في الـ3 من يونيو/حزيران الماضي، فوجئ المعتصمون أمام مقر القيادة العامة للجيش السوداني في العاصمة الخرطوم بعناصر أمنية ترتدي زيًا نظاميًا تحاول فض الاعتصام بالقوة، الأمر الذي خلف وراءه ما يزيد على مئة قتيل، وضعفهم من المصابين، حسب اللجنة المركزية للأطباء الداعمة للحراك الثوري.
أصابع الاتهام منذ الوهلة الأولى توجهت إلى المجلس العسكري الانتقالي الذي نفى بدوره ضلوعه في هذه الجريمة، محملاً بعض عناصر الجيش مسؤولية ما حدث، في محاولة لتبرئة ساحته خاصة بعد موجة التنديد، الداخلي والخارجي التي تعرض لها وأسفرت عن توقف عملية التفاوض مع قوى الحرية والتغيير.
ومنذ ذلك اليوم وعلى مدار 58 يومًا حرص عبد الفتاح البرهان ورفاقه على دغدغة مشاعر الثوار عبر تسويف إجراء تحقيق عاجل في المجزرة، ملقيًا الكرة في ملعب النائب العام الموالي بالطبع للمجلس العسكري، دون وجود لجنة تحقيق مستقلة كما طلبت القوى الثورية.
النقطة الفارقة التي كان يحرص عليها المجلس في إجراء تلك التحقيقات ألا تتطرق لا من قريب أو بعيد إلى مسؤوليته المباشرة عن هذه الجريمة، علمًا منه بأن أي إدانة رسمية له تعني انهيار الثقة تمامًا في شعاراته الخاصة بدعم الحراك الثوري والعمل على الوصول بالبلاد إلى بر الأمان عبر بوابة الاتفاق مع القوى المنضوية تحت لواء الحرية والتغيير.
ظل بركان الاحتقان خاملاً لفترة طويلة، لكن سرعان ما توهج مرة أخرى في أعقاب عودة خدمة الإنترنت بعد انقطاع دام أسابيع، الأمر الذي سمح للسودانيين بتوثيق المجزرة صوت وصورة، في مشاهد أقل ما وصفت به بأنها “مؤلمة” وتورط عناصر الجيش فيها بشكل واضح، ما جعل الجميع يترقب نتائج التحقيقات على أحر من الجمر.
بالأمس كشفت لجنة التحقيق الخاصة بفض الاعتصام في تقريرها ضلوع ضباط من قوات الأمن والدعم السريع في مهاجمة المعتصمين، كما كشفت تجاوز قوات أمنية مهامها وقيامها باقتحام منطقة الاعتصام، إلا أن المعارضة كان لها رأي آخر، حيث رفضت تلك النتائج جملة وتفصيلاً، لافتة إلى أن هناك مخططًا لتبرئة المجلس من الضلوع في المجزرة، وأن التحقيقات “مطعون في نزاهتها”.
تبرئة المجلس العسكري
رئيس لجنة التحقيق مولانا فتح الرحمن قال في تقريره إنه تبين للجنة أن ضابطين – لم تكن لديهما أي تعليمات أو توجيهات – قاما “بتطهير” منطقة كولومبيا، مضيفًا أنه قد تم تحذيرهما بعدم التدخل، لكنهما خالفا الأوامر وحركا قوة مكافحة الشغب التابعة لقوات الدعم السريع، ووجها الأوامر بجلد المعتصمين.
وأضاف أن قوات مشتركة من القوات الأمنية تجاوزت مهامها واقتحمت الاعتصام وأطلقت الأعيرة النارية، مما تسبب في سقوط قتلى وجرحى وفض الاعتصام وإخلاء الساحة، وهو ما تسبب في حالة الفوضى التي خيمت على المكان في غضون ساعات قليلة من بدء العملية.
“نرفض نتائج لجنة التحقيق التي كوَّنتها النيابة العامة بالكامل، كما رفضنا من قبل إجراءات تكوينها شكلاً وموضوعًا، ونصرُّ على لجنة التحقيق المستقلة ليس في فضِّ اعتصام القيادة العامة والمجزرة المصاحبة له فحسب، بل في كل الحوادث والجرائم منذ يوم 11 أبريل 2019 وحتى اليوم”.. قوى الحرية والتغيير
أما عن حصاد عملية الفض فأشار إلى أن 87 شخصًا قتلوا وأصيب 168، مضيفًا أن 17 ممن قتلوا كانوا في ساحة الاعتصام، و48 من الجرحى أصيبوا بأعيرة نارية، وهو ما يتعارض بشكل كبير مع ما ذكرته اللجنة المركزية للأطباء ووثقته كاميرات المعتصمين.
