ترجمة وتحرير: نون بوست
سادت حالة من الصدمة والذهول في كثير من الأوساط العربية خلال الأسابيع الأخيرة إزاء حملة القمع الوحشية التي أطلقت عليها السلطة الفلسطينية اسم “حماية الوطن” ضد المقاومين الفلسطينيين للاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية.
وأدى فشل الحملة إلى تدخل الإسرائيليين مرة أخرى هذا الأسبوع بقصف مخيم جنين للاجئين، مما أسفر عن مقتل حوالي 12 فلسطينيًا.
وقبل الغارات الإسرائيلية، كانت قوات السلطة الفلسطينية قد قتلت ما لا يقل عن 10 فلسطينيين من بينهم طفلان، وأصابت العديد من الفلسطينيين الآخرين. كما قامت باعتقال وتعذيب العشرات، وتسليم العديد منهم إلى قوات الاحتلال الإسرائيلي، وأحرقت المنازل ودمرت الطرقات.
تستمر السلطة حاليًا بمحاصرة مخيم جنين للاجئين، الذي تعرض لهجوم إسرائيلي فاشل ضد المقاومة في المخيم قبل أن تنطلق الحملة الحالية التي تشنها السلطة الفلسطينية.
وقد ارتكب الإسرائيليون مجزرة في المخيم عام 2002 بهدف تدمير المقاومة، وقتلوا العشرات.
تحاكي السلطة الفلسطينية دون خجل الممارسات التي دأبت عليها إسرائيل؛ حيث تمنع إيصال الغذاء والدواء إلى سكان المخيم.
كما أنها قتلت الصحفية الفلسطينية الشابة شذى الصباغ (وهو ما تنفيه السلطة الفلسطينية رغم أن عائلة الصحفية الشابة تتهم السلطة بقتلها)، واعتقلت الطبيب الذي يشرف على قسم الطوارئ في مستشفى جنين، قاسم بني غُرة، الذي يتعرض حاليًا للتعذيب.
رغم استقالة بعض المسؤولين في منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية احتجاجاً على العملية، يواصل مرتزقة السلطة الفلسطينية شن حملة قمعية جديدة في نابلس وطولكرم بدعم من جيش الاحتلال الإسرائيلي.
هذا الأمر ليس جديدا، فقد أُنشئت السلطة الفلسطينية على يد إسرائيل وياسر عرفات في أعقاب اتفاقات أوسلو كجهاز قمعي ينوب إسرائيل في قمع أي مقاومة للاحتلال الإسرائيلي، وهي مهمة لم تتوانَ السلطة عن القيام بها.
قمع وحشي
إحدى أشهر عمليات القمع الوحشي الذي تمارسه السلطة الفلسطينية كان اختطاف المعارض الفلسطيني نزار بنات وتعذيبه وقتله على يد قواتها الأمنية في عام 2021، وقمع أي مظاهرات سلمية ضد تعاونها مع إسرائيل.
يلقي الكثيرون باللوم على رئيس السلطة الفلسطينية غير المنتخب محمود عباس في هذا القمع باعتباره المحرض الأول، ويشيرون إلى دفاعه عن “التنسيق الأمني” بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل باعتباره “مقدسًا“، لكنهم يتناسون سجل عرفات في قمع المقاومين الفلسطينيين منذ وصوله إلى غزة عام 1994.
ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 1994، قتلت شرطة عرفات ما لا يقل عن 13 فلسطينيًا أعزل، وأصابت 200 آخرين بسبب تظاهرهم ضد اتفاقات أوسلو.
وفي أوائل عام 1995، أشاد نائب الرئيس الأمريكي السابق آل غور بياسر عرفات أثناء زيارة لغزة، على خلفية إنشاء محاكم عسكرية لمحاكمة الفلسطينيين المعارضين لأوسلو.
وأعقب اتفاقات أوسلو اتفاق القاهرة في مايو/ أيار 1994، والذي أنشأ قوة أمنية فلسطينية قوامها 9000 فرد مهمتها الرئيسية “العمل على منع الإرهاب ضد الإسرائيليين في المناطق الخاضعة لسيطرتها”.
