جاءت تفاصيل اليوم الأول من تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار بغزة غير متوقعة بالمرة، على المستويين، الفلسطيني والإسرائيلي، وبعيدة تمامًا عن مخرجات المشهد الميداني، وتخيلات المحللين وتنبؤات المراقبين، فهي لا تعبر مطلقًا عن السردية التي حاول الكيان المحتل تمريرها للداخل والخارج، والتي تعزف على أوتار النصر المطلق والقضاء على المقاومة وإرضاخها لتلك الصفقة.
وكانت حركة المقاومة الإسلامية حماس عند الساعة 16:00 بالتوقيت المحلي لغزة (14:00 بتوقيت غرينتش) قد أطلقت سراح 3 من المحتجزات الإسرائيليات لديها وهن: رومي جونين (24 عامًا)، وإميلي دماري (28 عامًا)، ودورون شطنبر خير (31 عامًا)، فيما أفرجت سلطات الاحتلال الإسرائيلي عن 90 من الأسرى الفلسطينيين، 78 منهم تم نقلهم إلى الضفة الغربية و12 إلى القدس الشرقية المحتلة، حسب بنود الصفقة المبرمة بين الطرفين بضمان الثلاثي، مصر وقطر والولايات المتحدة.
وبحسب الاتفاق استقبل قطاع غزة أكثر من 630 شاحنة محملة بالمساعدات الإنسانية عبر معبر كرم أبو سالم، وفق ما أكد وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، توم فليتشر، على أن يتم إدخال قرابة 600 شاحنة يوميًا طيلة الاتفاق المقسم إلى 3 مراحل كل منها 42 يومًا.
وبين الفرحة العارمة والاحتفالات الصاخبة فوق أنقاض القطاع المُدمر، في مقابل الصراخ والسعار داخل أروقة الحكومة الإسرائيلية وأنصار اليمين المتطرف، شهدت غزة في اليوم الأول لدخول الاتفاق حيز التنفيذ 3 مشاهد رئيسية، ذات دلالات مباشرة ورسائل مبطنة، قد تُعيد ترتيب الخريطة مجددًا بعدما نسفت بشكل كبير جل الادعاءات التي ساقها رئيس الحكومة العبرية بنيامين نتنياهو وجنرالات جيشه، بشأن الانتصارات الميدانية التي حققها خلال تلك الحرب، فالأمر لم يحتاج سوى 5 ساعات فقط كانت كفيلة أن تطيح بإنجازات 470 يومًا من القتال..
المشهد الأول: استعراض القسام لقوتها
في الساعات الأولى من صباح أمس الأحد ظهر المئات من عناصر كتائب عز الدين القسام في شمال غزة، بزي قتالي موحد، مرتدين لثامًا وعصبات خضراء موحدة، يتجولون بمركبات ناصعة البياض لم يبدو عليها غبار المعركة، في مشهد كما لو كانوا في اليوم الأول من الحرب قبل 15 شهرًا.
المشهد كان مفاجئًا حتى للمقربين من المقاومة ومن أنصارها في الداخل والخارج، فبعد 470 يومًا من القتال وتدمير أكثر من 90% من بنية قطاع غزة، ما كان يتوقع أحد أن تكون الصورة بتلك الكيفية، ناهيك عن الصدمة التي خيمت على الإسرائيليين الذين ذُهلوا من تفاصيل تلك اللوحة الواقعية التي دفعت عشرات علامات الاستفهام لأن تُطل برأسها باحثة عن إجابة.
اللوحة الصادمة اكتملت أضلاعها بالانتشار الكثيف لعناصر الشرطة التابعة لحكومة غزة التي تديرها حماس، فمنذ أن دقت عقارب الساعة معلنة تمام الـ8:30 بتوقيت غزة، وهو الموعد المحدد لبدء سريان الاتفاق، انتشرت تلك العناصر التي ارتدت زيها الرسمي باللون الأزرق الداكن، في مختلف مناطق القطاع، لمباشرة عملهم في ضبط الأمن وملاحقة الخارجين عن القانون، وسط استقبال وترحيب واسع النطاق من الغزيين.
