اضطر عادل الطيب إلى الانتظار ثلاث ساعات أمام مستشفى النو في أم درمان، ثالث مدن ولاية الخرطوم، من أجل الحصول على مياه الشرب من بئر المرفق بعدما أتاحها للعامة بعد توقف محطات المياه جراء انقطاع الكهرباء، جراء قصف شنته قوات الدعم السريع بطائرات مسيرة على المحطة التحويلية لسد مروي.
يقول الطيب إن الحياة في أحياء المدينة تغيرت تمامًا، حيث بات الناس ينتظرون ساعات طويلة أمام المخابز للحصول على الخبز وفي المحلات لشحن الهواتف النقالة مقابل المال، بينما توقف عمل المرافق الصحية أو قلصت خدماتها.
ويشير الطيب لـ”نون بوست” إلى أن بعض السكان لجأوا إلى سحب المياه من نهر النيل مباشرة، رغم التدابير التي اتخذتها الحكومة في تشغيل الآبار الصغيرة، قبل أن تتمكن من إعادة تشغيل محطة مياه المنارة جزئيًا عبر المولدات الكهربائية التي تضيف عبئًا جديدًا على السلطات الساعية لاستعادة الخدمات في أم درمان.
تنقل إفادات عادل الطيب صورة عن معاناة معظم المدن الخاضعة لسيطرة الجيش عقب استهداف مسيرات الدعم السريع محطات الكهرباء، مما أدى إلى انقطاع التيار عن معظم مناطق شمال وشرق السودان.
هجمات متتالية قد لا تتوقف
شنت قوات الدعم السريع في 9 يناير/كانون الثاني الحالي، هجمات باستخدام المسيرات على سد مروي شمال السودان، والذي يُعد أكبر محطة لإنتاج الكهرباء، مما أدى إلى انقطاع التيار عن مناطق واسعة في الولاية الشمالية.
والحق الهجوم الثاني، الذي شُن بعد ثلاثة أيام من الأول، أضرارًا في المحطة التحويلية وتسبب في انقطاع التيار عن أم درمان وولاية نهر النيل ومدينة بورتسودان التي اتخذها الجيش مركزًا لإدارة شؤون البلاد وباتت تُعرف بالعاصمة المؤقتة.
تخضع جميع المناطق التي استهدفت فيها محطات الكهرباء لسيطرة الجيش، ويتواجد فيها أكبر عدد من النازحين داخليًا الذين فروا من ديارهم هربًا من بطش قوات الدعم السريع
وقال محامو الطوارئ، وهو كيان ينشط في رصد الانتهاكات، إن الهجوم على سد مروي يُعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني الذي يحظر استهداف البنية التحتية المدنية الضرورية للحياة اليومية، حيث أدى الهجوم إلى تعطيل إمدادات الكهرباء للمستشفيات والمدارس ومرافق المياه وحرمان المدنيين من حقوقهم الأساسية وزيادة خطر تصعيد العنف.
واستهدفت مسيرات في 18 يناير/كانون الثاني محطة الشواك التحويلية، مما أدى إلى انقطاع الإمداد عن ولاية القضارف وكسلا الواقعتين شرق السودان، كما شمل الهجوم محطة مياه القضارف ما أطلق أزمة عطش هائلة في المدينة؛ وذلك بالتزامن مع هجمات على محطتي كهرباء سنجة وسنار بولاية سنار.
وبعد يومين، شنت قوات الدعم السريع هجومًا مماثلًا على محطة كهرباء دنقلا شمال السودان، ما أدى إلى قطع التيار الكهربائي وخدمات المياه في المدينة والبلدات والقرى المحيطة بها.
وتخضع جميع المناطق التي استهدفت فيها محطات الكهرباء لسيطرة الجيش، ويتواجد فيها أكبر عدد من النازحين داخليًا الذين فروا من ديارهم هربًا من بطش قوات الدعم السريع، التي تعمل فور هجومها على أي مدينة على نهب زيوت محركات الكهرباء، مثلما حدث في مدن الجزيرة وسنار.
أزمة قديمة متجددة
وقال الأمين العام لوزارة الدفاع، أحمد صالح عبود، في مؤتمر صحفي عُقد يوم 2 ديسمبر/كانون الأول السابق، إن الإمارات وفرت مسيرات استراتيجية لقوات الدعم السريع تستخدم صواريخ موجهة.
وأشار إلى أن الإمارات زودت الدعم السريع بنوع جديد ومتطور من المسيرات الانتحارية الكبيرة، استخدمت لأول مرة في هجوم على مواقع في أم درمان في 24 نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم.
وأفاد بأن طول جسم المسيرة الجديدة يبلغ 3.2 مترًا والجناحين 5.3 مترًا، وهي قادرة على حمل 50 كيلوغرامًا من المتفجرات ومزودة بجهاز مقاوم للتشويش. فيما كانت النسخة الأولى من المسيرات يبلغ طول الواحدة منها ثلاث أمتار، وتحمل قذيفة عيار 120 ملم.
وأوضح بأن الدعم السريع يستخدم مواقع جديدة لإطلاق المسيرات من النوع الجديد في كردفان، حيث شن هجمات على عطبرة وشندي بولاية نهر النيل، وأم درمان بولاية الخرطوم، ومروي بالولاية الشمالية.
