هناك اعتقاد سائد يربط الاكتئاب بقلة النشاط البدني وعدم ممارسة الرياضة، فإذا كنت تشعر بالاكتئاب ستجد بالتأكيد من يخبرك أنه بسبب عدم ممارستك للرياضة.. فقط اركض بشكل يومي وسوف يتبخر الاكتئاب.
جمل مثل هذه تشعر مريض الاكتئاب بعدم رغبته بمشاركة مشاعره مع أحد، ورُبما ينغلق أكثر فأكثر أو تسوء حالته.
لكن هل حقًا الرياضة الحل السحري للاكتئاب؟
أراد باحثو المجلة الطبية البريطانية “BMJ” من جامعتي “بريستول” و”إكستر”، و”كلية بينينسولا للطب وطب الأسنان” معرفة ما إذا كان إدخال نشاط بدني معين من خلال الأطباء المتخصصين في بريطانيا ضمن نطاق النظام العلاجي الخاص بمريض الاكتئاب سيساعده على التحسن.
يسمى هذا التدخل باسم “TREAD“، وهو اختصار لـ”علاج الاكتئاب بمساعدة النشاط البدني”، وهي نظرية تعتمد توفير مدربين متخصصين لدعم المصابين بالاكتئاب بشكل فردي كي ينخرطوا في النشاط البدني.
صُمم نظام “TREAD” لجعل المرضى يلتزمون بالنشاط البدني على المدى الطويل
أراد الباحثون اختبار نظرية الـ”TREAD“، رغم وجود أدلة تشير إلى أن التمرينات الرياضية مفيدة للأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب، إلا أن تلك الأدلة شبه واهية، وتوجد في دراسات صغيرة وغير معترف بها من برامج الخدمة الصحية الوطنية “NHS“.
لقد صُمم نظام “TREAD” لجعل المرضى يلتزمون بالنشاط البدني على المدى الطويل، والسمة الرئيسية فيه هي تشجيع المرضى على اختيار أنشطتهم الخاصة، اعتمادًا على احتياجاتهم الفردية، وما يمكنهم القيام به بسهولة في بيئاتهم الخاصة، فالمريض يتلقى ثلاث جلسات وجهًا لوجه مع المسؤول، وهو شخص تم تدريبه على أساليب إجراء المقابلات التحفيزية، كما أنه يتواصل مع المرضى من خلال عدد من المكالمات الهاتفية التي تصل إلى عشر مكالمات.
في دراسة خاصة بالمجلة الطبية البريطانية BJM استمرت من ستة إلى ثمانية أشهر، مع مشاركة معظم المدربين في الأربعة أشهر الأولى، شارك فيها 361 مريضًا بالغًا، تتراوح أعمارهم بين 18 و69 سنة من الذين تم تشخيصهم مؤخرًا بالاكتئاب في عدة مراكز مختلفة في الولايات المتحدة، تم تقسيم المرضى إلى مجموعتين: الأولى تلقت الرعاية الصحية المعتادة، والأخرى تلقت الرعاية الصحية المعتادة بجانب نظام الـ”TREAD”.
ظلت التجربة مستمرة لمدة 12 شهرًا، مع إجراء اختبارات كل 4 أشهر و8 أشهر و12 شهرًا، وبالنسبة لأعراض الاكتئاب كانوا يستخدمون بشكل أساسي “مقياس بيك للاكتئاب”، وهو وسيلة لتقدير الاكتئاب وتحديد نوعه وشدته، وصاحب هذا المقياس هو الطبيب النفسي الشهير والعالم الأمريكي المعروف آرون بيك الذي يُعتبر أحد أهم المساهمين في تطوير حركة العلاج السلوكي المعرفي للاكتئاب، والعديد من الأمراض النفسية الأخرى.
جاءت البيانات المعتمدة من خلال مذكرات المرضى أنفسهم، الذين أنهوا نشاطهم الرياضي، لذلك تلك النتائج جاءت مُعتمدة وموثوق بها.
أما فيما يخص الرعاية الطبية المعتادة فيقصد بها أن كلا المجموعتين طُلب منهما اتباع نصائح الطبيب العام بشأن اكتئابهم، لذلك كانوا أحرارًا في اختيار العلاج المناسب لهما من خلال خيارات العلاج المتاحة عادة في الرعاية الأولية، التي تشمل: الاستشارة واستخدام مضادات الاكتئاب والتمرينات التي يصفها لهم الطبيب.
إحدى أهم سمات هذه الدراسة أن جميع المرضى كانوا أحرارًا في ممارسة الرياضة، لكن جزءًا منهم فقط تم تشجيعه على القيام بذلك. ميزة أخرى لهذه الدراسة أنها لم تعقد مقارنات فارغة بين الرياضة والرعاية الصحية اللازمة، بل شجعت على القيام بالتمارين الرياضة بجوار الاستشارات الطبية والأدوية، فالتمرينات هنا عامل مساعد ليس أكثر.
