ترجمة وتحرير: نون بوست
من سنة 1969 إلى حدود سنة 1972، سار 12 رجلاً على سطح القمر، ولا يزال أربعة منهم فقط على قيد الحياة. ولكن لم يعد أي أحد إلى كوكب القمر منذ ذلك الحين، ومن غير الواضح متى يمكن لأي شخص العودة إلى هناك.
تراوحت أعمار رائدي الفضاء الأربعة بين منتصف وأواخر الثلاثينيات عندما سافروا ملايين الأميال لزيارة الجرم السماوي المصاحب للأرض. اليوم، بلغ هؤلاء الرائدون سنّ الثمانين، وأصبح شعرهم رماديا مثل لون سطح القمر. ولا يزالون محطّ اهتمام عامّة الشعب، حيث يجرون المحادثات والمقابلات، خاصة في الوقت الحالي، مع حلول الاحتفال بالذكرى السنوية الخمسين لمهمّة أبولو التاريخية.
لكن رائدي الفضاء الذين ساروا على سطح القمر سوف يتركوننا في يوم من الأيام، حاملين معهم ذكرياتهم الحية التي توثّق تجربة بغاية الروعة لا يمكن لنا أن نفهمها. وبالنسبة للأجيال الأصغر سنا، قد تبدو فكرة الهبوط على سطح القمر، التي وثّقت في لقطات من الأسود والأبيض مشوّشة، بعيدة عن التحقّق مثل بعد القمر.
بفضل البيئة الخالية من الهواء والتربة القمرية الشبيهة بمسحوق التلك، لم يكن رواد الفضاء قلقين بشأن الضياع هناك
لقد كان القمر مكانًا غريبًا، إذ غمر بز ألدرن، الذي يبلغ اليوم 89 سنة، شعور بالارتباك بينما كان يتأمّل المشهد الذي أمام عينيه. وكتب في مذكراته سنة 1974: “عندما ينظر المرء إلى الأفق على سطح الأرض، يبدو مسطحًا، ولكن على سطح القمر، وهو كوكب أصغر بكثير من الأرض ومن دون تضاريس عالية، تنحني أرض القمر في جميع الاتجاهات بشكل واضح”.
بفضل البيئة الخالية من الهواء والتربة القمرية الشبيهة بمسحوق التلك، لم يكن رواد الفضاء قلقين بشأن الضياع هناك. وفي مناسبة نظّمت السنة الماضية، قال تشارلز دوك الذي زار القمر سنة 1972: “إنّك تترك آثار أقدامك أينما تسير، وبالتالي تستطيع أن تستدير وتتبع تلك الآثار لتعود من حيث جئت”.
شبّه ديفيد سكوت، الذي أصبح أول شخص يقود مركبة في كوكب آخر سنة 1971، المشهد الساكن بالصور التي يلتقطها المصور أنسل آدمز. وكتب في مذكراته سنة 2004: “لم يكن هناك أي لون، بل فقط التناقض الكبير بين السطح المضيء والظل الأسود الذي تخلّفه سفوح المنحدرات الجبلية والفوهات البعيدة عن أشعة الشمس”. وأضاف سكوت: “لقد اكتشفت أن للقمر رائحة شبيهة بالمعدن قليلاً، مثل البارود، والتي غمرت المركبة القمريّة للفترة المتبقية من رحلتنا”.
لقد وُثّقت هذه التجارب وغيرها بشكل جيد من خلال لقطات مشوّشة وصوت متقطّع، وفي ملفات الطيران، والكتب، والأفلام الوثائقية، وأفلام هوليوود، والتقارير والمقابلات الإخبارية التي لا تعد ولا تحصى. وهناك مقطع صغير رائع لأحد رواد الفضاء الأربع الذين لايزالون على قيد الحياة، هاريسون شميت، وهو يتوسل إلى قسم “مراقبة المهمة” ليسمحوا له بإلقاء مطرقته في السماء القمرية قبل الدخول إلى القمرة للعودة إلى كوكب الأرض.
كان آلان بين، وهو رائد الفضاء من مهمّة أبولو الذي توفي السنة الماضية عن عمر يناهز 86 سنة، المرشد القيّم على فصل بولدن أثناء التدريب
اليوم، يبلغ شميت من العمر 84 سنة، وهو العالم الجيولوجي الأول والوحيد الذي زار القمر، وبدا أنه من المناسب حينها أن يترك على القمر أداة من اختياره. ومن ثمّ هتف “انظروا إلى ذلك!” تماما بعد موافقة مديري الطيران وهو ينظر إلى المطرقة وهي تسقط كما لو أنها لطخة بيضاء صغيرة تتحرك أمام الخلفية الرمادية الضخمة. قضى شميت ما مجموعه 22 ساعة خارج الكبسولة، وساعد على جمع أكبر كمية من عينات القمر.
