مع بدء المرحلة الأولى من صفقة تبادل الأسرى، تعيش العائلات الفلسطينية التي يقبع ذووها في سجون الاحتلال منذ سنوات طويلة مزيجًا من المشاعر المتناقضة: الأمل بقرب اللقاء، والترقب الممزوج بالقلق من تعنت الاحتلال واحتمالية عرقلة الصفقة أو فرض شروط مجحفة في اللحظات الأخيرة.
من بين هذه العائلات تبرز عائلة سعدات، التي تمثل نموذجًا مكثفًا لمعاناة الأسرى الفلسطينيين وذويهم، إذ يقبع المناضل أحمد سعدات، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في الأسر منذ أكثر من عقدين، حيث يصر الاحتلال على رفض إدراجه ضمن المرحلة الأولى من الصفقة. وفي الوقت ذاته، تقبع زوجته، الأسيرة عبلة سعدات، خلف القضبان منذ أشهر، لكنها مدرجة ضمن الأسماء المشمولة في الدفعة الأولى من التبادل، ما يعزز آمال العائلة، رغم استمرار التحديات.
بالنسبة لعائلة سعدات، فإن الحديث عن صفقة التبادل يحمل معاني إنسانية عميقة تتجاوز السياسة. إنه أمل باستعادة اللحظات العائلية التي افتقدوها طويلًا، وشوق لاحتضان الأحبة الذين غيبهم الاحتلال لسنوات خلف القضبان.
في هذا الحوار الذي أجراه “نون بوست” مع صمود سعدات، ابنة الأسير أحمد سعدات، نستعرض مشاعر العائلة المتباينة بين انتظار الإفراج عن الوالدة، والقلق والترقب من تعنت الاحتلال تجاه الوالد، كما نناقش معاناة الأسرى في ظل تصاعد التضييقات داخل السجون بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ونلقي الضوء على التحديات التي عايشتها العائلة عبر سنوات طويلة من الاعتقال والحرمان، وأحلامها التي تحملها صفقة التبادل.
أنتم عائلة تُجسد قضية الأسرى بشكل كبير، فالوالد الأسير أحمد سعدات قضى عقودًا من حياته خلف القضبان، بما فيها اعتقالات سابقة قبل اعتقاله الأخير المستمر منذ أكثر من عقدين. كيف تصفين شعور العائلة مع دخول الحديث عن صفقة تبادل الأسرى حيز التنفيذ؟
بالنسبة لنا، الحديث عن صفقة تبادل الأسرى يُمثل حلمًا طالما راودنا كعائلة، أن نجتمع بعد سنوات طويلة من الفراق القسري الذي فرضه الاحتلال علينا.
الاعتقال الحالي للوالد هو الأطول من حيث عدد السنوات، إذ نتحدث عن 23 عامًا متواصلة من الغياب. خلال هذه الفترة، مررنا بالكثير من المحطات، أفراح وأحزان كان فيها الوالد بعيدًا عنا بسبب السجن.
العائلة تغيرت كثيرًا؛ كبرنا وأصبح لدينا أحفاد لا يعرفون جدهم إلا من خلال الصور أو أحاديثنا في البيت عنه. أن نفكر في إمكانية اجتماعنا مرة أخرى يُشعرنا وكأنه حلم.
لكن الشعور مختلط جدًا؛ مزيج من الفرح بقرب تحقيق هذا الحلم، والحزن على ما مر به شعبنا، خاصة في غزة، من إبادة جماعية وظلم وقهر. في النهاية، نحن جزء من هذا الشعب، وفرحنا لا يمكن أن يكون مكتملًا، لأن الألم الذي يعيشه شعبنا يظل حاضرًا. مع ذلك، تعلمنا أن ننتزع لحظات الفرح وسط المعاناة، وهذا ما نعيشه اليوم.
الوالدة المناضلة عبلة سعدات، تعرضت للاعتقال في الأشهر الأخيرة وهي مشمولة ضمن عملية تبادل المرحلة الأولى. كيف ينعكس هذا على العائلة، وهل وصلتكم أي رسائل عن وضعها داخل المعتقل؟
هذا هو الاعتقال الثالث للوالدة، لكنه الأصعب على الإطلاق. الظروف داخل السجون في ظل حرب الإبادة ووحشية الاحتلال تجعل القلق عليها أكبر، خاصة أنها متقدمة في العمر وتعاني من مشكلات صحية. كان دائمًا الخوف عليها مضاعفًا بسبب الظروف القاسية للحياة داخل المعتقلات.
