دخل اتفاق وقف إطلاق النار في غزة حيز التنفيذ عمليًا، صباح اليوم في تمام الساعة 11:15 بتوقيت غزة (9:15 بتوقيت غرينتش)، بتأخير قدره 165 دقيقة، عن الموعد الرسمي المحدد له سلفًا في الاتفاق الموقع عليه في الدوحة قبل 3 أيام، والذي كان مقررًا له تمام الساعة 8:30 صباحًا (6:30 بتوقيت غرينتش).
وكانت حكومة الاحتلال قد أخرت تنفيذ القرار بزعم تأخر إرسال حركة المقاومة الإسلامية (حماس) قائمة أسماء المحتجزات الثلاثة المقرر الإفراج عنهن اليوم بحسب المرحلة الأولى من الاتفاق، وهو التأخير الذي استمر قرابة ساعتين، وأرجعته الحركة إلى أسباب لوجستية وميدانية تتطلب بعض التجهيزات والضمانات التي عرقلتها العمليات العسكرية الإسرائيلية التي زادت وتيرتها خلال الساعات الماضية مع قرب دخول الاتفاق حيز التنفيذ، ما أجل إرسال حماس لقائمة المحتجزات حتى الساعة 10:30 صباحًا بتوقيت غزة.
واستبق فلسطينيو غزة دخول الاتفاق حيز التنفيذ رسميًا بفرحة عارمة، مع إشراقة شمس هذا اليوم، احتفالات عمت الأجواء، أهازيج تهز أركان القطاع الذي دُمرت أكثر من 90% من بنيته، تنسم للحياة التي قطعت الحرب التي استمرت قرابة 470 يومًا أوصالها، تسول للأمل بين ركام اليأس، والنبش عن البقاء بين حُطام الموت.
محاولة إسرائيلية للخرق
كعادة المحتل الذي لا يلتزم بمواثيق أو اتفاقيات، استبق جيش الاحتلال الإسرائيلي دخول الاتفاق حيز التنفيذ بشن غارات عنيفة على غزة وجباليا ودير البلح وخان يونس ورفح، أسفرت عن ارتقاء 10 شهداء و25 مصابًا بحسب ما أفاد الدفاع المدني في غزة، فيما أعلن بداية الأمر أن الاتفاق لن يدخل حيز التنفيذ بسبب عدم تسليم حماس قائمة المحتجزات المتوقع الإفراج عنهن اليوم.
وكان بيان لمكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي قد أشار إلى إجراء نتنياهو تقييمًا أمنيًا مساء أمس بشأن تأخير تسلم قائمة المختطفين المتوقع إطلاق سراحهم اليوم، مضيفًا أنه أمر بعدم تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار حتى تصل قائمة بأسماء المحتجزات، فيما حذر المتحدث باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي الفلسطينيين في قطاع غزة من الاقتراب من قوات الجيش المتمركزة في عموم القطاع، وقال إن محاولة التوجه من المناطق الجنوبية إلى الشمال محظور لحين صدور بيان يسمح بذلك.
وردًا على هذا التلكيك الإسرائيلي أكدت حماس التزامها ببنود الاتفاق، لافتة إلى أن تأخر تسليم الأسماء يعود لأسباب فنية ميدانية، وبعد ساعتين تقريبًا من دخول الاتفاق حيز التنفيذ بشكل رسمي كشف المتحدث باسم القسام، أبو عبيدة، في تغريدة له عبر حسابه على “تليجرام” أسماء المحتجزات الإسرائيليات المزمع الإفراج عنهن اليوم وهن: رومي جونين (24 عامًا)، إميلي دماري (28 عامًا)، ودورون شطنبر خير (31 عامًا).