نتائج التحقيقات بصورتها الحاليّة تبرئ المجلس العسكري بشكل مباشر من جريمة التورط في عملية الفض بشكل مباشر، وتضع المسؤولية على عاتق بعض العناصر المارقة التي تحركت وفق أهوائها غير مبالية بالتعليمات التي نعتها التحقيق بـ”التحذيرات” بعدم التدخل، وهو ما كان له وقع الصدمة على المعارضة.
جدير بالذكر أنه وفي وقت سابق السبت، قالت النيابة العامة إن 9 ضباط كبار يواجهون إجراءات قانونية، لارتكابهم جرائم ضد الإنسانية في عملية فض اعتصام الخرطوم، قبل نحو شهرين.
التقرير يبرئ المجلس العسكري من تهم الضلوع في مجزرة الفض
المعارضة ترفض
وفي أول رد فعل على نتائج التحقيقات أعلنت المعارضة السودانية ممثلة في قوى الحرية والتغيير رفضها القاطع للتقرير، معتبرة أنه “مطعون في نزاهته”، وكان هدفه إخفاء الحقائق ودفنها تحت الركام.
القوى في بيان لها نشرته على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” قالت: “نرفض نتائج لجنة التحقيق التي كوَّنتها النيابة العامة بالكامل، كما رفضنا من قبل إجراءات تكوينها شكلاً وموضوعًا، ونصرُّ على لجنة التحقيق المستقلة ليس في فضِّ اعتصام القيادة العامة والمجزرة المصاحبة له فحسب، بل في كل الحوادث والجرائم منذ يوم 11 أبريل 2019 وحتى اليوم”.
الحرية والتغيير التي تضم تحالفات: نداء السودان والإجماع الوطني والتجمع الاتحادي والقوى المدنية وتجمع المهنيين السودانيين، عددت أسباب رفضها للتقرير على ثلاثة مستويات، الإجرائي والعملي والسياسي، فعلى المستوى الأول أشارت أن اللجنة كُوِّنت بتكليفٍ من المجلس العسكري، وهذا يطعن في نزاهتها مبتدأ لأن المجلس العسكري نفسه متهم في هذه القضية وهو خصم فيها ولا يمكن أن يكون الخصم هو الحكم! وهو متهمٌ بحكم مسؤوليته عن أمن وسلامة المواطنين، ولأن تصريحات بعض أعضائه الموثَّقة كان فيها إقرارًا باتِّخاذ القرار بفضِّ الاعتصام.
التقرير بصيغته الحاليّة أثبت صدق تنبؤات شريحة كبيرة من الثوار، أيقنوا أن مماطلة العسكري في تشكيل لجنة تقصي حقائق مستقلة كان الهدف منه المواراة على تورطهم في جريمة الفض
علاوة على أنه شاب تكوينها الغموض، وشاب وثيقة اتهامها التي عرضتها اليوم الكثير من الغموض كذلك، بخلاف أنها لم تشمل فرقًا متخصصة أخرى كان يمكن أن تسهم في الوصول لنتائج أكثر جدية، فمثلاً قضايا الاغتصاب يجب أن يشارك في التحقيق فيها مختصون نفسيون واجتماعيون.
تقرير لجنة التحقيق في احداث مجزرة فض الاعتصام ، مستفز ولا يحترم عقولنا pic.twitter.com/M1vqWffte9
— Mutwakil Bahar (@mutwakilbahar) July 27, 2019
أما على المستوى العملي فجاء الرفض لأن التحقيقات لم تُبيِّن بوضوح الجهات المتهمة بل وجَّهت الاتهام بحروف غامضة لأشخاص غامضين، وأضافت “لا نفهم سببًا للإشارة للمتهمين بالأحرف بدلاً عن الأسماء كاملة، فلجان التحقيق لا يجب أن تخفي المتهمين في هذه المرحلة، بل يجب عليها نشر أسمائهم كاملة، ومسؤولية الجهات المختصة بالحجز والتحفظ عليهم ملزمة، ويجب أن يكون ذلك معلنًا وكل متهم برئ حتى تثبت إدانته”.