مع ذلك، ما كان يخفف عنّا هي الأخبار التي تصلنا عبر الأسيرات المحررات، إذ كنّ يصفن الوالدة بأنها تتمتع بمعنويات عالية جدًا وصلابة لا مثيل لها، رغم كل ما تمر به. كانت دائمًا الضحكة حاضرة على وجهها، ومثلت الأم الحنون والحضن الدافئ لكل الأسيرات. هذا الجانب الإيجابي انعكس على صحتها النفسية رغم الأوضاع الصعبة.
بالإضافة إلى ذلك، زيارات المحامين كانت تُطمئننا بشكل دوري عن حالتها، خاصة مع انعدام زيارات العائلات للسجون وعدم تمكننا من زيارتها مباشرة. في آخر تطورات وضعها، تم تمديد أمر الاعتقال الإداري بحقها لمدة أربعة أشهر يوم 16 من الشهر الجاري. في تلك اللحظة، قلنا في أنفسنا: إذا لم تُطلق سراحها اليوم، فسيتم ذلك ضمن صفقة التبادل. نحن الآن ننتظرها بفارغ الصبر، بحجم الشوق الكبير الذي نحمله لها، خاصة من قبل الأحفاد الذين لا يتوقفون عن السؤال عنها ويعبّرون عن افتقادهم الكبير لها.
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فرضت سلطات الاحتلال تضييقات كبيرة على الأسرى داخل السجون. الوالد يعاني من مجموعة من الأمراض، هل تمكنتم من الاطمئنان على وضعه الصحي في ظل هذه الإجراءات؟ وما هي آخر المستجدات حول أوضاع الأسرى؟
السجون لم تكن بمعزل عما يحدث في غزة، فمنذ بدء العدوان على القطاع في أكتوبر/تشرين الأول 2023، تصاعدت الإجراءات الانتقامية داخل السجون كجزء من سياسة العقاب الجماعي. شملت هذه الإجراءات القمع والتعذيب والتجويع، وصولًا إلى القتل المتعمد للأسرى. تلك الأيام كانت من أصعب الفترات علينا كعائلة، خاصة أن التواصل مع الوالد انقطع تمامًا، ولم تصلنا أي معلومات عن وضعه الصحي طوال تلك الفترة. استمر ذلك الانقطاع حتى تمكن المحامي بعد أشهر من زيارته وطمأنتنا عليه وعلى حالته الصحية.
حتى الآن، زيارات المحامين ما زالت متقطعة، حيث تعمد إدارة السجون إلى إعطاء مواعيد بعيدة للزيارات، بالإضافة إلى وضع عراقيل كثيرة أمام المحامين. مثال على ذلك، الوالد لم يعرف عن اعتقال الوالدة إلا بعد شهرين من حدوثه، عبر زيارة المحامي، وهذا يوضح انقطاع الأسرى عن أخبار عائلاتهم بشكل كامل.
حاليًا، ورغم التوقف النسبي للقمع الوحشي الذي شهدناه في بداية العدوان، لا تزال الظروف الحياتية داخل السجون في وضع مأساوي. الأسرى يعانون من نقص في الغذاء والعلاج، ولا تتوفر أدنى مقومات الحياة الإنسانية. هذه الأوضاع تضيف مزيدًا من القلق علينا كعائلة، خاصة في ظل تدهور الوضع الصحي للوالد واحتياجاته الطبية المستمرة.
تتعنت سلطات الاحتلال في إطلاق سراح الأسير أحمد سعدات ضمن المرحلة الأولى، وهناك أنباء كثيرة حول تمسك الاحتلال بأن يكون مصيره الإبعاد. هل تواصلت معكم أي جهة بهذا الخصوص؟ وهل لديكم أي معلومات مؤكدة؟
حتى هذه اللحظة، لم تتواصل معنا أي جهة رسمية بشأن هذا الموضوع، ولا نملك معلومات مؤكدة حول إمكانية فرض الإبعاد على الوالد. ما نعرفه حتى الآن هو أن الوالد مشمول ضمن المرحلة الثانية من الصفقة، لكن التفاصيل الدقيقة حول الشروط التي يحاول الاحتلال فرضها، لا تزال غامضة بالنسبة لنا.
متى كانت آخر مرة رأيت فيها الوالد؟ وهل كان مسموحًا لك بالزيارة طوال فترة اعتقاله؟ وهل تمكن الأسير أحمد سعدات من رؤية أحفاده الذين ولدوا خلال فترة وجوده في السجن؟
آخر زيارة لي للوالد كانت في عام 2022، لكن طوال فترة اعتقاله لم يُسمح لي بزيارته إلا منذ عام 2019. قبل ذلك، كنت دائمًا مرفوضة أمنيًا من قبل الاحتلال، مما حرمنا من اللقاء لفترات طويلة جدًا.
