3 عقود عاشت فيها الصحافة السودانية الكثير، حيث تعددت أشكال الرقابة المفروضة على صاحبة الجلالة وبجوارها وسائل الإعلام الأخرى، خرج البشير من الحكم وزالت الكثير من العوائق التي كان يسد بها هواء الحرية النقي، تفتحت أزهار الصحف وتحررت كثيرًا من قيودها القديمة، عبر نقلة نوعية كاملة، لا ينكرها إلا جاحد، خاصة أن المشوار بدأ الآن السير فيه بكل قوى وحسم وعزم، فلا مجال للتراجع خطوة واحدة للخلف.
ضربات البشير للصحافة.. ماذا فعل؟
كانت الصحافة السودانية – مثل أي صحافة عربية أخرى ـ تعاني من ازدواجية القوانين التي تخضع لها، وتكبيلها بقوانين الصحافة والمطبوعات وسلطوية جهاز الأمن، وإذا فلتت من هؤلاء، كان تجد السيف الإداري الذي يمثله مجلس الصحافة والمطبوعات، وهو هيئة حكومية صاحبة نفوذ كبير على الصناعة بأكملها.
كأي نظام شمولي، لم يتخل نظام البشر عن الممارسات الديكتاتورية في حق الصحافة وخاصة خلال السنوات الأخيرة من حكمه، إذ شهدت الصحافة السودانية مصادرات متكررة، وتزايدت شراسة “الرقابة القبلية” وهو مصطلح يعني توغل السلطة الأمنية في متابعة مواد الصحف قبل طباعتها، وحال وجود أي نقد يُلغى الإصدار تمامًا، فضلاً عن قرارات الاعتقال التي كانت تصدر بين حين وآخر لعدد كبير من الصحفيين.
الذين يعلمون جيدًا ماذا تعني عقدة الخوف من الأمن واستفحال الرقابة الذاتية لدى الصحفيين، ممن تربوا بين جدران الأنظمة على الخوف، هم أكثر الذين يرون حصاد الثورة الآن، ويعرفون جيدًا معنى المكتسبات التي حصلوا عليها في ظل وجود كل القوانين المقيدة للحريات السارية على أرض الواقع حتى الآن، بحكم عدم تفرغ البلاد لضبط منظومة القوانين بعد، ونفس الأوزان التي تقاس بها المكاسب تقع من خلالها نقاط الضعف التي يلمسها الجميع من أداء الصحف والصحافيين، إذ يتملك الخوف البعض منهم، خاصة الذين في أرصدتهم عقودًا من الخبرة في المهنة، فخبرتهم الواسعة تجعلهم في أشد درجات الحذر من المستقبل.
صحيح أن المجلس العسكري الانتقالي الذي استلم السلطة في الـ11 من أبريل الماضي، رفع جميع أشكال الرقابة المفروضة على الصحف ووسائل الإعلام الأخرى، لكنها لم تتحرر بعد من قيودها القديمة بشكل كامل، فالذي أعطى هذه الحرية الواسعة، يمكن أن يسحبها في أي لحظة بقرار أيضًا.
هذه المعطيات السابقة، تجعل كل صحفي أسيرًا لمخاوفه السابقة، عن منغصات المهنة وسطوة الأمن والمخابرات، وربما كان ذلك سببًا في ضعف تغطية الصحف لأحداث ميدان الاعتصام أمام مقر قيادة الجيش بالعاصمة الخرطوم، في الوقت الذي تفوقت فيه السوشيال ميديا والإعلام الاجتماعي، وسجل ودوّن كل الموبقات التي ارتكبت في حقل الثورة، مهما كان صاحبها، وهو ما دفع الثورة للأمام وجعلها تتخلص من عقبات كثيرة، كانت يمكن أن تودي بمصير الحراك، لو لم يكن هناك توثيق وانفتاح عن العالم، من بدائل أخرى غير وسائل الإعلام التقليدية التي كانت منوطة بذلك.
ماذا قدمت الثورة للصحف السودانية؟
تعيش الصحف السودانية حاليًّا في حماية المجتمع، فالجميع يتطلع إلى ممارسة دور نزيه وفاعل في حياة السودانيين ما بعد الثورة، وهذا الدور تراه جيدًا قوى إعلان الحرية والتغيير الذين ضمنوا مطالبهم التي سلموها للمجلس العسكري، ضرورة إلغاء القوانيين المقيدة للحريات وقانون الصحافة والمطبوعات، حتى يتسنى لها ممارسة دورها المأمول.
فرغم الحريات الواسعة المتاحة الآن، فإن الصحافة لم ترتق لمستوى الأحداث التي تشهدها البلاد، من ثورة شعبية وتغيير شامل على جميع المستويات، وفي ظل موجة التحديث المتسارعة، يقف موكب الصحافة يريد المشاركة، ولكنه في الوقت نفسه مكبل بكل نوبات الضعف التي لا يتخيلها أحد، بداية من ضعف الكادر الصحفي المؤهل، بسبب هجرة الأكفاء إلى الخارج، بجانب امتلاك النظام لأكبر الصحف وأوسعها انتشارًا، وكذلك الرجال المقربين منه الذين يرون في انتصار الثورة هزيمة شخصية لهم ولمكاسبهم التي أدمنوا الحصول عليها من امتلاك عنق المجتمع والتلاعب به دون مشقة.
