يصادف اليوم ذكرى إنشاء وكالة ناسا الأمريكية للفضاء عام 1958 وهي مسيرة امتدت لأكثر من 60 عامًا وامتلأت بالعديد من الإنجازات والاكتشافات المذهلة، ولكنها في المقابل لم تخل أيضًا من بعض الخبايا والإخفاقات، وخاصةً لو ألقينا نظرة للوراء على تاريخ المرأة في الانضمام إلى برامج ريادة الفضاء ومحاولات ناسا استبعادها من هذا العالم والمحافظة عليه خاليًا من النجاحات النسائية.
التنميط المجتمعي يلاحق المرأة إلى الفضاء
بدايةً، نستعرض قصة سالي رايد التي لم تكن تخطط أبدًا لتكون رائدة فضاء حتى عندما حصلت على درجة الدكتوراة في الفيزياء الفلكية بجامعة ستانفورد، إذ لم تكن النساء تهدف بعد في سبعينيات القرن الماضي أن يدخلن إلى هذا العالم المبهر، ولكن مجموعة من النساء المبادرات مثل آنا فيشر وشانون لوسيد ومارغريت سيدون وجوديث ريزنيك وكاثرين سوليفان فتحن الأبواب لغيرهن من النساء عام 1978.
سالي رايد أول رائدة فضاء أمريكية
في تلك الأثناء كانت ناسا قد نجحت في تنفيذ عمليات هبوط على سطح القمر 6 مرات بين عامي 1969 و1972، والغريب أنها لم ترشح امرأة واحدة لهذه المهمة طيلة هذه السنوات، ومنذ ذاك الحين، بدأت رايد بالتساؤل ما إذا كان نوعها الجنسي يؤثر على تقدمها في هذا المجال، لا سيما حين سُئلت عما إذا كانت ستبكي إذا ساءت الأمور في الفضاء وإن كان السفر إلى هناك سيؤثر بأي شكل على قدرتها الإنجابية، وهي الأسئلة والتعليقات التي لم توجه إلى الرجال على الإطلاق.
الأسوأ من ذلك ما كشفته رايد عام 2002، عندما أفادت بأن مهندسي ناسا صمموا وصنعوا نموذجًا أوليًا لمساحيق التجميل التي يمكن استخدامها في الفضاء، وقالت: “لقد قرر المهندسون في ناسا، بحكمتهم اللامتناهية، أن رائدات الفضاء يردن استخدام المكياج في الفضاء، وأشارت إلى أنه إذا تم استشارتها بهذا الخصوص لما كانت ستدعهم يهدرون المال على توافه الأمور وأقلها أهمية”.
كيف عرقلت ناسا دخول النساء إلى الفضاء؟
عادةً ما كانت تبرر ناسا قلة الوجود النسائي في البرامج الفضائية إلى حاجتهن للتدرب على الطيران العسكري وكسب المهارات الهندسية وحل المشكلات الضرورية والطارئة لتلبية متطلبات السفر التي تسبب ضغطًا عاليًا وتتطلب جهدًا كبيرًا. وفي ذاك الوقت لم تكن قيادة المرأة للطائرات العسكرية أمرًا مألوفًا، وبالتالي منعها ذلك من اقتحام هذا العالم، ومع ذلك بحلول عام 1963، وافقت ناسا على قبول باز ألدرين ضمن فريقها رغم افتقاره للخبرة والتجربة العسكرية، وبذلك أصبح الفضاء حكرًا على الرجال.
يضاف إلى ذلك حجج أخرى، ومنها الطبيعة البيولوجية للمرأة وتأثير هرموناتها على قدرتها في قيادة المركبة الفضائية، فمنذ الأربعينيات، كانت الأبحاث الأكاديمية تلقي اللوم على هرمونات النساء في حوادث الطيران وتزعم أن دورتها الهرمونية تعيق قدرتها على تشغيل الآلات المعقدة، دون أن تقدم دليلاً علميًا واضحًا. عدا عن ترويجها لأفكار أخرى، مثل تأثير رحلات الفضاء على الجهاز التناسلي للمرأة وصحتها الإنجابية.
إذا بحثنا في الأسباب التي دفعت ناسا للاعتراف أخيرًا بحق المرأة في العمل ضمن هذا المجال، فسنجد أن قانون تكافؤ فرص العمل في الولايات المتحدة، أرغمها على توظيف النساء وإعادة تصميم وتعديل البدلات والمركبات الفضائية بما يتناسب مع حاجة المرأة وشكلها
وبطبيعة الحال، لم تصمت النساء إزاء محاولات الإقصاء، وقالت مارجريت سيدون، في ذلك الوقت إن ناسا أرسلت الرجال إلى الفضاء دون أن تدرس وتبحث في جميع المخاطر المحتملة، فلماذا لا تتعامل مع النساء بالمثل حتى تصبح هناك مشكلة حقيقية؟ فمع ذهاب 64 امرأةً إلى الفضاء، لم يتم الإبلاغ عن مشكلة واحدة قط.
