يُوصف الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي الذي توفي، الخميس، بعد وعكة صحية ألمت به قبل بضعة أشهر من انتهاء ولايته، بالسياسي المخضرم كونه شغل مناصب عليا في الدولة منذ الاستقلال، وأصبح أول رئيس منتخب ديموقراطياً في عام 2014 بعد ثلاث سنوات على الثورة، إضافة لامتلاكه وفق مقربين منه، “ذكاءًا سياسيًا حادًا وبراغماتية استثنائية”.
ويمتلك قائد السبسي (92 عامًا) الذي يعد أكبر رئيس دولة يتولى مهامه بعد ملكة بريطانيا اليزابيت الثانية، خبرة سياسية واسعة مكنته من نيل منصب رئيس حكومة انتقالي عام 2011 في فترة حساسة تمر بها البلاد آنذاك، والوصول بها إلى انتخابات المجلس الوطني التأسيسي التي فازت بها “حركة النهضة” الإسلامية، ليفوز بعدها بالرئاسة في الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية التي أجريت في 23 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2014، متغلبًا على منافسه المنتهية ولايته محمد المنصف المرزوقي، نسبة 55,68% من الأصوات.
شيخان خطا الاستقرار
وعقب دخول القائد السبسي إلى قصر قرطاج، أيقن الخبير بالساحة السياسية التونسية وتناقضاتها وخباياها أن استقرار البلاد لا يكون سوى بالتعايش السلمي وتوافق القوى السياسية، متراجعًا عن تصريحه السابق بأنّ “النداء (حزب الباجي) وحركة النهضة عبارة عن خطين متوازيين لا يلتقيان إلا بإذن الله، وإذا التقيا فلا حول ولا قوة إلا بالله”، وقال إنّ “مصلحة تونس هي التي اقتضت التوافق، وصنعت التقاطع”.
قال رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي ناعيًا السبسي: “رحل في ذكرى عيد الجمهورية التي قدم لها الكثير وكانت له مساهمات مقدرة في بناء الجمهورية الثانية”
ويرى مراقبون أنّ تونس، بعد انتخابات 2014 قادها “الشيخان”، في إشارة إلى السبسي وراشد الغنوشي، وهو نتاج لاتفاق عقد في لقاء سري جمعهما في العاصمة الفرنسية باريس منتصف أغسطس/ آب 2013.
وقال رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي ناعيًا السبسي: “رحل في ذكرى عيد الجمهورية التي قدم لها الكثير وكانت له مساهمات مقدرة في بناء الجمهورية الثانية”، مضيفًا “أصبنا بمحنة ومصاب عظيم بفقدان البلاد قائدها، وعمدة من أعمدة النظام الجمهوري والدولة جمع بين التأسيس للدولة ثم دمقرتطها”، متابعًا: “السبسي يتمتع بحكمة جنّبت تونس الصدام بين نداء تونس والنهضة، وجعلت حكمته الخطين المتوازيين يلتقيان، ووضع تونس في سكة الديمقراطية”.
ورغم ضغوط وإغراءات عديدة حاولت زعزعة تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، وفق تقارير إعلامية تحدثت عن “قوى معادية لثورات الربيع العربي” (الإمارات والسعودية)، وقوى محلية “استئصالية” (حزب الجبهة الشعبية اليساري)، إلا أن السبسي لم يتخل عن خيار التعايش، وتجنيب البلاد صراعات شبيهة بتلك التي عصفت ببلدان قريبة (ليبيا ومصر).
المحامي السابق لم يخرق القانون واتبع الإجراءات المعمول بها دون أن يفرض أجندته الحزبية، حيث بقي مشروع المساواة رهين رفوف البرلمان
وكان الإعلامي التونسي سفيان بن فرحات كشف في وقت سابق، أثناء مداخلته على قناة نسمة، أن الرئيس التونسي الباجي القائد السبسي أعلمه في لقاء خاص، أن دولة الإمارات طلبت منه إعادة سيناريو مصر وإزاحة حركة النهضة (إخوان) للإيفاء بتعهداتها المالية لتونس، إلا أن الأخير رفض ذلك وفضل سياسة الحوار والتوافق، لتفادي الحرب الأهلية بالبلاد وإراقة الدماء.
