رغم المساعي الحثيثة التي تبذلها الإدارة السورية لتشكيل جيش سوريا الجديد عبر انخراط جميع الفصائل العسكرية المعارضة للنظام السابق في مؤسسة عسكرية واحدة، فإن المهمة تبدو صعبة للغاية، وتعترضها مجموعة تحديات ومعوقات تعرقل حصر السلاح بيد الدولة.
طالما أكد، قائد الإدارة العامة السورية، أحمد الشرع، نيته في توحيد الفصائل العسكرية السورية لتكون نواة تشكيل جيش سوريا الجديد، محددًا الأطر العامة التي تتمثل في تسليم السلاح، وحل الفصائل بما فيها هيئة تحرير الشام، ودمجها في مؤسسة عسكرية تحت مظلة وزارة الدفاع السورية.
ويحظى الشرع بدعم من الدول الفاعلة في الشأن السوري، بهدف تنفيذ خطة تشكيل جيش سوريا الجديد الذي يعد أحد أولوياته في المرحلة القادمة لاكتساب الشرعية الداخلية، من خلال حصر السلاح بيد الدولة، وانضواء جميع الفصائل تحت مظلة عسكرية، والحد من عمليات العنف.
لكن خطوة الوصول إلى اتفاق يرضي كل الفصائل العسكرية لن تكون بهذه السهولة، بسبب وجود مقاتلين أجانب، وتعدد الجهات الداعمة للفصائل العسكرية، والارتباطات الإيديولوجية القومية والطائفية، ما يعرقل الوصول إلى مرحلة تأسيس نواة الجيش، فما إمكانية تجاوز التحديات والمعوقات للوصول إلى مؤسسة عسكرية سورية موحدة؟
الفصائل العسكرية
قبل الحديث عن التحديات لا بد من معرفة الفصائل العسكرية في سوريا خلال المرحلة الراهنة، لمعرفة سياق وجودها وارتباطاتها الداخلية والخارجية، والأبعاد القومية والطائفية، والقدرات العسكرية ومناطق الانتشار من الناحية الجغرافية، والموقف من الإدارة السورية الجديدة في دمشق.
تعد هيئة تحرير الشام من أقوى الفصائل التي قادت معركة سقوط النظام البائد في عملية ردع العدوان، وتتكون من 20 ألف مقاتل بينهم أجانب، ويملكون خبرات عسكرية متفاوتة، تندرج ضمن 12 لواء بينهم 6 ألوية مقاتلة، وألوية بمهام مختلفة أمنية، إدارية، عسكرية، كانت تسيطر على محافظة إدلب شمال غربي سوريا، لكنها تواجه تيارين الأول براغماتي يمثل توجهات أحمد الشرع والثاني أكثر تشددًا قد يصعّب مرحلة الاندماج.
إلى جانب تحرير الشام، كان هناك وجود عسكري فقط لعدة فصائل من الجيش السوري الحر، مثل جيش العزة الذي يقدر قوامه بين 800 و1000 مقاتل محلي، خاصة من أرياف حماة، إضافة إلى مجموعات وكتائب عسكرية أجنبية من جنسيات مختلفة، الألبانية والشيشيانية والإيغورية، ضمن الحزب الإسلامي التركستاني، وجميعها شاركت في عملية ردع العدوان، وحظيت قياداتها بمراكز قيادية ضمن قوائم الترفيعات التي شملت وزير الدفاع الجديد مرهف أبو قصرة.
بينما في ريف حلب الشمالي والشرقي، تسيطر فصائل الجيش الوطني السوري، وتتلقى دعمًا عسكريًا من تركيا، ويتكون الجيش من مقاتلين سوريين محليين من الجيش السوري الحر، ويتراوح عددهم بين 80 و100 ألف بعد انضمام الجبهة الوطنية للتحرير، وألوية من حركة نور الدين الزنكي، في إدلب وغرب حلب إلى الجيش الوطني في عام 2019، وتتخذ الفصائل السابقة مواقف متفاوتة من إدارة دمشق، لكنها في الوقت ذاته لا تعارض الاندماج ضمن مؤسسة عسكرية تحت مظلة وزارة الدفاع.
أما في الجنوب السوري، توجد فصائل عسكرية منضوية في غرفة عمليات الجنوب تتكون من 30 ألف مقاتل، أعلنت عملها تحت إدارة العمليات العسكرية إبان سقوط النظام البائد، وتتكون من فصيلين عسكريين في محافظة درعا، اللواء الثامن (فصيل شباب السنة) الذي خضع لتسوية خلال عام 2018 وكان يتلقى دعمًا روسيًا، لكنه للآن لم يظهر موقفه من الاندماج بشكل رسمي ضمن المؤسسة العسكرية، إضافة إلى تجمع أحرار حوران، وهو بقايا عناصر الفصائل التي خضعت للتسوية، لكنها أبقت على موقفها من النظام البائد، وتوافق رؤية إدارة دمشق في تسليم السلاح والاندماج في الجيش السوري الجديد.