لا شك أن حماس تسعى من خلال هذا الاستعراض العلني لقوتها للتأكيد على أنها لا تزال تمتلك القدرة التنظيمية والقتالية والبنيوية التي تؤهلها للبقاء في الميدان لمسافات أطول مما كان يعتقد المحتل، وهي بذلك تفند المزاعم التي رددها جنرالات الجيش الإسرائيلي بشأن القضاء على الحركة وكامل بنيتها وقوامها العسكري، كذلك تقدم بالدليل القاطع الذي لا يقبل الشك ولا التأويل المتعرج، فشل نتنياهو وجنرالاته في تحقيق الهدف الرئيسي لتلك الحرب، وهو القضاء على حماس، والذي أعُلن عنه بعد ساعات من عملية طوفان الأقصى أكتوبر/تشرين الأول 2023.
عناصر من المقاومة يوجهون رسالة للشعب الفلسطيني من شوارع #غزة: تضحياتكم لم تذهب هدراً، المقاومة معك وهي راس مالك#غزة_تنتصر pic.twitter.com/a2OmcUmfum
— نون بوست (@NoonPost) January 19, 2025
وأحدث هذا المشهد جدلًا واسع النطاق في الداخل الإسرائيلي، وثّقته تغريدات الجنرالات والنخبة السياسية على مواقع التواصل الاجتماعي، ونقلته وسائل الإعلام العبرية، حيث علقت القناة “14” الإسرائيلية على هذا الاستعراض الحمساوي قائلة: “كيف يمكن أنه بعد سنة و3 أشهر لا تزال هناك مثل هذه المركبات في القطاع؟ هذا هو بالضبط ما يبدو عليه الفشل العسكري”.
وفي سياق الرسائل التي تبعث بها الحركة، تلك التي توجهها إلى سلطة محمود عباس أبو مازن في رام الله، التي تحاول الاصطياد في الماء العكر، مستغلة التطورات المضطربة في القطاع لتقديم نفسها كسلطة قادرة على إدارته وحكمه، مقدمة لأجل هذا الهدف الغالي والنفيس لدعم أجندة الاحتلال، سواء بالوشاية تجاه بعض عناصر المقاومة أم محاربتها بشكل علني ومباشر، فضلًا عن تضييق الخناق على سكان الضفة ومنعهم من دعم أشقائهم في القطاع.
وكأن المقاومة بهذا المشهد المفاجئ، المُربك بطبيعة الحال للكثير من الحسابات، بعد أكثر من 15 شهرًا من حرب إبادة مكتملة الأركان، ارتقى خلالها نحو 47 ألف فلسطيني، فيما أصيب أكثر من 110 ألف آخرين، ودُمرت غالبية بنية القطاع الذي تحول إلى أرض محروقة، تُترجم حرفيًا ما قاله الشاعر السعودي مهذل مهدي الصقور في قصيدته الشهيرة:
أتَظن أنّك عندمَا أحرقتَنِي.. ورقصتَ كالشيطانِ فوق رفَاتِي
وتركتني للذّاريات تذرّنِي.. كُحلاً لعينِ الشّمسِ بالفلواتِ
أتظن أنّك قد طمَست هويّتي.. ومحَوتَ تاريخي ومعتقداتِي
عبثاً تحاولُ لا فناءَ لثائرٍ.. أنا كالقيامةِ ذاتَ يومٍ آتي
المشهد الثاني: تسليم الأسيرات
في تمام الساعة 16:00 بالتوقيت المحلي لغزة (14:00 بتوقيت غرينتش) كان المشهد الثاني الذي كان مسرحه ساحة السرايا في قلب مدينة غزة، حين سلمت عناصر القسام اللجنة الدولية للصليب الأحمر الأسيرات الإسرائيليات الثلاثة، وسط حضور جماهيري غفير من الغزيين والصحفيين.
شهدت عملية التسليم مواكب مهيبة لمقاتلي القسام وهي تتجول في ساحة السرايا، بأريحية كاملة ودون أي قلق، فوق مركباتها العسكرية وعلى الأقدام، حيث ظهروا بكامل عدتهم وعتادهم وزيهم العسكري وأسلحتهم الثقيلة والخفيفة، واستعراض قوة أشبه بهذا الذي تم مع الساعات الأولى من صباح ذلك اليوم.