لحظة قصف طيران الاحتلال لمركبة وسط #خان_يونس، رغم دخول اتفاقية #وقف_إطلاق_النار حيز التنفيذ. pic.twitter.com/JaWcPE93Ti
— أنس الشريف Anas Al-Sharif (@AnasAlSharif0) January 19, 2025
وسلمت الحركة تلك القائمة للوسيطين المصري والقطري، اللذين بدورهما سلماها للجانب الإسرائيلي الذي أعلن بشكل رسمي تسلمه للأسماء وعلى الفور تلقى جيش الاحتلال أوامر بالتوقف عن تنفيذ أي عمليات عسكرية داخل القطاع، فيما طالبت حماس الوسطاء بتسليم “إسرائيل” قائمة الأسرى الفلسطينيين المفترض الإفراج عنهم اليوم، وسحب الطيران الحربي والمسير من أجواء غزة وفق شروط الاتفاق.
وبتسليم حماس قائمة الأسماء وإعلان الجانب الإسرائيلي تسلمها بشكل رسمي، يمكن القول إن اتفاق وقف إطلاق النار دخل بالفعل حيز التنفيذ عمليًا، بعدما ألقت الحركة الكرة في ملعب نتنياهو وحكومته بعد المحاولة الفاشلة التي أجراها صباح اليوم للانقلاب على الاتفاق بزعم تأخر إرسال تلك القائمة، ليعلن مكتب رئيس مجلس الوزراء أن وقف إطلاق النار في قطاع غزة سيبدأ الساعة 11:15 صباحًا بتوقيت غزة (9:15 بتوقيت غرينتش).
اليوم الأول للاتفاق.. هذه تفاصيله
لأول مرة منذ 470 يومًا يستقبل الغزيون يومهم دون قصف، دون “الكواد كابتر” تحوم حول خيامهم، دون أشلاء تتناثر في الشوارع والطرقات، ودماء تُراق في المشافي ومن بين الركام، دون أصوات سيارات الإسعاف والدفاع المدني وهي تحمل الجثث المتفحمة مجهولة الهوية، دون سماع دوي الانفجارات هنا وهناك، أجواء لم يعتدها سكان القطاع منذ قرابة 16 شهرًا، ربما تكون غريبة عليهم، لكن آن لهم حتمًا أن يعايشوها كغيرهم.
ومع اليوم الأول من الاتفاق من المقرر أن يشهد القطاع بعض التفاصيل حسب بنود الصفقة الموقع عليها من حماس وحكومة الاحتلال والوسطاء، أبرزها:
– انسحاب إسرائيلي من المناطق المأهولة بالسكان، بما في ذلك مدينة رفح جنوبي غزة، وشمال القطاع، باتجاه المناطق الحدودية بغزة الواقعة شمالًا وشرقًا، حيث سيظل متواجدًا بها بعمق 700 متر، فيما سيزيد العمق الذي يتواجد به الجيش داخل غزة إلى 1100 من الحدود بعدد من النقاط، هي: معبر إيرز، وبلدة بيت لاهيا شمالا (حدود مع إسرائيل)، وشرق دوار الكويت، وشمال محور “نستاريم”، ومعبر “كسوفيم” بين وسط القطاع وجنوبه، مع بقاء بعض عناصر الجيش متمركزة بمنطقتي محور “نتساريم” وسط القطاع، وممر “فيلادلفيا” بجنوبه. ويمنع الاقتراب من محور فيلادلفيا لمسافة تقدر بنحو 700 متر.
– توقف حركة الطيران العسكري وتعليق عمله في غزة لمدة 12 ساعة، بما يمنح المقاومة الوقت والفرصة والظروف الملائمة لإخراج المحتجزين وتسليمهم للصليب الأحمر الدولي.
– سيُسمح للنازحين بالعودة إلى مدينة رفح باستثناء المناطق الحدودية (محور فيلادلفيا جنوبًا)، كما يُسمح للنازحين الذين غادروا مناطق شمال القطاع باتجاه محافظة غزة بالعودة إلى مناطقهم، بينما يظل النازحون الذين لجأوا إلى جنوب القطاع ممنوعين من العودة إلى مناطقهم الأصلية في الشمال في الوقت الحالي.