كذلك خرجت اللجنة بإحصاءات معيبة وناقصة للشهداء والضحايا والجرحى، ولا نفهم لماذا لم تستعن هذه اللجنة بالأرقام والإحصاءات التي قدمتها جهات مستقلة ومهنية مثل اللجنة المركزية للأطباء ونقابة الأطباء الشرعية؟! فيما لم تشر اللجنة في تقريرها للمفقودين، ولم تجرِ أي تحقيق في هذا الجانب.
وسياسيًا.. رفضت القوى ما أفضت إليه لجنة التحقيقات تماشيًا مع الشعور العام لدى السودانيين الذي أتى رافضًا للنتائج المعلنة، “نحن لسنا معنيون بها واتفاقنا في قوى إعلان الحرية والتغيير على تشكيل لجنة تحقيق وطنية مستقلة لإجراء تحقيق شفاف ودقيق بدعم إفريقي”.
تعمد إخفاء الحقائق
من جانبه استنكر حزب المؤتمر السوداني المنضوي تحت تحالف “نداء السودان” أحد مكونات قوى “إعلان الحرية والتغيير” ما وصفه بـ”تجاهل” التقرير للعديد من الحقائق المثبتة، منها حدوث حالات اغتصاب داخل محيط الاعتصام، وهو ما يخالف – بحسب قوله – تقرير معتمد لمنظمات عديدة دونت هذه الجرائم ووثقتها.
الحزب في بيان له شدد أنها وقائع ثابتة، تشبه إلى درجة كبيرة الممارسات الراتبة التي ظلت تحدث في مناطق الحروب في السودان كأدوات للإذلال ولتنفيذ مشاريع الإبادة الجماعية، وتابع “نرفض ما جاء في تقرير لجنة التحقيق هذه، ونؤكد على ضرورة أن تضطلع الحكومة الانتقالية المدنية بمهمة إجراء تحقيق مستقل وشفاف تستعين به بإشراف إقليمي بهدف كشف الحقائق كاملة، وتقديم المتورطين لمحاكمات عادلة”.
وفي الإطار ذاته أكد القيادي بقوى الحرية والتغيير، محمد ضياء الدين، عبر صفحته على فيسبوك، أن “لجنة التحقيق المستقلة بشأن مجزرة فض الاعتصام، (ستتشكل) عند تكوين السلطة الانتقالية المدنية بنص الوثيقة الدستورية”، فيما أشار القيادي، محمد الحسن المهدي أن: “تقرير لجنة التحقيق التي كونها المجلس العسكري لا يعنينا في شيء”.
حالة من الاحتقان خيمت على الشارع السوداني جراء النتائج التي لم تحقق الحد الأدنى من مطالب الثوار والمتعلقة بتقديم المتورطين الحقيقيين إلى العدالة
بات من الواضح أن هناك رغبة قوية لدى المجلس العسكري لإبعاد أي شبهة جنائية عنه في فض الاعتصام الذي يعد وصمة عار في جبين أي طرف شارك فيه، ومن ثم فهو حريص كل الحرص على الخروج بمظهر “البريء” الذي حذر من تلك الجريمة، حسبما أشارت أميرة ناصر، الصحفية المتخصصة في الملف السوداني.
ناصر لـ”نون بوست” أشارت أن التقرير بصيغته الحاليّة أثبت صدق تنبؤات شريحة كبيرة من الثوار، أيقنوا أن مماطلة العسكري في تشكيل لجنة تقصي حقائق مستقلة كان الهدف منه المواراة على تورطهم في جريمة الفض، لافتة أنه وبعد الإعلان رسميًا عن التقرير بات الشك في موضع اليقين.
وأضافت أن هناك تحركات قوية داخل قوى المعارضة لإعادة تشكيل لجنة مستقلة للتحقيق في المجزرة مرة أخرى، على أن يكون هناك وسيط إفريقي لم يحدد اسمه بعد، كاشفة أن تلك المطالب ستكون بالونة اختبار للمجلس العسكري، ففي حالة رفضه سيكون ذلك إعلانًا رسميًا بخشية كشف تورطه وهو ما سيلقي بظلاله على مستقبل الاتفاق السياسي الموقع.
