لا ينفكّ ملف شمال شرق سوريا ومستقبل المنطقة الأكثر أهمية بعد سقوط نظام الأسد، يشغل بال الفضاء العام السوري والإقليمي، لا سيما أن المنطقة اليوم هي الوحيدة الخارجة عن سيطرة الإدارة السورية الجديدة، التي تسابق الزمن في إنهاء عقدتها عبر الحراك السياسي الإقليمي والذي تشمله وساطات عديدة من عدة أطراف فاعلة في المشهد السوري.
يُدار الحراك حالياً عبر الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، إضافة إلى طرفي المعادلة الأبرز حكومة دمشق الطامحة لإعادة توحيد كامل الجغرافية السورية وبسط سيطرتها على مقدراتها، وقوات قسد الكردية المدعومة من حزب العمال الكردستاني والباحثة بدورها عن ميزات تميزها عن باقي المكونات العسكرية التي تسعى الإدارة الجديدة إلى دمجها ضمن هيكلية وزارة الدفاع.
وفي ظل الجهود الكبيرة التي تبذلها الإدارة السورية الجديدة فيما يخص بناء جيش سوري جديد، يضمّ جميع التنظيمات المعارضة للنظام المخلوع، كشف ممثل “المجلس الوطني الكردي” في الائتلاف السوري، عبد الله كدو، النقاب عن قوات “البيشمركة” الكردية، مشيراً إلى أنه سيكون لها مكان في الجيش السوري الجديد المزمع تشكيله، كما سيكون للأكراد حضور في العملية السياسية.
حديث “كدو” الذي جاء في موقع “باسنيوز” الكردي، أضاف أن “بيشمركة روج” كمناضلين انشقوا عن النظام الساقط، رافضين قتل أبناء شعبهم السوري، وأنهم سيعملون تحت إمرة النظام السياسي الذي ستفرزه العملية السياسية المبنية على الدستور التشاركي والانتخابات النزيهة”.
رسالة ممثل المجلس الوطني الكردي وفي هذه التوقيت فتحت الباب عن تساؤلات عدة عن قوات “البيشمركة” الكردية وطبيعة عملها المحتملة مع قوات دمشق، وشكل التحالف بينهما فيما لو تمّ، إضافة إلى الوظائف المتوقع إسنادها لهذه القوات مستقبلًا، وموقف تركيا اللاعب الأهم منها ولا سيما بالنسبة لأمنها القومي التي باتت قاب قوسين أو أدنى من إغلاقه بالكامل.
“بيشمركة” سوريا
تعد “البيشمركة” السورية الذراع العسكري للحزب الديمقراطي الكردستاني السوري، والذي يعتبر نواة المجلس الوطني الكردي المنضوي ضمن الائتلاف السوري المعارض.
ويطلق عليها “لشكري روج” أو “بيشمركة روج آفا”، وهي تنظيم تشكّل في عام 2012 بإدارة وزارة البيشمركة في حكومة إقليم كردستان العراق، ويتألف من عناصر وضباط كرد انشقوا عن النظام البائد مع اندلاع الثورة السورية.
وشكّلت معسكرات إقليم كردستان العراق منطلقَ عمليات التنظيم نحو الأراضي السورية، حيث قدمت له حكومة الإقليم دعماً وتدريباً عسكريًا، وهو ما فتح الباب الانضمام أمام متطوعين آخرين من الشباب الكرد السوريين الذين لجؤوا إلى إقليم كردستان وتوزعوا في المخيمات هناك، ليصل قوام التنظيم ما بين 5- 7 آلاف مقاتل.
تسلّم العقيد دلوفان روباري، شباط/ فبراير 2021، مهام قيادة قوات بيشمركة سوريا، وقبله العميد “محمد رجب حبش” المنحدر من مدينة عفرين شمال غربي حلب، فيما جرى تدريب تلك القوات مِن قبل ضباط كرد العراق.
لاحقًا تسلّم التحالف الدولي زمام تدريب قوات البشمركة ضمن خطة لمحاربة تنظيم “داعش”، ليشارك مقاتلو البيشمركة في معارك مدينة عين العرب (كوباني)، تشرين الأول 2014، ضد التنظيم عابرين بآلياتهم حينها عن طريق الأراضي التركية تحت قيادة غرفة عمليات مشتركة، نسقت مع غرفة عمليات أربيل للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة.
كما شاركت إلى جانب قوات البيشمركة العراقية التابعة لحكومة إقليم كردستان، وكان لها دور كبير في دحر تنظيم “داعش” في عدة محاور بالإقليم، كـ “سهل نينوى وسد الموصل والحدود المتاخمة لمحافظة دهوك”.