أورد تشارلز بولدن، رائد الفضاء السابق الذي شغل منصب مدير وكالة ناسا في إدارة أوباما، أن هذه التسجيلات ليست مؤثّرة مثل الاستماع إلى رواد الفضاء مباشرة. وأضاف بولدن أنه عندما يموت آخر شخص من بين الذين وطئت أقدامهم سطح القمر “سيكون الأمر شبيها بفقدان آخر محارب قديم في الحرب العالمية الثانية، ونحن قريبون بشكل خطير من ذلك اليوم، أو آخر محارب قديم في الحرب الكورية. وحينها سنفقد أي فرصة ممكنة للتحدّث مباشرة مع هؤلاء الناس والاستماع إلى تجاربهم”.
حظي بولدن بمثل هذه الفرصة سنة 1980، كموظف جديد لناسا من مشاة البحرية. فقد اعتاد رواد الفضاء التابعون لأبولو زيارة مكتب رواد الفضاء التابع لناسا في هيوستن مرة واحدة سنويا لإجراء فحوصاتهم البدنية السنوية ليستعيدوا بذلك ذكرياتهم رفقة رواد الفضاء المبتدئين.
كان آلان بين، وهو رائد الفضاء من مهمّة أبولو الذي توفي السنة الماضية عن عمر يناهز 86 سنة، المرشد القيّم على فصل بولدن أثناء التدريب. في هذا السياق، أورد بولدن قائلا: “هذا هو الرجل الذي سار على سطح القمر، والذي تخلى عن سنة من حياته بينما كان بإمكانه القيام بعدّة أشياء أخرى، للإشراف على هؤلاء الأطفال الذين يتطلعون إلى أن يكونوا رواد فضاء”.
يعدّ رواد الفضاء من مهمّة أبولو الذين وطئت أقدامهم سطح القمر بمثابة شهادات حيّة عن قوّة الإنجاز البشري، كما لو أنهم ينشرون الإلهام بلا منازع
من السهل على رواد الفضاء من مهمّة أبولو الاحتفاظ بالذكريات المتعلّقة بالشكل المعتاد للأرض، مقارنة مع التجربة المعرفية المتميزة التي يحظون بها عند النظر إلى الأرض من الفضاء. وفي هذا الصدد، يقول بعض رواد الفضاء الذين سافروا إلى مدار الأرض إنهم يكتسبون منظورا مختلفا عن هذا الكوكب بفضل هذه التجربة، وذلك لأن هذه الكرة المتكوّنة من اللون الأزرق والأبيض والمعلّقة في سواد الفضاء غير المستقر، تبدو هشة لا سيما في ظلّ المخاطر الناجمة عن تغير المناخ.
في الواقع، يتضخّم هذا التأثير أكثر عند التواجد على القمر، حيث تظهر الأرض مثل الرخام اللامع. وذكر ألدرن في كتابه: “بدت لنا الأرض من الفضاء كاملة ومشرقة وجميلة، أما من سطح القمر فقد بدت صغيرة ومعرّضة للخطر بشكل ما. ولكن مع كل عيوب كوكب الأرض، يبقى مكانا رائعا نأتي منه ومكان أكثر روعة نعود إليه”.
يعدّ رواد الفضاء من مهمّة أبولو الذين وطئت أقدامهم سطح القمر بمثابة شهادات حيّة عن قوّة الإنجاز البشري، كما لو أنهم ينشرون الإلهام بلا منازع. فعندما تسأل الناس عن إمكانيّة وجود عالم خال من هؤلاء الرواد، فغالبًا ما يكون الردّ متعلّقا بهذا الإلهام ومدى الاكتئاب الذي سيحلّ في حال فقدانه.
شاهد قرابة 600 مليون شخص في جميع أنحاء العالم ألدرن ونيل أرمسترونغ وهم ينزلون السلم خلال البثّ التلفزي المباشر. وقد شاهدت باميلا ميلروي، وهي رائدة فضاء مكوكية سابقة ساعدت في تجميع محطة الفضاء الدولية، هذا البثّ عندما كانت في سنّ السابعة خلال قضائها إجازة مع أسرتها على شاطئ جيرسي.