السبسي والقانون
رغم مآخذ شق من التونسيين على أداء السبسي الرئيس وقراراته التي أثارت جدلاً واسعًا في البلاد، ومنها دعمه لمشروع قانون غير مسبوق في العالم العربي يضمن المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، اُعلن عنه في أغسطس (آب) الماضي، وإلغاؤه مرسومًا يمنع زواج التونسية المسلمة من غير المسلم، ومحاولة “توريث” السلطة لنجله حافظ قائد السبسي (ينفي ذلك مع إصراره على أحقية أي تونسي الترشح)، ورغبته في السنوات الأخيرة من عهدته الانتخابية في تنقيح الدستور وخصوصاً فيما يتعلق بالنظام السياسي المتبع في بالبلاد، وجعله نظامًا رئاسيًا يمنح للرئيس سلطات إضافية، إلا أنّ المحامي السابق لم يخرق القانون واتبع الإجراءات المعمول بها دون أن يفرض أجندته الحزبية، حيث بقي مشروع المساواة رهين رفوف البرلمان، وحُكم عليه بالفشل بحسب ما أقر به بعض نواب حزب نداء تونس الذين سعوا لتمريره.
وفي مظهر آخر لاحترام السبسي للقانون، ألزم القضاء في وقت سابق، الرئيس السبسي، بدفع غرامةٍ مصاريف وأتعاب التقاضي، بعد خسارته قضية رفعها ضد مواطن (المدون عماد دغيج) اتهمه فيها بالتحريض على رئيس الدولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، في سابقة لم يعرف لها مثيل عربياً وحتى دولياً، ما دفع سياسيين للإشادة مجدداً بعملية الانتقال الديمقراطي التونسي.
عقب انتشار نبأ وفاة “البجبوج” كما يحلو للتونسيين مناداته في الشارع كما في وسائل الإعلام (دون اعتراض منه)، استنكر التونسيون التغطية الإعلامية لبعض القنوات العربية والأجنبية على غرار العربية وفرانس 24، ووصفوها بأنها تهدف إلى تقويض الاستقرار وزعزعة الأمن
كما وجهت إليه هيئة الحقيقة والكرامة المكلفة بالتحقيق في جرائم تخص تجاوزات حقوق الإنسان، في نيسان (أبريل) الماضي، تهمة بكونه كان على علم بممارسات تعذيب طالت معارضين بصفته مديرًا للأمن ثم وزيرًا للداخلية في تلك الفترة، وخاصة قضية اليوسفيين (المعارض صالح بن يوسف) أو ما يُعرف بانقلاب 1962 ضد نظام الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.
لا لبيان رقم1
عقب انتشار نبأ وفاة “البجبوج” كما يحلو للتونسيين مناداته في الشارع كما في وسائل الإعلام (دون اعتراض منه)، استنكر التونسيون التغطية الإعلامية لبعض القنوات العربية والأجنبية على غرار العربية وفرانس 24، ووصفوها بأنها تهدف إلى تقويض الاستقرار وزعزعة الأمن، من خلال تعمد نقل صور مغايرة للواقع والترويج لأزمة مفتعلة كـ”الفراغ سياسي وحالة الشغور، ومستقبل تونس بعد رحيل الباجي”.
وفي ذات السياق، أكّد الصحافي وليد الماجري، في تدوينة نشرها على موقع فيسبوك، أن إحدى القنوات العربية المعروفة استضافته للتدخّل هاتفيًا في المباشر والتعليق على مواضيع على علاقة بوفاة الرئيس وتداعيات ذلك على انتقال السلطة، قائلاً: “يبدو أنّ كلامي لم يعجب أهل القناة فقطعوا الخطّ، كانوا يريدون أن يسمعوا منّي كلامًا من قبيل: تونس في خطر ومستقبلها يلفّه الغموض، شكوك حول امكانية أن يكون الرئيس قد أغتيل بالسم، العسكر يتهيّأ للانقضاض على الحكم، نشر القوات الأمنية والعسكرية في الشوارع وفرض حظر التجوال، إمكانية تعليق العمل بالدستور استعدادا للبيان رقم واحد، الإسلاميون يسيطرون على مؤسسات الدولة ويرفضون نقل السلطة لرئيس البرلمان.
تباهى التونسيون على مواقع التواصل الاجتماعي بالانتقال السلس للسلطة بعد إعلان رحيل رئيسهم، مستعرضين التسلسل الزمني السريع للأحداث
من جانبه، نشر الصحفي يوسف الوسلاتي تدوينة اتهم فيها قناة عربية بمحاولة إثارة الفتنة وتأجيج انقسام التونسيين وجاء فيها: “العربية الحدث قطعت الاتصال بي بمجرد ان تحدثت عن سيناريو الانتقال السلمي للسلطة وفق الدستور، حين قلت إنه ليس للبلاد مشكلة بفضل دستورها ومجتمعها المدني، ما أتعسكم، وما أقبح حقدكم، سأستعمل كلمة لم يسبق وأن نطقت بها في هذا الفضاء، ما أوسخكم أولاد (كلمة نابية)”.
