ترجمة وتحرير: نون بوست
في مايو/ أيار من العام الماضي، صعد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن على خشبة مسرح إحدى الحانات في كييف ليؤدي على الغيتار أغنية “عزف الروك في العالم الحر” (Rockin’ in the Free World) للمغني نيل يونغ.
على غرار أغنية بروس سبرينغستين “وُلد في الولايات المتحدة الأمريكية”، التي تتحدث عن أحد المحاربين القدامى في حرب فيتنام، والتي أسيء تفسيرها على أنه “رسالة أمل” عندما اقتبس منها رونالد ريغان بعض الكلمات خلال حملته الرئاسية عام 1984، فإن الألحان الصاخبة لأغنية يونغ تخفي رسالتها النقدية السياسية.
يبدو أن بلينكن كان يعتقد مثلما اعتقد ريغان، أنه يؤدي أغنية تحتفي بالعالم الغربي، لا تسخر منه.
في الواقع، قد تعطينا كلمات نيل يونغ تقييمًا للسنوات الأربع التي قاد فيها بلينكن والرئيس جو بايدن السياسة الخارجية الأمريكية، وهي سنوات ادعت فيها واشنطن أنها تفعل الكثير من الخير للعالم، بينما كانت في حقيقة الأمر تقدم لإسرائيل عشرات المليارات من الدولارات كمساعدات عسكرية لمواصلة حربها على غزة.
يقول يونغ في أغنيته: “هناك إشارة تحذير أمامانا على الطريق / هناك الكثير من الناس الذين يقولون إنه من الأفضل لنا أن نموت / لا أشعر بأنني شيطان، لكنني كذلك بالنسبة لهم / لذلك أحاول أن أنسى ذلك بأي طريقة ممكنة”.
قد يكون التغني بـ”العالم الحر” منطقيًا في أوكرانيا، رغم المآسي العميقة التي سببتها الحرب بعد الغزو الروسي الوحشي الذي واجهته الولايات المتحدة بكميات هائلة من المساعدات العسكرية، لكن عندما كان بلينكن يؤدي الأغنية، كانت القنابل الأمريكية تتساقط على غزة.
يوم الثلاثاء، جسّد بلينكن مرة أخرى صورة من صور الصمم وعدم الإدراك في حديثه أمام المجلس الأطلسي عن الوضع في الشرق الأوسط؛ حيث قاطعه الحاضرون أكثر من مرة متهمين إياه بأن يديه ملطختان بالدماء، وبأنه يسمح بالإبادة الجماعية.
بالكاد استطاع بلينكن الرد، عدا عن قوله للحاضرين في مناسبة واحدة إنه “يحترم” وجهة نظرهم. وانتظر بلينكن حتى ينصرف الصحفيون المحتجون، ثم عاد إلى الحديث عن إرثه وكأنه حقق نجاحا كبيرا، وسط بعض الضحكات من الجمهور.
كانت هذه الرغبة في الحديث عن الإرث في السياسة الخارجية سمة مميزة لتصريحات بايدن وبلينكن منذ فوز دونالد ترامب بالانتخابات الأمريكية في نوفمبر/ تشرين الثاني، وقد تسارعت وتيرتها هذا الأسبوع؛ حيث أحرجهما ترامب حتى قبل أن يغادرا منصبيهما بإجبار الإسرائيليين على توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار، وهو أمر لم يكن لدى بايدن وبلينكن القوة أو الرغبة في القيام به.
ومهما حاولا تزييف الحقائق، فإن الرئيس وكبير دبلوماسييه سيخرجان من المسرح العالمي باعتبارهما تجسيدًا لوضع الإبادة الجماعية الراهنة ومهندسين لها.
تفويض مطلق لإسرائيل والإمارات
لعب بايدن -الصهيوني المتشدد- دور الشريك في جرائم إسرائيل، رغم أن الصحفي الأمريكي المخضرم بوب وودوارد ذكر كشف في كتابه “الحرب” أن الرئيس الأمريكي كان يشتكي في السر من “الكاذب اللعين” بنيامين نتنياهو.
لكن هذا الفشل الذريع لا ينطبق على إسرائيل فحسب، فقد مُنحت الإمارات، أحد أبرز حلفاء الولايات المتحدة، أيضًا تفويضًا مطلقًا لفعل ما يحلو لها. وقد ظهر ذلك بشكل واضح في السودان، حيث تقوم الإمارات بتسليح وإمداد قوات الدعم السريع شبه العسكرية التي اتُهمت – مثل إسرائيل – بارتكاب إبادة جماعية على نطاق واسع وموثق.
وعد بايدن عند استلام منصبه بترميم علاقات واشنطن مع أفريقيا، إلا أن قدمه لم تطأ القارة حتى ديسمبر/ كانون الأول، ولم يتدخل شخصيًا في الحرب في السودان، رغم أنها الأزمة الإنسانية الأوسع نطاقًا في العالم.