أما إذا بحثنا في الأسباب التي دفعت ناسا للاعتراف أخيرًا بحق المرأة في العمل ضمن هذا المجال، فسنجد أن قانون تكافؤ فرص العمل في الولايات المتحدة، أرغمها على توظيف النساء وإعادة تصميم وتعديل البدلات والمركبات الفضائية بما يتناسب مع حاجة المرأة وشكلها. في هذا السياق، قال المؤرخ في مختبر أبحاث القوات الجوية بالولايات المتحدة والموظف السابق في وكالة ناسا، كيفين روسناك: “من الناحية الوظيفية، فقد فات الأوان لإعادة تصميم معدات أبولو لملاءمة رائدات الفضاء”.
علاوة على ذلك، لم يكن المسكن على متن مركبة الفضاء أبولو مناسبًا لطاقم مختلط من كلا الجنسين، كما أنهم لم يحظوا لا بالخصوصية الكافيّة ولا بمكان لقضاء حاجتهم، وكذلك صمّمت أنظمة التخلص من البول بشكل يناسب الرجال فقط.
ولا داعي لذكر أن هذه الإصلاحات المتأخرة، كلفت ناسا الكثير من الأموال، كما ألقت الضوء على تاريخها في التحيز الجنسي للذكور، فلقد توقفت الوكالة الأمريكية عن تصنيع بدلات الفضاء الصغيرة الملائمة لحجم النساء منذ التسعينيات بسبب القيود المفروضة على ميزانيتها، ومن وقتها لم يتم تحديثها أو تعويضها بأحجام أخرى، وبالتالي لم تمتلك إلا بدلات من الحجم المتوسط، حيث لا يوجد إلا بدلة واحدة للطيران.
وكان لهذا التقصير والتحيز آثار ملموسة على تقدم المرأة في هذا الجانب، ففي شهر أبريل/نيسان من هذا العام، كانت رائدتا الفضاء، آن ماكلاين وكريستينا كوش، تستعدان لقيادة أول رحلة نسائية للسير في الفضاء على الإطلاق ولكن تم استبدالهما بزميلهما، نيك هيج، بعد أن اتضح أنه لا يمكن تصنيع بدلة فضاء بالحجم المناسب لهما في الوقت المحدد للسفر، ما يعني أنه لو سمح للمرأة المشاركة منذ البداية، لما تأجلت هذه الخطوة.
حاولت ناسا تصحيح هذا الخطأ بإعلانها أنها تخطط لهبوط أول امرأة على سطح القمر عام 2024، أي بعد 55 عامًا من هبوط أول رجل في العالم، ومن أجل إتمام هذه المهمة جمعت 1.6 مليار دولار. كما ذكرت أن أول رحلة مأهولة إلى كوكب المريخ ستكون مختلطة بين الجنسين، كمحاولة للتعويض عن إغفالها للمرأة في عالم الفضاء.
وقد يبدو أن سياسة ناسا تغيرت بالفعل تجاه المرأة وبدأت في التركيز على حضورها في خططها وبرامجها، ولكن ترى عالمة الكواكب في جامعة براون، أدين دانتون: “هذا الهدف في حد ذاته جيد والخطوة التالية المتوقعة بعيدة عن السياق الاجتماعي والقومي، ومع ذلك، أظن أن خططهم الحاليّة التي وضعوها تولي أهمية إلى الرمزية أكثر من التقدم، رغم النوايا الحسنة المحتملة التي تقف وراءها”.
روسيا تصدرت السجل بإرسال أول امرأة إلى الفضاء عام 1963 وعلى متنها رائدة الفضاء، فالنتينا تيريشكوفا
مضيفةً “يمكن أن نفهم الخطاب الحاليّ بسهولة ألا وهو أن ناسا سترسل المرأة الوحيدة والأخيرة، ونأمل ألا يكون هذا القصد منه، ومثل الكثير من النساء العاملات في مجال استكشاف الفضاء وحوله، أود أن تشعر كل المجموعات التي لا تلقى تمثيلًا كافيًا وعادلًا بما في ذلك النساء، أنها تمتلك مكانة في استكشاف الفضاء وأن النساء سيلعبن دورًا حاسمًا في مواصلة دفع اكتشافات البشر إلى الأمام”.
بالنهاية، جدير بالذكر أنه لطالما كان الفضاء ملعبًا للمنافسة بين الروس والأمريكيين خلال سنوات الحرب الباردة، ولكن روسيا تصدرت السجل بإرسال أول امرأة إلى الفضاء عام 1963 وهي رائدة الفضاء فالنتينا تيريشكوفا التي تم اختيارها من بين أكثر من 400 اسم آخر، لتقتحم هذا العالم وتسجل انتصارًا لروسيا ضد أمريكا التي انتظرت حتى عام 1983 لكي تسمح، لسالي رايد، أول رائدة فضاء أمريكية، بخوض نفس التجربة.