وظهرت الأسيرات الثلاثة وهن بحالة صحية جيدة، عكس ما بدا عليه الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال، فيما قدمت حماس لهن هدايا تذكارية تضمنت خريطة لقطاع غزة وصورًا للأسيرات في أثناء فترة الأسر، وشهادة تقدير، حسبما قالت هيئة البث العبرية الرسمية، في خطوة أثارت الكثير من الجدل ولاقت تفاعلًا كبيرًا داخل الوسط الإسرائيلي.
جدير بالذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي تُظهر فيها الحركة معاملة حسنة للأسرى الإسرائيليين، ففي الهدنة الأولى التي جرت أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2023 واستمرت حتى مطلع ديسمبر/كانون الأول 2023، وتم خلالها تبادل للأسرى، ظهر المفرج عنهم من المحتجزين الإسرائيليين في حالة صحية ونفسية ممتازة، ما أثار حينها الرأي العام الإسرائيليين والعالمي، وهو ما يتناقض شكلًا ومضمونًا مع الأسرى الفلسطينيين المحررين من سجون الاحتلال، إذ بدت عليهم علامات التعذيب والتنكيل والتجويع والصدمات النفسية.
منحتهم هدايا تذكارية.. كتائب القسام تنشر مشاهد من تسليم الدفعة الأولى من الأسرى الإسرائيليين في قطاع غزة ضمن المرحلة الأولى من تبادل الأسرى. pic.twitter.com/ddNlXH4FND
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) January 19, 2025
تؤكد المقاومة من خلال هذا المشهد قدرتها الفائقة على إدارة ملف الأسرى باقتدار غير مسبوق، سياسيًا وأمنيًا وإعلاميًا، فرغم آلة التدمير والتجريف التي حولت 90% من قطاع غزة إلى ركام وأطلال، وتعاون أعتى أجهزة الاستخبارات العالمية مع الموساد والشاباك الإسرائيليين، فإنهم فشلوا في العثور على مكان اختفاء هؤلاء المحتجزين طيلة 480 يومًا، الأمر الذي يمنح حماس التفوق الكاسح على كل تلك الأجهزة الاستخباراتية الدولية.
وبالتوازي مع إدارة هذا الملف أمنيًا واستخباراتيًا، كانت إدارته الإعلامية والنفسية رقمًا مهمًا في نجاح المقاومة في تحقيق هذا الملف لأهدافه، حيث مثلت ضغطًا قاسيًا على الشارع الإسرائيلي وعائلات الأسرى الذين شكلوا بدورهم ضغطًا سياسيًا على نتنياهو الذي وجد نفسه في مأزق حقيقي، فلا هو قادر على تحرير أسراهم بالقوة، ولا مستعدًا لإبرام صفقة تبادل سياسية قد تُطيح به وبمستقبله.
كما أن اختيار ساحة السرايا في قلب مدينة غزة تحديدًا لإتمام عملية تبادل الأسرى، حمل هو الآخر دلالة سياسية مهمة، إذ تعد تلك الساحة من أهم الميادين المركزية في المدينة التي تربط شارعي الجلاء وعمر المختار الرئيسيين، وكانت قد تعرضت لتدمير واسع ومكثف خلال العمليات العسكرية الإسرائيلية، ومن ثم فإن هذا الاختيار لم يكن عشوائيًا بالمرة، فهو رسالة تحدٍ واضحة للكيان المحتل تحمل الكثير من الدلالات السياسية المعمقة.
التساؤل الذي أصبح جدليًا لكنه يفرض نفسه بقوة على ألسنة الإسرائيليين والعرب سواء: أين وكيف استطاعت المقاومة إخفاء هؤلاء الأسرى كل تلك الفترة بعيدًا عن أعين الاستخبارات الإسرائيلية وقصفها الذي لم يترك شبرًا واحدًا فوق القطاع وتحته إلا واستهدفه؟ ثم كيف حافظوا على حالتهم الصحية والنفسية بهذا الشكل؟ أسئلة تحمل إجاباتها مفاتيح فك الكثير من طلاسم المشهد.