وكما هو الحال مع إسرائيل، كانت هناك محاولات مستميتة من إدارة بايدن في اللحظة الأخيرة لإنقاذ شيء من حطام إرث السياسة الأمريكية الخارجية عبر تحقيق صفقة في السودان.
ففي 18 ديسمبر/ كانون الأول، كتب بريت ماكغورك، منسق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في تقييم عادةً ما يصدر من مجتمع الاستخبارات الأمريكية، إلى السيناتور كريس فان هولين، يحمل أنباءً تفيد بأن الإمارات أبلغت الحكومة الأمريكية أنها لم تعد “تنقل أي أسلحة” إلى قوات الدعم السريع.
ارتبطت الحرب المستعرة منذ أبريل/ نيسان 2023، بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، بالدعم الإماراتي للقوات شبه العسكرية، وهو دعم أنكرته الإمارات بشكل فاتر.
كما أنها ارتبطت الحرب أيضًا بتقاعس الولايات المتحدة عن فعل أي شيء حيال هذا الدعم الإماراتي؛ حيث تمت التضحية بالسودان على مذبح مصالح واشنطن في الشرق الأوسط، والتي تعد إسرائيل والإمارات طرفين رئيسيين فيها.
وهكذا، أخبرت الإمارات – على غرار إسرائيل – الولايات المتحدة مرارًا وتكرارًا بكل ما تريد أن تسمعه، قبل أن تمضي قدمًا وتفعل ما تريده، وأدى ذلك إلى تدمير غزة وتدمير السودان.
حمل الوعد الحالي بحسن السلوك اعترافا ضمنيا؛ ففي تصريحها بأنها لن تسلح قوات الدعم السريع بعد الآن، اعترفت الإمارات بأنها كانت تسلحها طوال الفترة الماضية.
خلال الفترة الأخيرة، أقرت الولايات المتحدة بارتكاب قوات الدعم السريع عمليات إبادة جماعية، واكتشف الجيش السوداني مخابئ للأسلحة الإماراتية في مدينة ود مدني، المدينة التي استعادتها القوات الحكومية من قوات الدعم السريع مؤخرا.
تقديم الأسلحة إلى إسرائيل
ظهرت الهوة الشاسعة بين رؤية بايدن وبلينكن لإرثهما في السياسة الخارجية، ونظرة العالم بأسره، مرة أخرى يوم الاثنين، عندما ظهر بايدن وبلينكن في وزارة الخارجية لإلقاء خطاب الوداع حول السياسة الخارجية.
بدأ بلينكن بالتصفيق عندما اقترب الرجلان من المنصة ممهدًا بذلك لخطابه وخطاب بايدن الذي اتسم بالتهاني المنفصلة عن الواقع، رغم أن جهاز التلقين جنّب الجمهور عددًا كبيرًا من الأخطاء التي اعتاد الرئيس المسن أن يرتكبها.
بعد أسبوع واحد فقط من إعلان الولايات المتحدة عن صفقة أسلحة جديدة بقيمة 8 مليارات دولار لإسرائيل – تُضاف إلى 22.76 مليار دولار أمريكي أنفقتها واشنطن على الجيش الإسرائيلي والعمليات الأمريكية ذات الصلة في المنطقة، في الفترة ما بين 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 ونهاية سبتمبر/ أيلول 2024 – أكد بلينكن لموظفي وزارة خارجيته أن “أشياء سيئة” كان ستحدث إذا لم تكن الولايات المتحدة في “القيادة”.
رابط الصورة: https://www.middleeasteye.net/
وصف الصورة: رجل فلسطيني يسير بجانب أنقاض المباني التي دمرتها الغارات الإسرائيلية في خان يونس بقطاع غزة، 16 يناير/ كانون الثاني 2025.
أشاد بلينكن بفريقه الذي “عمل على مدار الساعة وطوال أيام الأسبوع… للتوصل إلى اتفاقات”، في الوقت الذي أصبح فيه من الواضح أن ترامب ومبعوثه للشرق الأوسط، ستيفن ويتكوف، جعلا اتفاق وقف إطلاق النار في متناول اليد من خلال موقف حازم مع الإسرائيليين، وهو أمر فشل بايدن وبلينكن في القيام به طيلة الفترة الماضية.
وقد يكون هذا النهج الذي اعتمده ترامب، هو أكثر ما يشير بأصابع الاتهام للديمقراطيين المنتهية ولايتهم؛ فالرئيس القادم ليس صديقًا للفلسطينيين، لكنه يحب الصفقات ويحب إحراج أعدائه السياسيين.