وتم تجديد هذا الترتيب ”الأمني“ وتوسيع نطاقه في اتفاق أوسلو الثاني في سبتمبر/ أيلول 1995، الذي احتُفل به في واشنطن العاصمة، وباركه الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون وسفير الاتحاد الأوروبي الذي ترأس الحفل؛ حيث أسند نظام الفصل العنصري الإسرائيلي “مسؤولية النظام العام والأمن الداخلي” إلى الشرطة الفلسطينية فيما أُطلق عليه “المنطقة أ” من الضفة الغربية.
نفاق الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة
قامت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بتمويل هذه القوة القمعية وتدريبها واستمرت في ذلك. وعندما قُتل نزار بنات في 2021، أعرب الاتحاد الأوروبي عن “صدمته وحزنه”، بينما قالت وزارة الخارجية الأمريكية إن واشنطن “منزعجة”، وأضافت: “لدينا مخاوف جدية بشأن القيود التي تفرضها السلطة الفلسطينية على ممارسة الفلسطينيين لحرية التعبير وقمع النشطاء ومنظمات المجتمع المدني”.
لكن هذه المرة، لم تعرب الولايات المتحدة ولا الاتحاد الأوروبي عن “الصدمة” أو “الانزعاج” من القمع والقتل الذي تمارسه السلطة الفلسطينية بتمويل ودعم أوروبي وأمريكي.
- رجل ينظر إلى منزل مدمر خلال مداهمات عنيفة نفذتها قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية في مخيم جنين للاجئين في الضفة الغربية المحتلة، في 8 يناير/ كانون الثاني 2025.
في ضوء الدور المحوري الذي تلعبه كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في التحريض على الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة، يبدو أنهما تخلّتا عن نفاقهما السابق.
خلال حصارها المستمر منذ أسابيع لمخيم جنين للاجئين، طلبت السلطة الفلسطينية المزيد من الأموال الأمريكية لتدريب مرتزقتها على قمع الشعب الفلسطيني. في منتصف ديسمبر/ كانون الأول، طلبت السلطة الفلسطينية 680 مليون دولار “لتعزيز تدريب قواتها الخاصة وتعزيز إمداداتها من الذخيرة والمركبات المدرعة”.
وفي هذه الأثناء، ضغط الأمريكيون على الإسرائيليين لإمداد السلطة الفلسطينية ببنادق الكلاشينكوف والذخيرة والسيارات المدرعة لمواصلة القمع، لكن الإسرائيليين رفضوا ذلك رغم دعمهم للقمع.
لم يكن هناك ندرة في المتعاونين مع المحتلين الأجانب منذ بدأ الاحتلال البريطاني لفلسطين في ديسمبر/ كانون الأول 1917، وهذا الأمر ليس خاصًا بفلسطين.
هذه القاعدة تنطبق على جميع الدول المحتلة؛ حدث ذلك في نيوزيلندا والجزائر وتونس والمغرب وكينيا، وفي جنوب أفريقيا وروديسيا وناميبيا وأنغولا وموزمبيق وإندونيسيا، وفي الهند وكوريا وفيتنام وسوريا والعراق والأردن ومصر والفلبين وماليزيا وغيرها.
غزة ما بعد حماس
نظرًا لتصاعد الاستيطان الصهيوني والإبادة الجماعية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، فإن الولايات المتحدة، الراعي الأول للفصل العنصري والإبادة الإسرائيلية، تعيد حساباتها بشأن الطرف الأنسب من بين المتعاونين الفلسطينيين الذين يعرضون خدماتهم على إسرائيل والولايات المتحدة لمواصلة مهمة قمع المقاومة الفلسطينية.
وقد أثارت عملية إعادة التقييم الذعر في أوساط السلطة الفلسطينية التي تبذل قصارى جهدها لإقناع إدارة دونالد ترامب القادمة بقدرتها على إنجاز المهمة.
مع ذلك لا يزال ترامب، مثل الرئيس جو بايدن، مترددا ويفكر في خطط أخرى، بما في ذلك تهميش السلطة الفلسطينية تمامًا لصالح الإمارات العربية المتحدة والفلسطينيين المتحالفين معها.