المشهد الثالث: الالتفاف الشعبي حول عناصر المقاومة
بالكاد كانت عناصر المقاومة تستطيع التحرك في ظل هذا الزخم الجماهيري والتكدس المزدحم لسكان القطاع الذين التفوا حولهم وحاوطوهم بالهتافات الداعمة والمؤيدة لهم، شوهد هذا الالتفاف في أكثر من مشهد، تارة في أثناء العرض العسكري شمالًا في الساعات الأولى لدخول الاتفاق حيز التنفيذ، وأخرى خلال تسليم الأسيرات الثلاثة.
الصورة كانت صادمة للمحتل الذي طالما أوهم نفسه بأن يخرج سكان القطاع منددين ومنتقدين للمقاومة، محملين إياها مسؤولية الكوارث التي شهدتها غزة والدمار الذي حل بها، تلك كانت السردية التحريضية التي يرددها الإعلام العبري وإعلام بعض الأنظمة العربية، لكن ما حدث كان عكس عقارب الساعة النتنياهوية، فالترحاب بدلًا من الانتقاد، والتأييد بديلًا للهجوم، وتجديد الدعم والبيعة مقابل الانعزالية والحصار.
المشهد بتفاصيله التي لم تستغرق سوى بضع دقائق، نسف وبشكل لا يمكن إنكاره، مزاعم الاحتلال بشأن نجاحه في تجريد حماس من حاضنتها الشعبية بعد تحميلها مسؤولية ما تعرض له الغزيون طيلة تلك الحرب، ليبرهن بما لا يدع مجالًا للشك اللحمة القوية بين المقاومة وسكان القطاع، والتي كانت وستظل أحد أبرز الأسلحة التي تستند إليها الفصائل الفلسطينية في معارك التحرير التي تخوضها ضد الاحتلال.
"تحيا المُقاومة هدول على راسنا"
"هدول بنفوت عشانهم مليون حرب ي نتنياهو"هذه هي حاضنة المقاومة في غزة
عن عظمة أولئك البشر أتحدّث💚 pic.twitter.com/7xMQhtG7Er— Batoul Jarrar (@BatoolJarrar5) January 19, 2025
ومن الظواهر التي فرضت نفسها كأحد المشاهد الواجب تسليط الضوء عليها، بالبحث والدراسة وتقدير المواقف، حالة الانتصار التي نقلتها وجوه سكان القطاع، تلك الفرحة العارمة، المفعمة بالعزة والكبرياء، والمخضبة بدماء الصمود والتحدي، فمثل تلك الفرحة أبدًا لن تكون لمهزوم، وهذه الأحاسيس التي تنضح بالأمل والمستقبل مستحيل أن تُمنح لمكسور، ليسطر أهل غزة بماء من ذهب قاموسًا جديدًا لمفاهيم النصر والهزيمة، المكسب والخسارة، بأبجديات مغايرة ومعايير مختلفة ترسخ لحقيقة واحدة مفادها أن هذا الشعب لا يمكن تركيعه ولا هزيمته مهما كانت الكلفة.
في ضوء ما سبق..
كشف اليوم الأول لاتفاق غزة، بكل تفاصيله ومشاهده وما تحمله من دلالات ورمزيات ورسائل، عن الكثير من المسكوت عنه بشأن اليوم التالي للحرب، وهو ما أكدت عليه صحيفة “وول ستريت جورنال” حين أشارت إلى أنه لا تهديد لمكانة حماس في غزة حتى لو تم استبعادها، فيما نقلت عن مسؤولين إسرائيليين قولهم إن الحركة رغم فقدها للآلاف من مقاتليها ومعظم قادتها لكنها جندت كثيرين جددًا، وهو ما كان قد أشار إليه وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، مؤكدين أن المقاومة ذات جذور عميقة في غزة، واتفاق وقف إطلاق النار قد يعزز مكانتها، وهذا ما يقلق الإسرائيليون، ومن المتوقع أن يزيد من تفسخ الجبهة الداخلية ويضع مستقبل نتنياهو على المحك.