على عتبات “داونينغ ستريت” في ثاني أهم مقر حكومي بالكرة الأرضية بعد البيت الأبيض، حيث تُرسم السياسات التي غالبًا ما تتجاهل الإنسانية، وقف رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مبتسمًا، كأنه في حفل استقبال رفيع المستوى، وليس أمام متظاهرين عراقيين هاربين من وطنٍ لفظهم. خلفه، تصاعدت الهتافات الغاضبة من قلوبٍ أرهقتها الغربة، وكأن هؤلاء المهاجرين أرادوا أن يذكّروه بجحيمٍ ما زالوا يهربون منه، حتى بعد عبور البحار والمحيطات.
لحظات بعد المصافحة الرسمية، تحولت الابتسامات إلى حالة من الفوضى. بيض فاسد ومقذوفات تطايرت باتجاه موكب السوداني، تلاها سباق بين المتظاهرين والسيارات المصفحة التي أسرعت بالابتعاد. في شوارع لندن، أعادت هذه اللحظة إنتاج مشهدٍ مألوف: سياسيون هاربون من شعبهم، سواء كانوا داخل الوطن أم خارجه.
من الغزو إلى الفوضى.. كيف تحول العراق إلى وطن طارد؟
منذ عام 2003، يعيش العراق في دوامة من الأزمات. الغزو الأمريكي لم يقتصر على تغيير نظامٍ سياسي؛ بل فتح أبواب الفوضى على مصراعيها. الميليشيات المسلحة، الحروب الطائفية، الفساد المستشري، كلها حولت العراق إلى ساحة صراع دائمة. في هذا المشهد، كان المواطن العراقي هو الضحية الأولى.
لأكثر من عقدين، بحث العراقيون عن وطنٍ يشعرون فيه بالأمان. لكن الوطن الذي كان يفترض أن يفتح ذراعيه لهم، صار طاردًا. انعدام الأمن، انهيار الخدمات، وغياب الفرص، كلها دفعت الشباب إلى الهروب، ليس بحثًا عن رفاهية، بل فقط عن حياة عادية.
وهم الإصلاح.. برامج حكومية فاشلة
في بغداد، تُصر الحكومة العراقية على الترويج لما تسميه “برامج تنموية” لمعالجة الهجرة غير الشرعية. المسؤولون يتحدثون عن “نجاحات عظيمة“، رغم أن شوارع أوروبا تمتلئ بعراقيين مهاجرين يبحثون عن مأوى. هذه البرامج، التي يُقال إنها تهدف إلى دعم الشباب، لم تفعل شيئًا سوى كتابة تقارير تزين مكاتب المسؤولين.
الواقع مختلف تمامًا. الشباب العراقيون يدركون أن هذه البرامج ليست سوى حبر على ورق. لا فرص عمل، لا استثمارات حقيقية في مستقبلهم، ولا أي مؤشر على أن الحكومة جادة في معالجة الأسباب الجذرية للهجرة. بدلًا من ذلك، تُلقي الحكومة باللوم على “الإعلام السلبي” الذي يتحدث عن مخاطر الهجرة.
لكن من يُلام حقًا؟ هل هو الإعلام الذي يكشف الحقيقة، أم حكومة تخلّت عن دورها الأساسي في بناء وطنٍ يمكن لشبابه أن يعيشوا فيه بكرامة؟
شباب بلا أفق.. عندما يصبح الهروب الخيار الوحيد
الشباب العراقيون ليسوا مغامرين ولا طامحين في ثروات خيالية. هم ببساطة يبحثون عن حياة لا يهددها انفجار هنا أو فوضى هناك. يعيشون في بلد غني بثرواته الطبيعية، لكنه فقير في كل ما يتعلق بحقوقهم الأساسية.
في العراق، تجد شابًا يدرس الهندسة، لكنه يعمل في مقهى بأجرٍ زهيد، فقط ليتمكن من البقاء على قيد الحياة. تجد طبيبًا يتقاضى راتبًا لا يكفي لإطعام أسرته، بينما تُنهب مليارات الدولارات من خزائن الدولة. فلا عجب أن يتحول حلم الهجرة إلى ضرورة، حتى لو كان الطريق مليئًا بالمخاطر.
حقوق الإنسان.. أين الحرية في وطن القوانين التمييزية؟
رغم الاستقرار النسبي الذي شهده العراق في السنوات الأخيرة، فإن قضايا حقوق الإنسان لا تزال تثير القلق. في كل تقرير، تبرز منظمات دولية مثل “هيومن رايتس ووتش” مشكلات لم تعالجها الحكومة العراقية. القوانين القمعية، والانتهاكات المستمرة، والمحاولات المتكررة لتقييد الحريات، كلها تعكس عقلية دولة لا تزال تتعامل مع مواطنيها كأرقامٍ يمكن تجاهلها.
في العام الماضي، ناقش البرلمان العراقي تعديل قانون الأحوال الشخصية للسماح بزواج الفتيات في سن التاسعة. خطوة تعيد العراق إلى عصورٍ مظلمة، وتقوض كل ما تبقى من حقوق المرأة. وفي الوقت نفسه، زادت الإعدامات دون إشعار مسبق للمحامين أو العائلات، وكأن الحياة أصبحت أرخص مما يمكن تصوره.
لندن.. حين تعكس الغربة حقيقة الوطن
المشهد في لندن، حيث ركض المهاجرون خلف موكب رئيس الوزراء، لم يكن مجرد حادثة عابرة. كان لوحة تعكس واقعًا مؤلمًا: شعبٌ يطارد من تخلى عنه. هؤلاء المهاجرون، الذين ألقوا بأنفسهم في قوارب الموت، لم ينسوا أن الحكومة التي تدّعي تمثيلهم هي ذاتها التي دفعتهم للهروب.
لندن، ببرودتها المعهودة، احتضنت هذا المشهد وكأنها تقول للعراقيين: هنا، على الأقل، يمكنك أن تهتف بحرية. هنا، لن يقمعك أحد لأنك تطالب بحقوقك.
وطن يقتل الأمل
المفارقة في كل هذا أن العراق، الذي يملك كل مقومات النجاح، يواصل إفشال نفسه. موارد طبيعية هائلة، تاريخ عريق، وشعب ذكي ومثابر. لكن كل ذلك يضيع في دوامة الفساد والسياسات الفاشلة.
السلطة في بغداد، بدلًا من العمل على إصلاح الأوضاع، تُصر على أن المشكلة ليست فيها، بل في الشعب الذي “لا يقدر ما يُقدم له”. لكن الحقيقة أن الشعب العراقي تعب من الوعود الكاذبة، وتعب أكثر من وطنٍ يطالبهم بالصبر بينما يُنهب أمام أعينهم.
متى ينتهي الهروب؟
إلى أن تدرك الحكومة العراقية أن بناء الوطن يبدأ من احترام مواطنيه، سيظل العراقيون يهربون، ويهتفون في شوارع العالم، للمطالبة بحياةٍ كريمة، بينما يهرب السياسيون في سياراتهم المصفحة.
العراق، بوضعه الحالي، ليس وطنًا. هو مجرد محطة انتظار يتركها أبناؤه بحثًا عن حياة. وربما، عندما يتوقف الهروب، سنجد وطنًا يستحق أن نعود إليه.