– إدخال المساعدات الإنسانية عبر معبر رفح إلى كل مناطق قطاع غزة بمعدل 600 شاحنة يوميًا لتلبية احتياجات السكان المتضررين، والتي تشمل مواد غذائية ومعدات لوجستية وإغاثية.
– ستقوم فصائل المقاومة بتسليم اللجنة الدولية للصليب الأحمر، 3 أسرى إسرائيليين مقابل الإفراج عن قرابة 90 فلسطينيًا من السجون الإسرائيلية، عند الساعة 16:00 بالتوقيت المحلي لغزة (14:00 بتوقيت غرينتش)، وحين تؤكد اللجنة تسلم الأسرى الثلاثة، من المفترض أن تقوم مصلحة السجون الإسرائيلية بتسليمها قرابة 90 فلسطينيًا، والذين سيتم إطلاق سراحهم من سجني “شيكما” في مدينة عسقلان (جنوب) و”عوفر” قرب بلدة بيتونيا وسط الضفة الغربية، وبحسب المصادر سيكون تسليم الأسرى عبر الأراضي المصرية.
أفراح رغم الوجع
مثل هذا الشعب لا يمكن انكساره، هذه الأنفس من المستحيل تركيعها، فمثل أهازيج الفرحة تلك وتكبيرات الحمد والشكر التي تزلزل الأرض من تحت الأقدام لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تخرج عن مهزوم، وأن أي أحاديث، تستند إلى أرقام الضحايا وحجم الخسائر، تتحدث عن هزيمة نفسية تعرض لها الغزيون هي أحاديث مغايرة شكلًا ومضمونًا للواقع الذي توثقه تلك الفرحة.
ثنائية لا يمكن أن تُمنح إلا لشعب آمن بنفسه وأخلص لقضيته وبذل الغالي والنفيس دفاعًا عن أرضه وعرضه، تلك التي تجمع بين الفرح والحزن في إناء واحد، فرح الانتصار النفسي وإفساد مخططات المحتل والصمود الأسطوري على آلة الحرب المدمرة لقرابة 15 شهرًا، والحزن على الفقد والشهداء والمدينة الجميلة التي حولها المحتل إلى أرض قاحلة فاقدة لمقومات الحياة.
الشرطة الفلسطينية والكوادر الطبية يؤدون السلام الوطني بعد بدء سريان وقف إطلاق النار في غزة. pic.twitter.com/Q7pYDAY7SK
— شبكة قدس الإخبارية (@qudsn) January 19, 2025
قبل عدة أشهر كان المحتل وأعوانه يتفاخرون عبر المقاطع والمشاهد التي توثق نزوح سكان الشمال والوسط – بفعل الآلة التدميرية القهرية – إلى الجنوب، نزوج اعتبره الاحتلال حينها انتصارًا مدويًا له، وترجمة عملية لمخطط الجنرالات الذي كان يؤمل نفسه بتنفيذه في المناطق الشمالية، لكن اليوم الصورة مغايرة تمامًا، فالنزوح هذه المرة عكسي، من الجنوب إلى الشمال، كل يعود إلى بيته الذي هُجر منه، حتى لو كان رمادًا، فمن بين هذا الركام سيبني الغزيون مدينتهم مجددًا، هذا ديدن أصحاب القضايا التحررية المقدسة الخالدة.
ومع بدء دخول الاتفاق حيز التنفيذ رسميًا عند الساعة 08:30 صباحًا بالتوقيت المحلي، انتشرت عناصر الشرطة الفلسطينية في شوارع القطاع، مرتدين زيهم العسكري، هذا بجانب عناصر من كتائب عز الدين القسام، الذين تجولوا في شوارع القطاع داخل سيارات الدفع الرباعي، وسط احتفاء من الفلسطينيين، في مشهد حمل الكثير من الدلالات والرسائل للداخل والخارج على حد سواء.
