توسع مفهوم الدبلوماسي، فينظر الآن إلى أيّ شخص خارج بلاده على أنه يمثلها في الوقت الذي أصبح كل شيء فيه أسهل وأسرع على صعيد الكثير من المجالات التي يمكن ممارسة الدبلوماسية من خلالها دون الحاجة لأن يكون الشخص دبلوماسي مفوض.
في سبتمبر 2017 عيّنت الدانمارك “كاسبر كلينغ” كأول “تيك دبلوماسي”، في إشارة إلى الدبلوماسية الرقمية الجديدة
إذ بإمكان أيّ شخص الآن القيام بدور دبلوماسي عبر تمثيل بلاده في الخارج كالمدربين الرياضيين والأطباء الكبار في المحافل العلمية والفنانين في الأوساط الفنية وغيرها الكثير.
الدبلوماسية الرقمية
اتخذت الدبلوماسية شكلًا جديدًا منذ أن دخل الإنترنت حياتنا من أوسع أبوابه، إذ بات الدبلوماسيون والسفراء والوزراء الآن يدلون بآرائهم ويعلّقون على الأحداث العالمية والمحلية بسرعة وعبر حساباتهم الشخصية، فتتجه نظرات النشطاء والصحفيين للتعقيب على كلامهم ومحاولة تفسيره، إذ أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي طريقة جديدة تختلف عن الدبلوماسية التقليدية أو تساعدها بتعزيز العمل بشكل أسرع ومباشر كما توسّع التواصل العالمي والمباشر مع المؤسسات المحلية وتخاطب الرأي العام.
وفي سبتمبر 2017 عيّنت الدانمارك “كاسبر كلينغ” كأول “تيك دبلوماسي”، في إشارة إلى الدبلوماسية الرقمية الجديدة، فقال كاسبر خلال مراسم تعيينه: “بعض الشركات التكنولوجية لها تأثير كبير على كل البلدان وهذا يؤكد تمامًا الحاجة إلى تيك دبلوماسي”.
ومن بين أبرز الأشياء التي أضافتها الدبلوماسية الرقمية على التقليدية أنها أشركت الرأي العام في اتخاذ القرارات ولو حتى بشكل بسيط عبر التأثير عليها عن بعد من خلال التبادل السريع للمعلومات ووجهات النظر وتقديم رؤية أوضح للأحداث الجارية.
الدبلوماسية.. أعطت الرأي العام مساحة للمشاركة في اتخاذ القرار من خلال شكلها الجديد الرقمي
ولكن على الرغم من كل الإيجابيات والتساهيل التي تحملها الدبلوماسية الرقمية، فإن لها مخاطر كبيرة في ممارستها من بينها: عدم كفاءة الدبلوماسي في استخدام هذه المساحة مما قد يؤدي إلى نتائج عكسية أحيانًا في حال نقص معرفته باستخدام المواقع، بالإضافة إلى أن أيّ شيء يدخل الفضاء الرقمي لن يكون من السهل أبدًا التراجع عنه بالأخص إن كانت المادة من النوع البصري فسيكون من الصعب حدّ انتشارها أو حذفها.
كما تواجه الدبلوماسية الرقمية مخاطر موجودة بنطاق أوسع مما هي عليها التقليدية وهي غياب قانون دولي ينظمها، بالإضافة إلى وجود خطر أكبر وهو القرصنة الرقمية، فباتت الآن الهجمات الإلكترونية خطرة بقدر خطورة الهجمات العسكرية والتجسس الإلكتروني الذي يعد أخطر أنواع التجسس على مرّ التاريخ.
لعبت الدبلوماسية دورًا مهمًا في إيجاد الحلول والحد من الصراعات والنزاعات السياسية والاقتصادية وحافظت على المصالح المشتركة دون تعريض جهة ما لخسارة، كما أعطت الرأي العام مساحة للمشاركة في اتخاذ القرار من خلال شكلها الجديد الرقمي وأتاحت للعامة فهم آلية عملها وأهميتها.