يوم التاسع عشر من الشهر الجاري، احتلت ساحة السرايا وسط قطاع غزة شاشات التلفزة العربية والأجنبية، وردد المراسلون “السرايا” كثيرًا، فهي المكان الذي توارد إليه سكان الشمال الذين حوصروا لشهور -من قبل دبابات الاحتلال الإسرائيلي- وأهل المدينة ليكونوا شهودًا على صفقة تبادل ثلاث أسيرات إسرائيليات بين كتائب القسام والصليب الأحمر في اليوم الأول من وقف إطلاق النار لحرب الإبادة.
ليست الحادثة الأخيرة هي الشاهد الوحيد على تاريخ المنطقة، فهنا أرض السرايا في حي الرمال غرب مدينة غزة، وهنا حياة الغزيين، ومكان لقياهم من شمال ووسط وجنوب القطاع. وفيها ذكريات السجن لبعض من مضى على عمره خمسون عامًا، وعليها تُقام الفعاليات الترفيهية، والاحتفالات الوطنية، والاستعراضات العسكرية، فهي قلب مدينة غزة القديمة وأبرز المعالم التاريخية والشعبية العتيقة.
وعلى أرض السرايا تجتمع أصالة الماضي وحيوية الحاضر، فهي شاهدة على أبرز المعالم التاريخية لمدينة غزة، بدءًا من الحكم العثماني مرورًا بالانتداب البريطاني والاحتلال الإسرائيلي.
وما أكسبها مكانةً هو موقعها الجغرافي الاستراتيجي؛ فهي تعتبر نقطة وصل بين الأحياء الرئيسية. يحدها من الشرق شارع عمر المختار الممتد من الشجاعية حتى شاطئ البحر، وهو الشارع التجاري الأهم في المدينة، حيث الوحدات السكنية والمحلات التجارية الراقية.
نستعرض في هذا التقرير لـ”نون بوست” تاريخ المكان وأهميته الإستراتيجية على مدار الحقب الزمنية المختلفة.
سجن “السرايا” ورثة الاحتلال من الانتداب البريطاني
أُنشئ سجن السرايا في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي على أرض السرايا، وكان يقع في إطار مقرّ القيادة العسكرية البريطانية صاحبة الانتداب على فلسطين آنذاك. وقد جعلت جزءًا من المبنى سجنًا مركزيًّا للثوار الفلسطينيين. وبعد نكبة عام 1948، بقي المبنى عسكريًّا وسُيّج بالأسلاك الشائكة، وعقب وضع قطاع غزة تحت الوصاية الإدارية المصرية، استُخدم كمقر ومجمع للدوائر الحكومية التي تدير شؤون قطاع غزة، وخُصص جزء منه كسجن للقاطنين في القطاع.
اختيار موقع السجن على أرض السرايا جاء لأهمية المنطقة والشارع الذي كان يربط مدينة غزة القديمة بميناء غزة القديم (ميوماس الروماني التاريخي). كما صممه مهندس بريطاني إبان الانتداب البريطاني لفلسطين، وكان في منطقة أشبه بالغابة، بعيدًا عن التجمّعات السكنية، بالإضافة إلى سجن الرملة وعسقلان والخليل التي أنشأها البريطانيون.
وبعد هزيمة يونيو/حزيران عام 1967، استخدمته “إسرائيل” كسجن ومركز تحقيق للفدائيين والمنتمين لفصائل الثورة الفلسطينية، وأُطلق عليه اسم “سجن غزة المركزي”. صار هذا الاسم مرعبًا لسكان القطاع، حيث كان الفلسطينيون يُعذَّبون فيه بطريقة عديمة الإنسانية على يد الإسرائيليين. وبقي المكان سجنًا بيد الإسرائيليين لمدة 36 عامًا، سُجن فيه مناضلون فلسطينيون ومناضلات، وكانت تُنتزع فيه الاعترافات بالقوة. كما كانت عليه حراسات شديدة تخوفًا من هجمات داخلية من المقاومين، كما جرى مرّات كثيرة.