ويصدر في السودان 37 صحيفة، 80% منها بالعاصمة، ووزعت عام 2018 نحو 36 مليون نسخة، بانخفاض قدره 23 مليون نسخة عن عام 2017 الذي وصل فيه حجم التوزيع إلى 59 مليون نسخة، وفقًا لمجلس الصحافة والمطبوعات (حكومي) في آخر تقرير خاص بالتحقق من الانتشار، وحاليًّا يقبع السودان في المرتبة الـ174 بحسب آخر تقييم لمؤشر حرية الصحافة عام 2018 الذي يقيس أوضاع الصحافة في 180 بلدًا حول العالم.
ورغم الإعاقات السابق ذكرها، فإن الانفتاح وحرية التغطية والكتابة دون عائق من أبرز مكتسبات الصحافيين السودانيين حاليًّا، ويمكن الالتفات إلى عودة الصحفيين الذين حرموا بقررات أمنية، بعد الثورة إلى كامل نشاطهم، وربما هم الذي يمثلون الوجه الأكثر تحررًا للصحافة من بين أقرانهم، وعلى رأسهم الصحفية والكاتبة سهير عبد الرحيم التي عادت للضرب بقوة على رؤوس الفساد، من خلال زاويتها اليومية في صحيفة “الانتباه”، بعد حرمانها من الكتابة بقرار أمني من نظام الرئيس المعزول.
تحفل الصحافة السودانية بتاريخ طويل، إذ صدرت أول صحيفة سودانية في التاريخ الحديث عام 1903 خلال الحكم التركي
عبد الرحيم تدون شهادتها على ما يحدث على مستوى الحريات الصحفية، وفق تجربتها الشخصية، وتقول: “المناخ تغير كليًا بعد نجاح الثورة في السودان، فليس هناك رقابة قبْلية ولا رقابة ذاتية”، بدليل أنه لم يُحجب لها حتى الآن، أي مادة كتبتها، ولم يجرِ تعديل أو تغيير على أي حرف كتبته، أو حتى إضافةً كما كان يحدث في السابق.
تضيف الصحفية الثورية “في الماضي كانت هناك خطوط حمراء تضعها الأجهزة الأمنية بحيث لا يستطيع أي كاتب الاقتراب منها، وهي تشمل موضوعات وشخصيات حكومية وفي الحزب الحاكم”، لكن الآن تلك الخطوط تلاشت تمامًا بعد الثورة، والدليل أنها كتبت عن الجميع، بما في ذلك رئيس المجلس العسكري الانتقالي عبد الفتاح البرهان الذي كتبت تنتقده تحت عنوان “مش كدا يا برهان”، ومن هذا المنطلق ترى سهير عبد الرحيم أن الصحافة السودانية ستكون خلال المرحلة المقبلة على قدر التحديات، فالإعلام شريك جوهري في التنوير الذي تحتاجه الثورة والبلاد.
تحديات أمام الصحافة السودانية
تحفل الصحافة السودانية بتاريخ طويل، إذ صدرت أول صحيفة سودانية في التاريخ الحديث عام 1903 خلال الحكم التركي، واستمرت الصحافة في التطور وتضاعفت أعداد الصحف حتى أصبحت على ما أشرنا إليه بأعلى المقال.
يعرف عن الصحافة السودانية التميز بالنكهة الأدبية العالية والاهتمام بالفنون وحضارة السودان، حيث بدأت تهتم بهذه الموضوعات منذ بداية ظهورها، حتى تطورت المواد المطروحة على القراء بالصحف، بعد تولي الرئيس إبراهيم عبود الحكم في خمسينيات القرن الماضي، الذي منحها قوةً وتفردًا غير مسبوق، وكان عصرًا ذهبيًا، حيث عرفت فيه الصحافة السوادنية أبرز نجومها الذين حفروا أسماءهم في ذهنية القارئ السوداني والعربي حتى الآن.
طوال العقود الأربع الماضية، ضعفت الإمكانات، وضعف معها تقدير الصحافي ماديًا وأدبيًا، ووضعت الكثير من العراقييل أمام المهنيين الحقيقيين، وفتحت السلطة الباب في المقابل على مصراعيه لكل من ليس لهم علاقة بها لاقتحامها والإجهاز عليها، حتى وصل عدد الصحفيين إلى سبعة آلاف صحافي، معظمهم من موظفي العلاقات العامة والأجهزة الأمنية، ولا تهتم المؤسسات بتدريب الصحافيين ولا تعطيهم مرتبات آدمية، ما سبب تدهورًا كبيرًا في مستوى الصحافة المحلية.
على مستوى الحريات، كان الاعتقال التعسفي الرد المناسب على كل مقال رأي لا يعجب السلطة، وإذا فشل الاستهداف الشخصي في فهم الرسالة، تسحب رخص العمل ويشهر سلاح المصادرة مثلما حدث مع صحيفة “الجريدة” وكذلك جريدة “التيار” التي اعتقل رئيس تحريرها عثمان ميرغني لمدة أسابيع، بعد انتقاده نظام البشير على الهواء مباشرةً في الفترة التي سبقت سقوطه بقليل.
أصبح واضحًا أن الصحافة السودانية في حاجة إلى انتفاضة كبرى، تحقق شعارات الثورة “حرية ـ سلام ـ عدالة” ورفع كل قوانيين التضييق على الحريات ومصادرتها، وتجريم اعتقال الصحافيين والتضييق عليهم، حتى يسير القطاع إلى التطور المأمول لثورة عظيمة في التاريخ الإنساني.