في محافظة السويداء، يوجد فصيلان عسكريان محليان، هما كل من لواء الجبل وقوات شيخ الكرامة، ورغم الشائعات حول عدم رغبتهما في حل الفصائل والاندماج في جيش سوريا الجديد، فإنهما أكدا إمكانية الاندماج ضمن جسم عسكري يشكل نواة الجيش السوري الجديد، دون الارتباطات الطائفية والقومية والعرقية.
في منطقة مثلث الحدود السورية العراقية الأردنية الـ55 يسيطر فصيل جيش سوريا الحرة، المدعوم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، ويصل عدد قواته إلى 500 مقاتل سوري، حصلوا على تدريبات من قبل قاعدة التنف الأمريكية، إلا أن قائد الفصيل، سالم العنتري، لم يجتمع مع الشرع مثل باقي الفصائل، بينما أبدى استعداده للانضمام إلى جيش سوريا الجديدة.
وفي مناطق شمال شرقي سوريا، تسيطر قوات سوريا الديمقراطية “قسد” التي تتكون من قرابة 50 ألف مقاتل من الأكراد والعرب والأشوريين، ويهيمن عليها الأكراد ضمن “حزب العمال الكردستاني PKK”، وتحظى بدعم من التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، إلا أنه للآن لم تتضح صورة العلاقة بين “قسد” وإدارة دمشق، بسبب عدم توصلهما إلى نتيجة خلال الاجتماع الذي وضعت فيه “قسد” شروطًا وصفت بالتعجيزية تهدف إلى تحقيق مكتسبات اقتصادية وإدارية تخالف الأطر العامة التي حددتها إدارة دمشق لتشكيل الجيش السوري الجديد.
تحديات تشكيل الجيش
التقى قائد الإدارة العامة، أحمد الشرع، بعد سقوط النظام البائد، غالبية قادة فصائل الجيش الوطني، وقادة غرفة عمليات الجنوب في محافظتي درعا والسويداء، في سياق خطوات الإدارة لتشكيل جيش سوريا الجديد، دون لقاء مباشر مع قائد ميليشيا “قسد”، مظلوم عبدي، ما يشير إلى اختلاف الرؤية وعدم وضوح مصير “قسد” خلال المرحلة المقبلة.
ويواصل وزير الدفاع في حكومة تصريف الأعمال السورية، مرهف أبو قصرة، الاجتماعات الدورية مع قادة الفصائل العسكرية لبحث خطط تسليم السلاح وحل الفصائل، دون وجود تقدم ملحوظ على المستوى العملي في ظل استمرار وجود الكيانات الفصائلية، ما يشير إلى وجود تحديات ومعوقات تعرقل خطوات تأسيس الجيش الذي تسعى له إدارة دمشق.
يرى الباحث في مركز الحوار السوري، أحمد قربي، أن تحديات كثيرة تواجه إدارة الشرع في الوصول إلى تشكيل جيش سوريا الجديد، لكنها تختلف من فصيل إلى آخر، من حيث الإيديولوجيا، الدعم الخارجي، الأبعاد القومية، الطائفية، المناطقية، المكاسب الاقتصادية والسياسية، والثقة المتبادلة، والمناصب القيادية.
وقال قربي خلال حديثه لـ”نون بوست”: إن “التحدي الأبرز ضمن هيئة تحرير الشام نفسها، كونها تقسم إلى تيارين أساسيين، الأول يعتمد البراغماتية وقريب من نهج الشرع، والثاني، مرتبط بالتشدد والإيديولوجيا العالية، إضافة إلى وجود مقاتلين أجانب ضمن هيكلتها الأساسية ومجموعات مستقلة”.
ويضيف أن الإيديولوجيا تغيب لدى فصائل الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، لكنها تحكم بالدعم والتأثير الخارجي، والشبكات الاقتصادية القائمة، والأبعاد المناطقية، والمكاسب الشخصية لقادتها، وتبادل الثقة، وهذا ما شكل حربة الاقتتال الفصائلي خلال السنوات الماضية، ما يصعب حالة الانفكاك للوصول إلى مرحلة الدمج ضمن مؤسسة عسكرية موحدة.
وتابع أن التحديات لدى فصائل درعا لا تختلف كثيرًا، لكنها ترتبط بالدعم الخارجي بالدرجة الأولى لا سيما لدى اللواء الثامن، وبالتالي يبدو الأمر معقدًا من حيث تأثير الدعم الخارجي على القرارات الداخلية للفصيل، بينما لدى فصائل السويداء، ترتبط التحديات بالطائفية والمناطقية، وهذا يشكل عثرة أمام الوصول إلى حالة الحل والاندماج الكامل ضمن مؤسسة وطنية.
ويبدو أنه لا يمكن تجاوز التحديات والعقبات التي تقف أمام مشروع تأسيس جيش سوريا، إلا بالوصول إلى حل يرضي كل الأطراف، فعلى الرغم من الموافقة الضمنية لفصائل الجيش الوطني السوري وفصائل الجنوب السوري، فإن قادتها يبحثون عن الثقة في إدارة دمشق، والمكاسب الاقتصادية والسياسية والقيادية في مستقبل سوريا.