وكان يُعد سجن غزة المركزي المقام على أرض السرايا محطة أولى للأسرى قبل أن يتم نقل أصحاب الأحكام العالية منهم إلى السجون المنتشرة في الضفة وداخل الأراضي المحتلة عام 1948، بينما يبقى فيه الأسرى الذين تتراوح مدّة سجنهم ما بين ستة أشهر إلى عام على الأكثر.
أُغلق سجن غزة المركزي مع عودة السلطة الوطنية إلى قطاع غزة عام 1994، حيث تحرر عدد كبير من السجناء على خلفية الاتفاق، ورُحِّل عدد آخر إلى السجون الواقعة داخل “إسرائيل”.
لكن أُعيد استخدامه في عهد السلطة، وكان يتم وضع السجناء الجنائيين وأيضًا المعتقلين على خلفية الرأي أو الانتماء للأحزاب الدينية. ففي أثناء الانقسام السياسي عام 2007 وتقلّد حماس الحكم في قطاع غزة، بقي السجن كما هو، حيث أُبقيت أقسامه العتيقة والمظلمة كما هي، لكن كُتبت على واجهة السجن وجدرانه عبارة “لا ظلم بعد اليوم”.
أرض السرايا للمعارض التجارية والاستعراضات العسكرية
في ديسمبر/كانون الأول 2008، تعرّض السجن للتدمير الكلّي عقب بدء “إسرائيل” حربها الأولى على القطاع، في محاولة منها لإسقاط حكم حماس واسترجاع جنديها الأسير حينها، جلعاد شاليط، ما تسبّب في دمارٍ شبه كامل للمبنى قبل أن يُدمّر بشكلٍ كامل في الحرب الثانية عام 2012، حيث تمّ تجريف المبنى وتحوّل إلى مجرد أرض فارغة.
وعام 2011، سعت الحكومة التي كان يرأسها الشهيد إسماعيل هنية لتحويل المكان إلى مجمّع استثماري حيوي، إلا أنّ المشروع لم يرَ النور، فيما أُقيمت على جزء منه أرض للمعارض تتبع إحدى الوزارات الحكومية لتنظيم الفعاليات والمعارض، ومنها معرض للكتاب.
وتبلغ مساحة “أرض السرايا”، التي كانت سجنًا في السابق، 42,000 متر مكعب، وتقع في قلب المدينة، وقد تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى مكان يشبه المنتزه، حيث توجد فيها عربات المشروبات الساخنة المتنقلة.
كما شهدت أرض السرايا تنظيم ذكرى انطلاقات أكبر تنظيمين على الساحة الفلسطينية، فتح وحماس، بالإضافة إلى مهرجانات في ذكرى استشهاد شخصيات قيادية فلسطينية، نظرًا لمساحتها الكبيرة ورغبة كلّ تنظيم في حشد أكبر عدد ممكن من الناس لإظهار قوته للطرف الآخر. ويُزعم أن أرض السرايا تتسع لحوالي مليون مشارك تقريبًا.
اللقطة الأولى لانتهاء حرب الإبادة
بعد انقضاء أي عدوان على قطاع غزة، كما جرت العادة، تُقام الاستعراضات العسكرية وحفلات تأبين الشهداء. ورغم أن السرايا أرض معشبة، إلا أن الاحتلال أشبعها أحزمة نارية لا تعد ولا تحصى، ما خلّف حفرًا عميقة.
ومنذ الاجتياح البري لمدينة غزة، كانت السرايا ساحة قتال شهدت جولات من المواجهات الضارية. توغلت الدبابات فيها واستقرت لأسابيع طويلة، وبالقرب منها وعلى أنقاض مبنى المجلس التشريعي والجندي المجهول، بثّ جنود الاحتلال صور “النصر” مرات عديدة.
وليس عبثًا أن المقاومة اختارت أرض السرايا مكانًا لتسليم الأسيرات الإسرائيليات الثلاث، فللمكان رمزيته السياسية والميدانية، لا سيما بعد المواجهات بين شباب المقاومة وجنود الاحتلال بالقرب منها.
وفي الأيام القليلة المقبلة، ستتجه الأنظار مرة أخرى صوب السرايا للاحتفاء بأحرار غزة العائدين من سجون الاحتلال، كما ستكون أرض السرايا مكانًا لالتقاء النازحين القادمين من جنوب الوادي.