ولا يبدو أن هناك اتفاقًا نهائيًا حتى الآن بين مختلف النخب الأمريكية وصنّاع القرار في الولايات المتحدة حول الطرف الفلسطيني الأفضل للقيام بالمهمة، وأي دولة أو دول عربية ستكون الأفضل للإشراف على الأمر، بجانب الولايات المتحدة وإسرائيل.
هناك العديد من الخيارات، وقد طُرح بعضها منذ بدء الإبادة الإسرائيلية للفلسطينيين في غزة برعاية الولايات المتحدة عام 2023.
طُرحت أسماء الأردن ومصر وقطر والإمارات، وحتى السعودية، والولايات المتحدة في خطط مختلفة للإشراف على حكم غزة، أو على الأقل تمويل السلطة الحاكمة الجديدة في القطاع، بوجود السلطة الفلسطينية أو من دونها، وذلك بعد أن يهزم الإسرائيليون حماس، وهو هدف عسكري أصبح أقرب للوهم بالنسبة لجيش الإبادة الجماعية الإسرائيلي.
ازداد هذا الأمر وضوحًا بعد أن أجبرت إدارة نتنياهو على توقيع اتفاق وقف إطلاق النار مع حماس.
وكان الإسرائيليون قد قدموا أنفسهم كحاكمٍ وقوة احتلال وحيدة في غزة بعد حماس.
البديل الأفضل لقمع الشعب الفلسطيني
أوضح ترامب في “صفقة القرن” خلال فترة رئاسته الأولى أنه لا حاجة لطبقة سياسية فلسطينية تعمل كغطاء للاحتلال الإسرائيلي، فكل ما هو مطلوب هو قوة أمنية فلسطينية ورجال أعمال فلسطينيين.
وقد يقرر ترامب أن الوقت قد حان لتنفيذ خطته بالكامل بعد الإبادة الجماعية الأمريكية الإسرائيلية.
هذا تحديدا هو السبب في مسارعة الطبقة السياسية في السلطة الفلسطينية لإثبات جدارتها تحسبًا لولايته الثانية قبل أن يتم التخلص منها نهائيًا.
وهذا هو أيضًا السبب في أن جميع منافسي السلطة الفلسطينية يصطفون في طوابير لعرض خدماتهم على الولايات المتحدة وإسرائيل، وهو السبب في أن الكثيرين داخل السلطة الفلسطينية يتنافسون على أخذ مكان عباس كبديل أمثل لتطبيق الفصل العنصري الإسرائيلي.
أما بالنسبة لطبقة رجال الأعمال الفلسطينيين، وهي المستفيد الرئيسي من أوسلو، فإن عملها مع إسرائيل والشركات الإسرائيلية مستمر كالمعتاد في خضم الإبادة الجماعية الجارية، وكذلك خططها الواهمة للاستفادة من غزة في مرحلة ما بعد حماس، رغم أن اتفاق وقف إطلاق النار تم توقيعه للتو.
وقد حضر عباس اجتماع المنتدى الاقتصادي العالمي في السعودية في أبريل/ نيسان 2024، في خضم الإبادة الجماعية، لضمان استمرار الاستثمارات في الضفة الغربية وغزة ما بعد حماس تحت نير الفصل العنصري الإسرائيلي.
وقد أرسلت بعض الدول العربية المتحالفة مع إسرائيل والولايات المتحدة والسلطة الفلسطينية مؤخرًا رسائل سرية إلى السلطة الفلسطينية، محذرة من أن حملتها القمعية قد تأتي بنتائج عكسية وتؤدي إلى الإطاحة بالسلطة.
مع ذلك، تبقى هذه الفرضيات في انتظار قرار ترامب بشأن الاختيار بين من المتعاونين المحتملين، وعددهم ليس بالقليل، لإنجاز مهمة قمع الفلسطينيين نيابة عن العدو الإسرائيلي الذي يمارس الإبادة ضد الشعب الفلسطيني.
المصدر: ميدل إيست آي