وباعتبار أن البيشمركة السورية تتلقى دعمها من الحزب “الديمقراطي الكردستاني” ذي الزعامة البرزانية، فإن التوجه التديني التقليدي المحافظ بالمعنى الاجتماعي الطقوسي يطغى على عقيدة هذه القوة، على عكس قوات البيشمركة العراقية والتي يرتبط قسم كبير منها إلى جانب حزب برزاني بحزب “الاتحاد الوطني الكردستاني” ذي التوجه العلماني الليبرالي.
تنظيم دون فعالية
رغم تنظيم قوات البيشمركة السورية والدعم الذي تمتعت به، إلى جانب المعارك التي خاضتها سواء في سوريا أو العراق، إلا أنها لم تستطع العودة والعمل في شمال شرق سوريا، بسبب عدة أسباب أهمها الخلافات الآيديولوجية بينها ووحدات حماية الشعب العمود الفقري لقوات سوريا الديمقراطية (قسد).
إضافة إلى علاقة الوحدات بالنظام البائد والشعبية الكبيرة الني تتميز بها البيشمركة بالوسط الكردي وما يرافق ذلك من احتمالية قلب الموازين، ما بات يُعتبر ملف عودة البيشمركة من أخطر الملفات التي يتعامل معها “PYD” في حواراته والتي يصرح فيها علانية بتعامل البيشمركة مع الجانب التركي.
في أوائل عام 2017، دعا رئيس الائتلاف السوري المعارض، أنس العبدة، إلى ضرورة دخول قوات البيشمركة السورية، ودعم “الجيش الحر” في عملياته العسكرية، مشيرًا إلى أن الائتلاف أكد مرارًا على وجوب دخول قوات البيشمركة التابعة للمجلس الوطني الكردي إلى سوريا، كونها قوة وطنية وعامل استقرار وداعم للجيش الحر لتحقيق أهداف الشعب السوري.
وطالب المجلس الوطني الكردي في العديد من لقاءاته الدبلوماسية مع الدول الأوربية والأمريكان بالدعم العسكري واللوجستي للبيشمركة السوريين مِن أجل مكافحة الإرهاب، ودعم عودتهم إلى سوريا لحماية المناطق ذات الغالبية الكُردية والتي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) وحمايتها من أي تهديد ينفذه تنظيم الدولة “داعش”.
في 2020، نشرت صحيفة “الشرق الأوسط” عن مصادر كردية، أن “المجلس الوطني الكردي” و”أحزاب الوحدة الوطنية” التي يترأسها “حزب الاتحاد الديمقراطي PYD ” ناقش عودة قوات البيشمركة السورية، وانتشارها في المناطق ذات الغالبية الكردية الواقعة شمال شرقي سوريا.
وكان المجلس يسعى بشكل حثيث لقطع الذرائع على أي طرف يشير لوجود أكراد غير سوريين في شمال شرق سوريا، إلا أن ذلك لم يتحقق رغم تأكيد مسؤول بارز في رئاسة المجلس الكردي آنذاك، بأن قوات البيشمركة يصل عددها لنحو 15 ألفاً، موزعين على 7 آلاف يحملون السلاح ضمن الألوية والفرق العسكرية بالإقليم، وهناك متطوعون يبلغ عددهم قرابة 8 آلاف تدربوا على فنون القتال وحملوا السلاح أثناء هجمات داعش في العراق.
وزادت حدة التوتر بين الطرفين شمال شرق سوريا، ففي أيلول/ سبتمبر الفائت، تعرضت عوائل مقاتلي “بيشمركة روج آفا” لضغوط من قبل استخبارات “قسد”، بهدف إجبارهم على التخلي عن دعم أبنائهم.
وشملت الضغوط تهديدات واستدعاءات متكررة للعائلات واتهامات بالخيانة والتعاون مع الجيش التركي، ما اضطر بعض العائلات للتبرؤ من أبنائها تحت التهديد بالاعتقال أو النفي.
في حديثه لـ”نون بوست”، يشير الصحفي الكردي عبد الحليم سليمان، إلى أن قائمة الأسباب التي دفعت لحدوث لقاء بين “بارزاني” وقائد قسد مظلوم عبدي مؤخراً هو وجود عدد من الملفات الشائكة الخلافية بين الأطراف الكردية في سوريا وعدم الوصول حتى الآن إلى اتفاق سياسي تجاه مشاركة المجلس الوطني الكردي المقرب من بارزاني في الإدارة الذاتية، وعدم استقرار المنطقة جراء الهجمات التي تشن عليها من الفصائل الموالية لتركيا، ناهيك عن غياب توليفة سياسية للأطراف الكردية في التعامل مع الإدارة الجديدة في دمشق.
