هناك بين الجبال المتوارية عن الأنظار بشمال المغرب، تنشط أخطر زراعة عرفتها البلاد. ليس لأن حقول القنب الهندي أضحت منتشرة هنا وهناك، ما جعل المغرب أول بلد منتج للحشيش في العالم، بل لأن أغلب المزارعين تخلوا عن الصنف الأصلي واستبدلوه بأصناف هجينة، تستنزف المياه وتلوث التربة، علاوة على أن الحشيش المستخلص منه قد يقود مدمنيه إلى الجنون.
الكيف الهجين: النبتة الماصّة
حين دخل الاستعمار الفرنسي والإسباني إلى المغرب عام 1912، كانت نبتة القنب الهندي موجودة بالفعل، ويؤكد المؤرخون أن نبتة “الكيف” كما يصطلح عليها بالتعبير الدارج، كانت تزرع في المملكة نهاية القرن التاسع عشر، وكان الفلاحون إلى حدود مطلع الألفية الثالثة يزرعون صنف “البلدية” وهو ذلك النوع الأصلي الذي اشتهرت به البلاد.
رغم الحرب التي تشنها السلطات المغربية على المخدرات منذ سنة 1992، فإن الإنتاج لم يعرف أي انخفاض
لكن مع ازدياد الطلب على الحشيش المغربي زاد طمع مروجي المخدرات، وحملوا معهم إلى القرى النائية بذورًا عدلت ورثيًا في مختبرات أوروبا، ولم يكن أمام الفلاحين إلا تجربة هذه البذور، بعد أن أُخبروا بأنها تعطي محصولاً وفيرًا، وستدر عليهم أضعاف المبالغ المالية التي يجنونها من زراعة الصنف الأصيل، لكن الجانب الخفي من القصة ظل مكتومًا إلى أن بدأت بوادره تظهر شيئًا فشيئًا.
رغم الحرب التي تشنها السلطات المغربية على المخدرات منذ سنة 1992، فإن الإنتاج لم يعرف أي انخفاض، بل على العكس من ذلك ارتفع مع تزايد الطلب عليه، وهو ما أوضحته دراسة أجراها المرصد الفرنسي للمخدرات والإدمان بناء على مسح ميداني بشمال المغرب، حيث أوردت أن “أن عدم انخفاض كمية الإنتاج من الحشيش رغم تقلص المساحات المزروعة يعود بالأساس إلى إدخال نبتة هجينة من طرف تجار المخدرات تكون مردوديتها أعلى بخمس مرات في بعض الأحيان من القنب الهندي التقليدي”.
وظهرت أصناف تسمى بـ”الخرذالة” و”تريكيتا” و”المكسيكية” و”الرومية” و”الباكستانية” تنتشر زراعتها بالحقول القريبة من مصادر المياه، لأنها تحتاج إلى الرّي باستمرار، وعندما تنمو نبتة الكيف الهجين ويشتد بنيانها، لا يستطيع المزارعون المبيت في منازلهم، أولاً لأنهم يخافون على حقولهم من السرقة، كما أنهم ملتزمون بالعناية بهذه النبتة التي أضحت مصدر رزقهم الوحيد.
حقول الفواكه الموسمية من برقوق وعنب وإجاص وبرتقال أتاها القحط بعد أن أهملها الناس
يقول عبدو (26 سنة) وهو مزارع للقنب الهندي، بمنطقة زومي ضواحي إقليم وزان: “أصناف الخرذالة والتركيتة وغيرها لا تشبع من الماء إطلاقًا، نحن نرويها باستمرار من الوادي الذي يتوسط حقولنا”، وأشار إلى أنهم يستعملون مضخات لرفع الماء إلى الأراضي العالية، من الوادي الذي أضحى جافًا، “وتعمل هذه المضخات بالكهرباء التي نسرقها من الأعمدة القريبة منا” يضيف الشاب في حديثه لـ”نون بوست”.
تبدو واضحة تلك الجلاميد الذي كان ينساب الماء عبرها في الوادي، ومع حلول الصيف، لا يمكن أن ترى السيل، لأن الماء ذهب عبر خراطيم المياه نحو حقول “الخرذالة” و”تريكيتا”، حيث يعتبر هذان الصنفان هما الأكثر رواجًا في المنطقة التي ينحدر منها عبدو، وتابع في حديثه لنا قائلاً: “حقول الفواكه الموسمية من برقوق وعنب وإجاص وبرتقال أتاها القحط بعد أن أهملها الناس، بل هناك من عمد إلى قطع أشجار الزيتون لكي تستفيد نبتة القنب من تلك المساحة التي تحتلها الأشجار، وتستفرد وحدها بالماء والأسمدة”.