ويرجح أن المسيرات التي استهدفت محطات الكهرباء في مروي ودنقلا انطلقت من مواقع في كردفان، فيما انطلقت المسيرات التي استهدفت محطة الشواك ومحطة مياه القضارف من مواقع تسيطر عليها قوات الدعم السريع في ولاية الجزيرة.
يأتي تدمير قطاع الطاقة في سياق مشروع الدعم السريع لتدمير البنية التحتية، وذلك بعد إلحاقها أضرارًا بالغة بالقاعدة الصناعية وطرق الإمداد والتجارة والأسواق والجامعات والمستشفيات وسبل العيش
وتفاقمت أزمة إمداد الكهرباء بعد الهجمات الجديدة على المحطات، حيث كانت البلاد تعاني قبل اندلاع النزاع من قطع لساعات طويلة خاصة في فصل الصيف الذي تنخفض فيه مناسيب الأنهار، رغم أن 60% من الإنتاج يذهب إلى القطاع السكني فيما يذهب الباقي إلى استخدامات الحكومة والصناعة والزراعة.
وبلغ إنتاج السودان من الكهرباء في أغسطس/آب 2021، وهي أكثر فترة شهدت تدفق المعلومات إبان حكومة الانتقال، حوالي 2000 ميغاواط من جملة الطاقة التصميمية الكلية للإنتاج من السدود المائية والمحطات الحرارية البالغة 4050 ميغاواط.
وتصل طاقة سد مروي التصميمية إلى 1250 ميغاواط، وسدي أعالي عطبرة وستيت 320 ميغاواط، وسد الرصيرص 280 ميغاواط، وسد جبل أولياء 30 ميغاواط، وسد خشم القربة 17.8 ميغاواط، وسد سنار 14 ميغاواط، إضافة إلى محطة أم دباكر الحرارية التي تنتج 500 ميغاواط، ومحطة بحري الحرارية 380 ميغاواط، علاوة على استيراد 120 ميغاواط من إثيوبيا و70 ميغاواط من مصر.
وخرجت محطة بحري وسد جبل أولياء من الخدمة بعد اندلاع النزاع، فيما تعاني محطة أم دباكر من أعطال وتحتاج إلى قطع غيار قد لا تستطيع الحكومة توفيرها حاليًا، فيما يتدنى إنتاج السدود إلى أقل من النصف من الطاقة التصميمية.
كثّفت ميليشيا الدعم السريع المتمردة هجماتها الإرهابية لتدمير المرافق الحيوية في السودان، من خلال استهداف السدود ومحطات الكهرباء، وآخرها الهجمات على سد مروي ومحطة كهرباء مدينة دنقلا يوم أمس.
تعد هذه الممارسات انتهاكا صارخا للقانون الإنساني الدولي ولاتفاقيات جنيف التي تحظر استهداف… pic.twitter.com/qIJKaI6uSn— وزارة الثقافة والإعلام | Official (@gov_moci) January 20, 2025
لماذا تدمير قطاع الطاقة؟
يحتاج إعادة صيانة المحطات التي استُهدِفت إلى أيام وربما أسابيع، وقد لا تعمل بالكفاءة نفسها السابقة، فيما باتت معظم المدن تعتمد على مولدات لتشغيل آلات طحن الحبوب وعجنات المخابز ومحطات المياه وأبراج الشبكات، مما يضع السلطات الخاضعة للجيش في مأزق جديد مع ارتفاع أسعار “الجازولين”، الذي بلغ سعر الجالون منه (4.5 لتر) 18 ألف جنيه (نحو 7 دولارات).
ويبدو أن قوات الدعم السريع تسعى لزعزعة استقرار المناطق الآمنة من خلال استهداف قطاع الطاقة وتقليل تأييد سكانها المطلق للجيش بصنع أزمات جديدة تشغلهم بأنفسهم، إضافة إلى إرسال رسالة واضحة بأن عدوانها سيطال كل السودان.
ويأتي تدمير قطاع الطاقة في سياق مشروع الدعم السريع لتدمير البنية التحتية، وذلك بعد إلحاقها أضرارًا بالغة بالقاعدة الصناعية وطرق الإمداد والتجارة والأسواق والجامعات والمستشفيات وسبل العيش في الريف والحضر، مما جعل 64% من السودانيين في حاجة إلى مساعدات إنسانية.
وتنتقل قوات الدعم السريع الآن إلى تدمير الكهرباء لشل الحياة الاقتصادية وتعطيل خدمات الصحة والإنترنت ومحطات المياه، لتضييق الخناق على الجيش الذي طالما يفتخر بأن المناطق الخاضعة لسيطرته آمنة وتتوفر فيها الخدمات.
ويتوقع أن تستمر محاولات الدعم السريع في استهداف محطات الكهرباء والمنشآت الحيوية في كل المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش، الذي لا يستطيع تغطيتها كلها بأجهزة تشويش، كما لا يُستبعد أن تكون هجماتها المقبلة على الأسواق والمواقع المكتظة بالمدنيين.