أضافت ميلروي: “لقد شاهدنا برنامج “ستار تراك” معًا، لذلك كنا جميعًا مهووسين بمثل هذه الأمور على أي حال. لا أذكر ما خطر ببالي حينها، لكنني أعلم أنه في غضون سنتين قرّرت أن أصبح رائدة فضاء”. وأشارت ميلروي أيضا إلى أنها تخشى حلول يوم وفاة آخر رائد من مهمّة أبولو، و”تأمل حقا أن يتمكّن أشخاص آخرون من السير على سطح القمر قبل أن يأتي ذلك اليوم”.
تُعتبر هذه المحاولة غير مُجدية لتواجد عدّة عوائق تتراوح بين المخاطر الفنية والتحولات السياسية، مع احتمال فوز دولة أخرى في هذا السباق الفضائي
عند طيران طاقم الرحلة القمرية الأخيرة نحو الأرض، تنبّأ الرئيس ريتشارد نيكسون سنة 1972 بأن تكون هذه المرة الأخيرة التي يمشي فيها الإنسان على سطح القمر خلال هذا القرن. ولكن بعد إقلاع المركبة لسّت مرات على مدى ثلاث سنوات ونصف، بدا من السهل تصوّر إمكانية العودة إلى سطح القمر. وحاليا، أصدر البيت الأبيض تعليماته لوكالة ناسا لإرسال بعثة مؤلفة من طاقم رواد فضاء إلى سطح القمر سنة 2024، طالبًا الدّعم المالي من الكونغرس.
مع ذلك، تُعتبر هذه المحاولة غير مُجدية لتواجد عدّة عوائق تتراوح بين المخاطر الفنية والتحولات السياسية، مع احتمال فوز دولة أخرى في هذا السباق الفضائي. وإذا ما تمكّن الطاقم القادم من رواد الفضاء من الوصول مرّة أخرى إلى سطح القمر، فلن تكون التّجربة مشابهة لتجربة رواد فضاء أبولو، رجال ذوي بشرة بيضاء لهم خلفيات تعليمية وعسكرية مماثلة. وفي هذا الصدد، تقول إدارة ترامب إن برنامج أرتميس الجديد التابع لناسا والمسّمى كناية عن اسم شقيقة أبولو في الأساطير اليونانية، سيُقِّل أول امرأة إلى سطح القمر. ويأمل بولدن، بحلول ذلك الوقت، أن يَضُّم الطاقم أشخاصًا من أصحاب البشرة السمراء.
سرد بولدن مشاهدته لأوّل هبوط على سطح القمر في مسيسيبي، حيث كان يتدرب على طائرة تابعة لقوات مُشاة البحرية. وقد وصف المشهد بالسّاحر، لكن الحدث في حدّ ذاته لم يلهمه ليصبح رائد فضاء. وذكر بولدن في هذا السياق: “لقد نشأتُ في الجنوب ذي الانقسامات العنصرية”. وأضاف قائلاً “أن تصبح رائد فضاء لم يكن أمرا في قائمة الأشياء التي يمكن لطفلٍ أسودٍ من كارولاينا الجنوبية أن يقوم بها، حسب رأيي”.
بعد مُضي عقدٍ من الزمن، تقدّم بولدن بطلب إلى وكالة ناسا للفضاء، بناءً على طلب من رون ماكنير، عُضو في مجموعة روّاد الفضاء في ناسا سنة 1978، وهي أول مجموعة جديدة تأسسّت بعد برنامج أبولو، حيث كان ماكنير ثاني رجل أمريكي من أصل أفريقي يحلّق إلى الفضاء وتوفي أثناء تحطم مكوك الفضاء تشالنجر، بعد ستِّ سنوات من حصول بولدن على الوظيفة.
هذه السنة، سيفوق عددُ جيل الألفية عددَ مواليد فترة طفرة المواليد، وسيمثّل أكبر نسبة من عدد السكان البالغين في الولايات المتحدة، وفقًا للبيانات الحكومية الصادرة عن مركز بيو للأبحاث
صرّح بولدن اليوم: “كنت بحاجة لرؤية شخص يشبهني”. وقد ذكر المتقدّمون بمطالب للترشّح كروّاد فضاء خلال الجولات القليلة الماضية أنّ الحافز الأساسي وراء تقديم الترشُّحات هو الاضطلاع بمهّام مكوك الفضاء وليس الهبوط على سطح القمر، حسب رأي أولئك الذين قيّموا هذه المطالب.