آبار الصوندا.. استنزاف مفرط للمياه الجوفية
في الأراضي البعيدة عن الأنهار والمسطحات المائية، لا يجد الفلاحون سبيلاً لري قنّبهم الهجين إلا بحفر آبار، لكن ليس بالطريقة التقليدية، فهناك آلات للحفر تسمى بـ”الصوندا” تقوم عليها شركات تعمل دون ترخيص وتحت تواطؤ السلطات المحلية، حسب تصريح عماد (31 سنة)، حيث أفاد أن عائلته حفرت بئرًا في وقت قياسي، “أي خلال يومين، حفرنا بئرًا بعمق يتجاوز 250 مترًا، ولم يكن هذا كما السابق، فقد كان الأجداد يجدون الماء بعد عمق 5 أمتار، ويحفرون الآبار بالفؤوس والمعاول، أما الآن فقد تراجع مستوى المياه الجوفية، وجفت العديد من منابع الماء والآبار وتراجع منسوب الأنهار، ليس فقط لأن الأمطار غير منتظمة، ولكن لأن هذا الصنف الهجين لا يشبع من الماء، عكس الصنف الأصيل الذي لم نكن في حاجة إلى ريه بانتظام” حسب عماد.
الحشيش الهجين.. يتوافر على نسبة عالية من المادة المخدرة
وحذرت منظمة الأغذية والزراعة “الفاو” من الاستخراج المفرط للمياه الجوفية بالمغرب، حيث يتم استنزاف 833 مليون متر مكعب سنويًا من الآبار الجوفية دون وجود روافد تغطي ذلك، إذ تصل نسبة الإفراط في استخراج هذه المياه إلى 255% من المستوى المستدام للاستخراج في الحالات القصوى، حسب ما جاء في تقرير للمنظمة التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة.
وحذرت من أنه “إذا لم يتم وقف الاتجاهات السائدة في إدارة مصادر المياه الجوفية، فمن المحتمل أن يكون له انعكاس كبير على الأمن الغذائي، وسيتضرر دخل المزارعين، خصوصًا الصغار منهم” حسب التقرير، كما رسمت مؤسسة البنك الدولي صورة سوداء عن الأمن المائي للمغرب، بعد أن قدرت فقدان البلاد لما يزيد على 40% من مياهها الجوفية، خلال عقد من الزمن، حسب آخر البيانات المتوافرة لدى هذه المؤسسة الدولية.
يقوم بعض تجار المخدرات في المدن بمزجه مع مواد بلاستيكية أو الحبوب المهلوسة، من أجل مضاعفة أرباحهم
إدمان يُفقد الصواب
فضلاً عن خطر استنزاف المياه، يمتاز الحشيش الهجين بخاصية فريدة من نوعها، وهو أنه يتوافر على نسبة عالية من المادة المخدرة التي تعرف بالمسمى العلمي “التتراهيدروكانابينول”، حيث أكدت تحاليل لعينات تم ضبطها في السنوات الأخيرة في فرنسا، زيادة المادة المخدرة من 8 إلى 17% خلال 2013، وقد يصل في بعض العينات إلى 39% كحد أقصى، بحسب ما ورد في دراسة المرصد الفرنسي للمخدرات والإدمان.
أضحى الحصول على الحشيش “البلدي” المستخلص من الصنف الأصيل، أمرًا نادرًا وصعب المنال، حسب محمد وهو فلاح تجاوز الأربعين من عمره، “بل والأخطر من ذلك يتم خلط الحشيش البلدي بالهجين، في أفضل الحالات، لكن مروجي المخدرات يعمدون إلى خلطه بمواد أخرى مثل الروزن، أي الصمغ الذي يستخلص من أشجار الصنوبر، كما يقوم بعض تجار المخدرات في المدن بمزجه مع مواد بلاستيكية أو الحبوب المهلوسة، من أجل مضاعفة أرباحهم من جيوب الشباب المغاربة” حسب محمد الذي أكد أن هذه العملية تقود المدمنين إلى فقدان صوابهم.