كأنه العيد، ما تبقى من مساجد #غزة تصدح بتكبيرات العيد والنصر.#وقف_إطلاق_النار pic.twitter.com/Cd24bnXoE5
— مجلة ميم.. مِرآتنا (@Meemmag) January 19, 2025
الإسرائيليون.. تظاهرات الضغط والتنديد
على الجانب المقابل، يعاني الداخل الإسرائيلي من انقسام معتاد، تفسخ واضح في تماسك الجبهة الداخلية يجيب عن الكثير من الأسئلة الخاصة بجدلية الانتصار والهزيمة، حيث شهدت مدينتا تل أبيب والقدس خروج أعداد من المتظاهرين للمطالبة بإتمام صفقة التبادل حتى المرحلة الأخيرة.
فيما أكدت هيئة عائلات الأسرى الإسرائيليين خلال مؤتمر صحفي عقدته في ساحة وسط تل أبيب أن “إعادة جميع الأسرى هي النصر الحقيقي، لا مواصلة الحرب التي حققت أهدافها منذ وقت طويل، وأنه إذا عادت ستؤدي إلى موت غير مبرر للأسرى والجنود”، مضيفة أنهم سيواصلون احتجاجاتهم حتى يتم الإفراج عن جميع الأسرى.
أما في القدس فتظاهر العشرات من المستوطنين المتطرفين احتجاجًا على صفقة التبادل واتفاق وقف إطلاق النار، حيث أغلقوا شارع بيغين الرئيسي داخل المدينة أمام الحركة، واعتدوا على مركبات الفلسطينيين بالحجارة، وكان وزيرهم المتشدد إيتمار بن غفير قد أعلن استقالته وحزبه من الحكومة ردًا على الموافقة على هذا الاتفاق الذي اعتبره هزيمة مذلة لـ”إسرائيل” وانتصارًا مدويًا للمقاومة.
وبحسب القناة 12 العبرية فقد رفضت المحكمة الإسرائيلية العليا جميع الالتماسات التي تم تقديمها ضد صفقة تبادل الأسرى مع حركة حماس، وذلك بعد انتهاء جلسة الحكومة أول أمس والتصديق رسميًا ونهائيًا على الاتفاق وهي الجلسة العاصفة التي استمرت قرابة 7 ساعات كاملة وشهدت نقاشات ساخنة وصلت إلى بكاء بعض الوزراء حسبما نقلت وسائل إعلام إسرائيلية.
كان هدف المقاومة واضحًا منذ بداية جولات المفاوضات المكوكية التي أجهضها نتنياهو وبن غفير، وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات لسكان القطاع، وهو ما تحقق اليوم، وكان يمكن تحقيقه في مايو/أيار الماضي حين قدم الرئيس الأمريكي جو بايدن خطته، لولا التعنت الإسرائيلي العنصري، لكن هذا لا يعني أن الأمور انتهت بشكل كامل، إذ إن هناك تحديات تفرض على الجميع توخي الحذر في ظل حالة التربص الإسرائيلي إزاء المشهد الحالي الذي يكرس هزيمتهم وعجزهم في تحقيق أهداف الحرب رغم أرقام الضحايا المفزعة وحجم الخسائر المروعة التي خلفتها تلك المعركة.
470 يومًا تعرض فيها الفلسطينيون في القطاع لواحدة من أحقر الحروب العنصرية في التاريخ، حرب مورست فيها كل أنواع الانتهاكات، تواطأت فيها أقوى جيوش العالم على شعب محاصر داخل نطاق جغرافي ضيق، حرب تعرض فيها الغزيون لكل أشكال الخذلان، من القريب والغريب، لكنهم لم يرفعوا الراية البيضاء رغم الكلفة الباهظة، لم يستسلموا رغم الألم الشديد، اختاروا الصمود دربًا للمواجهة، فكان لهم ما أرادوا، إفشال لمخططات العدو وتكبيده الخسائر الفادحة، فكانت أجواء النصر في غزة المدمرة فيما كان اللطم والبكاء والعويل في تل أبيب رغم مزاعم الانتصار التي اعتاد نتنياهو وحكومته ترديدها منذ بداية الحرب.