أما بالنسبة للأحفاد، للأسف لم يلتقِ الوالد معهم حتى الآن. قوانين الاحتلال لا تسمح للأحفاد بزيارة الأسرى لأنهم لا يُعتبرون أقارب من الدرجة الأولى وفق التصنيفات التي يفرضها. لذلك، الوالد يعرف أحفاده فقط من خلال الأحاديث التي ننقلها له عنهم، أو من خلال الصور التي نتمكن من إيصالها عبر المحامين أو خلال زياراتنا.
بالطبع، هذا أكثر شيء يشغل تفكيرنا كعائلة. كيف سيكون لقاء الوالد مع أحفاده الذين لم يرهم أبدًا؟ وكيف ستكون مشاعرهم عندما يلتقون به لأول مرة؟ هذا اللقاء المنتظر هو حلم آخر نحمله في قلوبنا، ونأمل أن يتحقق قريبًا.
هل هناك مواقف إنسانية محددة تحضر في ذهنك مع الحديث عن اقتراب صفقة التبادل وقرب الحرية للأسير أحمد سعدات؟
المواقف الإنسانية مع الوالد لا تُعد ولا تُحصى. والدي، رغم صلابته وشجاعته في مواجهة عدوه، كان دائمًا رقيقًا وإنسانيًا في تعامله مع أحبائه. لم تمر لحظة إنسانية في حياتنا إلا وكان حاضرًا فيها بدفء كلماته ومحبته، حتى وإن كان خلف القضبان.
أتذكر مراحل حياتنا الأكاديمية، زواجنا، إنجابنا لأطفالنا، وحتى أعياد ميلادنا كأبناء، كلها كانت محطات كان الوالد فيها حاضرًا بأبويته رغم الغياب الجسدي. كذلك المناسبات التي تجمعه مع والدتي، كعيد زواجهما أو أي مناسبة عائلية أخرى، كانت دائمًا تحمل بصمته الخاصة، حتى وهو في المعتقل.
لكن أكثر موقف يحضر في ذهني الآن هو زيارتي الأخيرة له في السجن، حيث شعرت بلهفته الكبيرة للقاء الأحفاد الذين لم يرهم يومًا. أتذكر كيف كان يتحدث عن رغبته في شراء الهدايا لهم بنفسه، وكيف يخطط للقاء مليء بالفرح والدفء. طوال فترة اعتقاله، كان يطلب من والدتي أن تقتطع جزءًا من معاشه مع كل فصل دراسي، ليكون مكافأة للأحفاد على تفوقهم الدراسي. هذه التفاصيل الصغيرة تعكس إنسانيته وحرصه على أن يبقى حاضرًا في حياة كل فرد من العائلة، حتى من خلف القضبان.
هذه اللحظات الإنسانية تجعلنا نتوق أكثر للحرية، لأنها تمثل بالنسبة لنا العودة الحقيقية للحياة العائلية التي افتقدناها لسنوات طويلة.
رسالة أخيرة: مع دخول التهدئة وعملية التبادل حيز التنفيذ
لأهلنا في غزة الحبيبة، أبعث كل التحية والفخر بصمودكم وثباتكم في وجه الدمار وحرب الإبادة التي واجهتموها بكل قوة وصلابة وتماسك. أنتم نموذج يُحتذى به في الإرادة والصبر، أطفال غزة الذين ما زالت الابتسامة ترتسم على وجوههم رغم مشاهد الموت والدمار التي عاشوها، هم أبطال حقيقيون، فما من طفل في العالم يستطيع تحمل ما تحمله أطفال غزة.
إلى شبابها ونسائها وكبارها الذين لم يفقدوا الأمل رغم فقدانهم الكبير لأحبتهم الشهداء وبيوتهم المدمرة، أقول إنكم رموز للعزيمة والإصرار.
غزة كانت وستظل عصية على الكسر، ورغم الجراح والآلام الكبيرة التي أصابت كل بيت فيها، فإنني على ثقة بأنكم قادرون على النهوض من جديد، كما فعلتم دائمًا. غزة هي رمز الثبات والصمود في وجه الطغيان والعدوان.
المجد للشهداء الذين ضحوا بدمائهم ليبقى الوطن حرًا، والشفاء العاجل للجرحى الذين يحملون على أجسادهم آثار العدوان، والحرية لأسرى الحرية الذين ينتظرون بفارغ الصبر يوم عودتهم إلى أحضان عائلاتهم.
غزة هي نبض الوطن، ودرع الأمة، وستظل مصدر فخر لنا جميعًا.