رسائل الثورة تعود
من جهة أخرى، تباهى التونسيون على مواقع التواصل الاجتماعي بالانتقال السلس للسلطة بعد إعلان رحيل رئيسهم، مستعرضين التسلسل الزمني السريع للأحداث، من الوفاة السبسي وإعلانها إلى تولي رئيس البرلمان محمد الناصر رئاسة الجمهورية، ثم إعلان رئاسة الحكومة تُعلن الحداد بـ7 أيام، ليليها إعلان هيئة الانتخابات تقديم موعد رئاسيات تونس إلى 15 سبتمبر المقبل، وأداء رئيس مجلس الشعب القسم، قائلين: ” نعم حدث هذا في بلد عربي يوم 25 يوليو 2019″.
ومن التدوينات التي لاقت رواجًا على موقع “فيسبوك”: “جماعة الإمارات والسعودية نعرف اللي الريتم قوي عليكم، انتم مازلتو مجتمعتوش وأحنا نصبنا رئيس… وتفاهمنا على الانتخابات” (جماعة الإمارات والسعودية نعلم أن الإيقاع أسرع منكم، أنتم لم تجتمعوا بعد ونحن نصبنا رئيسًا، وحدّدنا موعد الانتخابات)، وذلك في إشارة لتدخل الدولتان في الشؤون الداخلية للبلاد.
قال عضو المكتب السياسي لحركة النهضة عبد الله الخلفاوي: “ما أجمل الموت في حضن الديمقراطية رحيل الباجي عبرة للدكتاتوريات العربية، رحل وهو رئيس لجمهورية ديمقراطية حاز قيادتها بالاختيار الشعبي الحر والشفاف دون تزييف ولا تخويف”
بدوره، غرّد الأكاديمي والباحث التونسي المقيم في فرنسا، محمد هنيد، التالي: “شهادة أمام الله لقد هاجمت المرحوم الباجي قائد السبسي وانتقدته بحدّة فلم يتعرض لي ولا هاجمني ولا أرسل من يقطعني بواسطة منشار في قنصلية”، (حادثة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بتركيا).
وقال عضو المكتب السياسي لحركة النهضة عبد الله الخلفاوي: “ما أجمل الموت في حضن الديمقراطية، رحيل الباجي عبرة للدكتاتوريات العربية، رحل وهو رئيس لجمهورية ديمقراطية حاز قيادتها بالاختيار الشعبي الحر والشفاف دون تزييف ولا تخويف، ومهما اختلف فيه الناس (..) يخرج من دنيا التونسيين محترما لا كما يخرج المستبدون من قصورهم إلى قبورهم وروح الشماتة تملأ أنفس شعوبهم، تونس ستكون لكم نموذجا حتى في جمال الوداع”.
من جانبه قال رئيس مركز دراسة الإسلام والديمقراطية رضوان المصمودي في تصريح لـ”نون بوست”، إن “تونس بخير والانتقال الديمقراطي سار بشكل طبيعي، ليس هناك أيّ فراغ دستوري أو قانوني، فخورون بالسلاسة والسهولة التي تمّ بها تطبيق القانون والدستور وهي ميزة تتصف بها الأنظمة الديمقراطيّة، ما شهدته البلاد لا يقع أبدًا في الأنظمة المستبدّة التي تعتمد على أشخاص، حيث تحدث الأزمات لمجرّد مرض حكامهم وأمراءهم أو بوفاتهم”.
إلى ذلك، يرى السواد الأعظم من التونسيين أنّ التاريخ سيكتب أن الرئيس الباجي قائد السبسي لم يضع البلاد وشعبها في مزادات المحاور الإقليمية، ورغم أخطائه وزلاته التي تناساها خصومه وألد أعداءه (سياسيًا) بموته، كما عبّر عن ذلك الرئيس التونسي السابق محمد المنصف المرزوقي بقوله: “”في هذه الظروف الدقيقة في حياة شعبنا المطلوب منا جميعًا في هذه الظروف تناسي كل ما يفرقنا، والموت يلغي كل الخصومات”، والجدل الذي رافق مساره السياسي، خاصة وأنّ مؤيديه يرونه رجل دولة سليل “البورقيبية”، فيما يعتبره معارضوه امتدادًا لحقبة الاستبداد ورمزًا لـ”ثورة مضادة”، إلاّ أنه جنب تونس مهد الربيع العربي الانزلاق إلى الفوضى، وعمل مع شركائه (النهضة و بقي الأحزاب ومكونات المجتمع المدني)، على إرساء مثال فريد لنموذج دولة ديمقراطية يتعايش فيها الإسلاميون و العلمانيون وبقايا النظام السابق و المكونات الثورية.