هذه السنة، سيفوق عددُ جيل الألفية عددَ مواليد فترة طفرة المواليد، وسيمثّل أكبر نسبة من عدد السكان البالغين في الولايات المتحدة، وفقًا للبيانات الحكومية الصادرة عن مركز بيو للأبحاث. مع ذلك، لم يُشكّل برنامج أبولو اللحظة الحاسمة لاكتشاف عالم الفضاء، بالنسبة لأبناء هذا الجيل، مواليد 1981 إلى 1996. إنّهم يتذكرون أساتذتهم وهم يقومون بنقل أجهزة التلفزيون الضخمة إلى الفصول الدراسية لمشاهدة إطلاق مكوك فضائي أو مشاهدة بثّ مباشر على أجهزة الكمبيوتر المحمولة الخاصة بهم لصاروخ من صُنع سبيس إكس وهو بصدد الطيران؛ لكنّهم اعتادوا تجميع صورٍ لإيلون ماسك وجيف بيزوس أكثر من صور نيل أرمسترونغ وبز ألدرن.
عندما عاد روّاد فضاء أبولو 11 إلى سطح الأرض، لم يكونوا مُشابهين لأيّ مسافرين آخرين على مرّ التاريخ. ولكن تعيّن عليهم اتباع القواعد التي تحكم الدخول إلى الولايات المتحدة، الأمر الذي ُيفسّر وجود أكثر النسخ سخافةً من نماذج تسجيل الجمارك. فعندما تطلّب النموذج تحديد موقع المغادرة، كتبت ناسا “القمر”، وكانت الشحنة “عيّنات من صخور القمر وغبار القمر”.
أمّا فيما يتعلق بما إذا كان المسافرون قد عانوا من أي ظروف صعبة على متن الطائرة يمكن أن تؤدي إلى انتشار الأمراض، كتبت ناسا “يتبع”. ولم يكن لدى العلماء والأطباء أي فكرة أيضا عمَّا يُمكن أن تفعله البيئة القمرية بجسم الإنسان، لذلك أمضى أرمسترونغ وألدرن ومايكل كولينز شهرًا في الحجر الصحي.
اعتقد بعض العلماء أن السطح قد يكون رخوا، وقد يتسبب في غرق رواد الفضاء، لكنّهم على عكس ذلك حافظوا على توازنهم، بل والتصق الغبار ببدلاتهم الفضائية، ممّا دفعهم إلى محاولة التخلّص منه بأيّ طريقة
تُعتبر الوثيقة مضحكة وسخيفة، لكنّها كانت بمثابة نقطة تحوّل في التصور القديم الذي عهدناه منذ آلاف السنين للجرم الساطع في حُلكة الليل، حيث بيّنت بوضوح للمسافرين الذين لن يغادروا الأرض أبدًا أن القمر مكان حقيقي يُمكن للناس حقّاً أن يذهبوا إليه. ليس ذلك فحسب، بل يمكنهم القيام ببعض الأمور هناك.
علاوة على ذلك، اعتقد بعض العلماء أن السطح قد يكون رخوا، وقد يتسبب في غرق رواد الفضاء، لكنّهم على عكس ذلك حافظوا على توازنهم، بل والتصق الغبار ببدلاتهم الفضائية، ممّا دفعهم إلى محاولة التخلّص منه بأيّ طريقة. كما قام رواد الفضاء بتسلّق المنحدرات اللينة وقاموا بجولة على متن المركبة. كما استمتعوا بوجبة مجففة بالتجميد، واستلقوا في أكياس النوم الخاصّة بهم، وقاموا بتغطية مركبتهم الفضائية للتخفيف من أشعّة الشمس الحارقة والقادمة من الأرض. وعند مغادرتهم، علقت آثار أقدامهم على سطح القمر التي ستظل محفورة هناك لعشرات الآلاف من السنين.
جعل رواد الفضاء من أبولو منزلهم في عالم آخر، حيث امتدّت سطوة البشرية إلى ما وراء حدود كوكبنا “ذرة من الغبار معلقة في شعاع الشمس”، على حد تعبير كارل ساجان. فبدون إنجازات رواد الفضاء، تتراجع قدرات الإنسانية تجاه هذا الكوكب المألوف على وجه الخصوص، والذي قد يكون في القريب العاجل، المكان الوحيد خارج الأرض الذي سار عليه الإنسان.
المصدر: الأتلانتيك