المجلس العسكري الانقلابي، حاول من خلال تقرير اللجنة المكونة من قبل النائب العام للتحقيق في جريمة فض اعتصام القيادة العامة، إيجاد طوق نجاة لأعضائه، لكن التقرير جاء مدينا لهم، وبأدلة دامغة تقرب رقابهم من حبل المشنقة أكثر، فأكثر.
# محزرة_فض_الاعتصام
— عبداللطيف الهادي (@Ni6OjHmnPP7hSvs) July 28, 2019
فيما وصف الكاتب الصحفي وعضو تجمع المهنيين السودانيين محمد الأسباط، لجنة التحقيق الحاليّة بأنها “معيبة” لأنها تجمع في عضويتها خصمًا كان مشاركًا في “جريمة الفض”، حيث تضم مستشارين قانونيين يمثلون قوات الدعم السريع ومؤسسة الجيش وقوات الشرطة وجهاز المخابرات.
وأوضح في تصريحاته لـ”الجزيرة” أن الفض لم يكن خاصًا باعتصام الخرطوم فقط بل شمل جميع الاعتصامات على عموم التراب الوطني، إذ تعرضت للفض بالقوة “في ساعة صفر واحدة”، مشيرًا أن التحقيقات شملت استجواب أقل من 60 شخصًا أكثرهم من العسكريين مع أن الشهود بالمئات، وهناك عشرات الفيديوهات التي سجلت ما دار في الاعتصام، ولذا فإن عمل اللجنة “عبث سياسي لا قيمة له” ولن يقبل به أحد من قوى الحرية ولا من الشارع السوداني.
مطالب بتشكيل لجنة تقصي حقائق مستقلة
قلق بشأن الاتفاق
ميدانيًا.. تظاهر عشرات السودانيين، السبت، شرقي العاصمة الخرطوم؛ تنديدًا بنتائج لجنة التحقيق، حيث أفاد شهود عيان، لـ”الأناضول“، أن مواطنين في عدة مناطق بحي “بري” القريب من مقر قيادة الجيش، أغلقوا الشوارع الرئيسية بالمتاريس وأشعلوا إطارات السيارت تعبيرًا عن غضبهم من نتائج التحقيق.
حالة من الاحتقان خيمت على الشارع السوداني جراء النتائج التي لم تحقق الحد الأدنى من مطالب الثوار المتعلقة بتقديم المتورطين الحقيقيين إلى العدالة، وهو ما عبر عنه أحد المشاركين في تظاهرات الأمس بقوله: “نتائج لجنة التحقيق المعلنة اليوم تعني أن القتلة سيكونون طلقًا ولن يسائلهم أحد”.
إسماعيل التاج: تقرير فض الاعتصام فضيحة وسقوط أخلاقي https://t.co/9MfmJOXZar
— اخبار السودان (@sudanakhbar) July 28, 2019
وأمام هذه المستجدات يزداد الغموض بشأن مصير الاتفاق السياسي المزمع توقيعه بين المجلس والمعارضة، ففي ظل حالة الاحتقان وفقدان الثقة المتبادلة بات من الواضح أن الكثير من العقبات ستجد لها مكانًا في طريق تنفيذ الاتفاق وإعلان الوثيقة التي تم تأجيلها لحين التشاور بين قوى الحرية والتغيير والجبهة الثورية.
من جهة أخرى قررت قوى الحرية طرح “وثيقة الإعلان الدستوري” في استفتاء شعبي لإبداء الرأي بشأنها قبل التفاوض مع المجلس العسكري، وهي خطوة وصفت بـ”الذكاء” تستهدف تجنب الولوج في مخطط الوقيعة بين الشعب والقوى الثورية المعارضة، خاصة بعد الخلافات التي دبت بين صفوف تلك القوى خلافًا على بعض البنود التي شملها الاتفاق.
وفي المجمل يبدو أن الأمور لن تهدأ خلال المرحلة المقبلة كما كان يتوقع البعض عقب توقيع الاتفاق الذي ارتفع معه منسوب التفاؤل لدى الكثيرين، فرغم استئناف الحوار مجددًا بين الطرفين فإن الكثير من القنابل الموقوتة لا تزال تحت الرماد، قابلة للانفجار في أي وقت، وهو ما يجعل الأيام القادمة ساحة للكثير من التغييرات التي ربما يحمل بعضها مفاجآت.