يعتقد الباحث، قربي، أن التحديات مجتمعة في تشكيل “قسد” ما يجعلها الأكثر تعقيدًا، حيث يبرز فيها الارتباط والتأثير الخارجي، والتواصل مع دول إقليمية، والإيديولوجيا العابرة للحدود، ووجود عناصر أجانب، ومشروع حكم قائم وليس مجرد فصيل، ووجود موارد اقتصادية مهمة، والبحث عن مكتسبات اقتصادية وسياسية، والحكم الذاتي، والقومية العرقية.
رغم ذلك لا تزال تحديات اندماج “قسد” أكثر قلقًا لدى إدارة دمشق، ما يعرقل الوصول إلى حل للاندماج، لأنها على اشتباك مباشر مع فصائل الجيش الوطني المدعوم من تركيا، التي تصنفها على قوائم الإرهاب بسبب ارتباطها بحزب العمال الكردستاني، وسعيها الدؤوب لتأسيس كيان مستقل في شمال سوريا، ورغم تخليها عن الخطوط العريضة فإن مصيرها لا يزال غامضًا.
إمكانية تشكيل الجيش
منذ نشأتها، أثبتت هيئة تحرير الشام التي تتقلد سلطة الحكم في الإدارة السورية الجديدة، بقيادة أحمد الشرع، قدرات على موازنة التغيرات البراغماتية المناسبة للمراحل التي مرت بها من خلال ابتلاع الفصائل العسكرية، والقضاء على الفصائل المرتبطة بالقاعدة، بشكل تدريجي رغم صعوبة ذلك في إدلب، ما يمنحها القدرة على خلق نوع من التوافق بين الفصائل التي تحتاج إلى الثقة بالدرجة الأولى للانخراط في جيش سوريا الجديد وفق المحددات التي وضعها الشرع.
لكن في الوقت ذاته، تجد هيئة تحرير الشام صعوبة في الوصول إلى مبتغاها على مستوى الجغرافيا السورية وتعدد الفصائل والارتباطات الخارجية والأبعاد الإيديولوجية والمناطقية والطائفية والقومية، ما يعني أنها تحتاج إلى تجاوز كل تلك التحديات حتى تصل إلى مرحلة الانصهار في مؤسسة عسكرية.
يرى الباحث قربي، أن إمكانية الاندماج تصبح حقيقية مع انعدام التدخلات الخارجية، لأن كل التجارب السابقة في اليمن وليبيا والسودان، أثبتت أن التدخلات الخارجية تتسبب في إعادة إنتاج الفصائل الرافضة للاندماج ضمن فصائل جديدة خارج إطار الدولة، ما يعمق فجوة العلاقة ويثبط خطوات تأسيس الجيش.
وقال قربي إن: “التعويل على عدم التدخل الخارجي، وتغليب الكفاءة على الولاء والشفافية والعدالة بين الفصائل من خلال تطبيق آليات القرارات على الجميع دون منح امتيازات لفصيل عن آخر”.
وأضاف أن الابتعاد عن القومية العرقية، والخصوصية المناطقية والطائفية، لأنها تُدخل خطوات بناء وتأسيس الجيش في دوامة لها أول وليس لها آخر، وبالتالي إعادة الاختلافات الفصائلية، وبالتالي زيادة العنف وعدم الاستقرار.
وأوضح أن مرحلة اندماج الفصائل تحتاج إلى مؤسسات اقتصادية في الدولة، لأنها من الممكن أن تكون نوعًا من جوائز الترضية للأشخاص الذين لا يرغبون في الاندماج، لا سيما قادة الفصائل، وبالتالي تحييدهم عن العمل العسكري ووضعهم ضمن برامج اندماج محددة، لكن الاقتصاد السوري ضعيف، وبالتالي لا توجد مناصب اقتصادية أو أجهزة ضمن الدولة، التي ممكن أن تشكل بديلًا مقنعًا للاندماج ضمن الجيش.
وبناءً على التجارب السابقة لهيئة تحرير الشام فإنها ترفض انضمام الفصائل إلى مؤسسة عسكرية موحدة بكامل قوتها وقادتها، كما فعلت عندما أعادت هيكلة قواتها في إدلب عام 2020، ومن خلال ذلك يبدو واضحًا أنها تسعى إلى ضم العناصر كأفراد وكتائب ضمن مكونات الجيش الجديد، ما يقلل الولاءات الفصائلية والمناطقية والطائفية والقومية في المستقبل القريب، التي ممكن أن تسبب خللًا أمنيًا في قرارات الدولة.
في الختام.. يبدو أن محددات تحرير الشام لتشكيل الجيش لا ترضي كل الأطراف التي تسعى إلى إيجاد امتيازات ومكاسب اقتصادية، بناءً على علاقاتها وارتباطاتها ورؤيتها الإيديولوجية كما هو الحال لدى “قسد”، بينما لدى فصائل الجيش الوطني التي تسعى للحصول على امتيازات قيادية ضمن الجيش الجديد دون التخلي عن مناصبها، وهذا أبرز ما يثقل خطوات التقدم في مسيرة بناء الجيش خلال المرحلة القادمة، فكيف ستتجاوز إدارة دمشق تحديات تأسيس الجيش؟