وتُشير الإرشادات الحكومية الحاليّة في المملكة المتحدة أن البالغين يجب عليهم ممارسة 150 دقيقة من النشاط البدني المعتدل أو القوي في الأسبوع، وقد أوضح الباحثون من خلال دراستهم ما يلي: “كان طموحهم تشجيع المرضى على ممارسة الرياضة بمعدل 150 دقيقة في الأسبوع، بواقع دورات متعددة مدة كل دورة عشر دقائق، ولكن ذلك بدا غير واقعي في البداية، فبدأوا بتشجيع أي نوع من الرياضة مهما كانت شدته أو وقته”.
ماذا وجد الباحثون؟
أظهرت النتائج أن المرضى في مجموعة الـ”TREAD” لم يكونوا أفضل من أولئك الذين تلقوا الرعاية الصحية المعتادة فقط! فعلى سبيل المثال، لم يكن هناك أي دليل على أن المشاركين في تلك المجموعة أبلغوا عن أي تحسن في حالتهم المزاجية بسبب تدخل النشاط البدني في علاجهم خلال تقييمهم في الأربعة أشهر الأولى، مقارنة بالمجموعة الأخرى، واستمر الأمر على المنوال نفسه خلال التقييمات التي تلت هذا التقييم.
كما أظهرت النتائج عدم وجود دليل على انخفاض استخدام مضادات الاكتئاب في مجموعة الـ”TREAD” مقارنة بالمجموعة التي تلقت الرعاية الصحية المعتادة فقط.
بدأ الباحثون في الوقت الحاليّ للتخطيط لدراسة ما إذا كان نظام الـ”TREAD” لديه القدرة على علاج حالات أخرى غير الاكتئاب
ومع ذلك وجد الباحثون أن المشاركين في مجموعة TREAD أبلغوا عن ممارستهم للمزيد من النشاط البدني خلال فترة المتابعة، حتى بعد شهور من توقفهم عن الاتصال بالمدرب.
وبالتالي لم يستنتج الباحثون أن التمرينات الرياضية عديمة الفائدة أمام الاكتئاب كما يرى البعض، لكنهم يرون أن النتائج التي توصلوا إليها قد توفر معلومات مفيدة لموظفي الرعاية الصحية الذين يجب عليهم إيجاد برامج رياضية مناسبة يجب تضمينها في خدمات الرعاية الأولية.
قالت “ميلاني تشلدر“Melanie Chalder وهي دكتورة في كلية الطب الاجتماعي والمجتمع بجامعة “بريستول”: “لقد أَبْلَغَت العديد من الدراسات عن الآثار الإيجابية للتمرينات الرياضية التي يمارسها مرضى الاكتئاب، ولكنها ليست إستراتيجية فعالة للحد من أعراض المرض، ومع ذلك من المهم الإشارة إلى أن زيادة النشاط البدني مفيد ومهم للأشخاص الذين يعانون من حالات طبية أخرى مثل مرض السكر والسمنة وأمراض القلب والأوعية الدموية، وبالطبع يمكن لهذه الأمراض أن تؤثر على المصابين بالاكتئاب”.
يرى البعض أن التمرينات الرياضية والأشكال الأخرى من النشاط البدني خيارات علاجية رخيصة وغير ضارة نسبيًّا، وليست لها آثار جانبية
وقد بدأ الباحثون في الوقت الحاليّ للتخطيط لدراسة ما إذا كان نظام الـ”TREAD” لديه القدرة على علاج حالات أخرى غير الاكتئاب.
على كل حال إذا نظرنا إلى هذه الدراسة سنجدها وظفت فقط نوعًا واحدًا من أنواع التمرينات، وبالتالي هي لا تخبرنا ما إذا كانت هناك تمرينات أخرى أو رياضات أخرى قد يكون لها أثر إيجابي على الاكتئاب!
يرى البعض أن التمرينات الرياضية والأشكال الأخرى من النشاط البدني خيارات علاجية رخيصة وغير ضارة نسبيًّا، وليست لها آثار جانبية مثل مضادات الاكتئاب، ومن هذا المنطلق كانت حملة من حملات الترويج إلى أن الرياضة الدواء الشافي لكل شيء والاكتئاب أول تلك الأمراض.
قد تكون الرياضة حقًا وسيلة للترويح عن الذات وتخفيف ضغوطات الحياة، أو حتى لعلاج الشعور المؤقت بالكآبة، لكنها لن تكون بديلًا عن العلاج النفسي السليم تحت يد طبيب متخصص يخبرنا ما الذي يجب علينا القيام به.