في كتاب “الحرب” الذي يستند بشكل كبير إلى مقابلات مع مجموعة من المسؤولين المقربين من بايدن – وقد يكون من بينهم بلينكن ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان -، يصور وودوارد إدارة بايدن على أنها جهة فاعلة حسنة النية لكنها لا تستطيع إقناع هؤلاء الإسرائيليين المخادعين بفعل الشيء الصحيح.
تمسك بالوضع الراهن المميت
في الواقع، لم يمارس بايدن وبلينكن أي ضغط حقيقي على نتنياهو وحكومته. لقد ظهر وزير الخارجية الأمريكي كرجل ضعيف رغم أنه يملك أقوى أسلحة عرفها العالم، وظهر تواضعه الزائف على أنه افتقار إلى الخيال، وهو ما أدى إلى التمسك بالوضع الراهن الفاشل والمميت.
لقد أعطى هو ورئيسه بايدن الأسلحة الأمريكية لإسرائيل، وقد استخدمتها لقتل عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، وقد وضعا خطوطًا حمراء، وتجاوزتها إسرائيل دون عواقب.
وخلف الأبواب المغلقة، قال بلينكن – أو على الأقل هذا ما ذكره وودورد – إنه يجب على نتنياهو وحلفائه السماح بدخول بعض المساعدات إلى غزة، وعدم قتل هذا العدد الكبير من الأطفال، والتفكير ولو للحظة واحدة فيما قد يعنيه هذا بالنسبة لبقية دول العالم.
لكن إسرائيل ألقت كل هذا خلف ظهرها ببساطة واستمرت بقتل الفلسطينيين.
في النهاية، يبدو أن بلينكن، الذي أخبر المجلس الأطلسي أن الولايات المتحدة في وضع أفضل بكثير الآن مما كانت عليه عندما تولى هو وبايدن منصبيهما، يرى أن هذا هو ثمن ممارسة السياسة بمنطق الصفقات التجارية.
خلال مأدبة غداء مع صحيفة “فاينانشيال تايمز” مؤخرًا، طُلب منه مقارنة آرائه حول شينجيانغ، حيث تقوم الحكومة الصينية بقمع الأويغور، وتحتجز ما يصل إلى مليون منهم في معسكرات اعتقال، بآرائه حول الوضع في غزة.
في عام 2021، قال بلينكن إن الصين ترتكب إبادة جماعية ضد مواطنيها الأويغور. وعند سؤاله عن استخلاص الاستنتاج نفسه في غزة، كرر رد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر المقتضب على السؤال نفسه، قائلا ببساطة “لا”.
وضع راهن ممزق
لا أحد يتوقع من الولايات المتحدة أن تكون نصيرًا متحمسًا للقضية الفلسطينية؛ فقد كتب رشيد الخالدي في كتابه “حرب المئة عام على فلسطين” أن تجربته كمفاوض فلسطيني في أوسلو علمته أن الولايات المتحدة يجب أن يُنظر إليها كحليف لإسرائيل.
لكن الدعم الاستثنائي الذي قدمه بايدن وبلينكن لإسرائيل يعني أنه لا يمكن النظر إليهما إلا كتجسيد للوضع الراهن القائم على الإبادة الجماعية.
وهو أيضًا وضع راهن ممزق، سواء في الداخل أو في الخارج؛ فقد أظهر انتخاب ترامب مرة أخرى أن الديمقراطيين لا يمكنهم ببساطة أن يقوموا بحملة انتخابية لإبقاء الوضع على ما هو عليه عندما تضطرب الأمور.
حدث ذلك حرفيًا خلال الأيام الأخيرة، حيث أعلن بايدن في مؤتمر صحفي – بينما يتواصل في لوس أنجلوس اشتعال الحرائق التي أججها التغير المناخي – عن “بشرى سارة”، حيث أصبح جدّا أكبر بعد أن رُزقت حفيدته بمولود جديد.
وخلال خطابه في وزارة الخارجية، توقف الرئيس المنتهية ولايته للحظة ليقول إن الفلسطينيين “عانوا بشدة خلال الحرب التي أشعلتها حماس، لقد عانوا الأمرّين، وقُتل الكثير من الأبرياء”. حمل وصفه للحرب الكثير من الدلالات.
الأمر الأكثر وضوحا هو الدعم المستمر الذي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل، بتوفير الأسلحة، وفرض العقوبات على قضاة المحكمة الجنائية الدولية، والاعتداءات على القانون الدولي والنظام العالمي الذي تدعي واشنطن الدفاع عنه.
بايدن وبلينكن ليسا أول مسؤولين أمريكيين يبرران ارتكاب الإبادة الجماعية والمشاركة فيها، أو يتحدثان عن السلام في صحراء من الدمار، لكنها أول من يفعل بوضوح أمام أعين العالم.
سيكون إرثهما هو النفاق في مواجهة الإبادة الجماعية، ولا يوجد خطاب في العالم بأسره يمكن أن يغير هذه الحقيقة.
المصدر: ميدل إيست آي