وأضاف سليمان، أن جناح “البيشمركة” السياسي يعمل لعودتها إلى داخل الأراضي السورية للتوزع على الحدود السورية التركية كقوات فصل بين تركيا وقسد كونها على خلاف مع حزب العمال الكردستاني، إلى جانب اعتبار تمتعها بعلاقات جيدة مع تركيا.
من جهته، يتشاطر الباحث الكردي، هوشنك أوسي، الرأي مع سليمان، في أن طبائع الأمور تقول أن يكون للبيشمركة حضور في مؤسسات الدولة الجديدة الأمنيّة والعسكريّة والسياسيّة، وأن يكون لهم دورًا مهمًّا في إعادة بناء الدولة، وهذا الحضور والدور يفترض أن يتمّ جدولته ضمن خارطة طريق تجمع الثلاثي: “قوات بيشمركة روج” و”قسد” وحكومة دمشق، لبناء الدول الوطنيّة الحديثة، بالإقناع والإجماع والاتفاق، وليس بالإكراه وبفرض الاستسلام والهيمنة.
العمل مع دمشق معقد
يصف الباحث في الشؤون الكردية محمد شمدين، عمل البيشمركة المشترك مع قوات دمشق فيما لو تمت بالـ”معقّد”، لأن حكومة دمشق الحالية إلى الآن لا تتعامل مع الائتلاف الوطني والذي يعد المجلس الوطني الكردي من أعضائه، كما لا تتعامل مع وزارة الدفاع التابعة للحكومة السورية المؤقتة، ففي هذه الحالة يجب على هذه القوات أن تنضم بشكل منفصل عن وزارة الدفاع التابعة للحكومة السورية المؤقتة.
بالمقابل ينفي الباحث شمدين، تبعية قوات بيشمركة روج، للحزب الديمقراطي الكردستاني- سوريا، وإنما تتبع لحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق بشكل رسمي، وهو الذي يشكل المرجعية السياسية له وليس الحزب السوري، حسب وصفه.
ويرى شمدين فرضية أن المجلس الوطني الكردي هو الجهة السياسية لهذه القوات، تأخذنا إلى أن الرؤية السياسية للمجلس الوطني الكردي تركز على المناطق ذات الغالبية الكردية في سوريا في تطبيق مشروعها السياسي، ما يعني أن هذه القوات سوف تنشط ضمن هذه المناطق وسيكون عملها في هذه المناطق بحسب الحاجة لها.
ونظرًا لدورها الذي قامت به في كردستان العراق في محاربة داعش فإن لديها خبرة قتالية جيدة في هذا المجال وأيضًا في مراقبة الحدود مع تركيا والتي لا يتوقع -الباحث شمدين- أنها ستوافق على دور هذه القوات، والدليل أنها لم تسمح لهذه القوات في دخول كل من عفرين ورأس العين (سري كانيه) والعمل في هذه المناطق.
ويستدرك شمدين حديثه لـ”نون بوست”، بالقول: “لكن هذا كله يعتمد على الترتيبات التي ستصل اليها النقاشات في دمشق بين الفصائل العسكرية والفصائل السياسية من جهة، وأيضًا بين ما ستصل ليه المحادثات بين المجلس الوطني الكردي والإدارة الذاتية”.
سحب الورقة الكردية
أسباب كثيرة تدفع واشنطن لاختيار “البيشمركة” حلاً يرضي أنقرة، فهي مبدئياً ستشكل جدار فصل بينها وبين قوات قسد فيما لو اندمجت مع قوات دمشق وبقيت المخاوف التركية، فهذا من شأنه تعزيز أمن الولايات التركية الجنوبية وخلق توازن مقابل قسد لإرساء استقرار طويل الأمد، ولا سيما أن الأنظار تتجه نحو الرئيس “ترامب” الذي يتميز بعلاقة ودية مع أنقرة، وإعادة بناء أرضية أفضل مع إقليم كردستان بعد إنهاء ملف العمال الكردستاني.
يرى الباحث أوسي في حديثه لـ”نون بوست”، أن مصلحة تركيا الآن تكمن في سحب الورقة الكرديّة من يد أمريكا، ولكي تنجح في ذلك، عليها أن تحذوا حذو الأجداد العثمانيين القدامى، حين تركوا الأكراد يديرون شؤون أنفسهم في أقاليم وإمارات ذات خصوصيّة، ضمن الدولة العثمانيّة.
مضيفًا، أن حجم التبادل التجاري بين تركيا وإقليم كردستان العراق يفوق حجم التبادل التجاري بين أنقرة وبغداد، ويمكن لتركيا أن ترضى بحالة خاصّة للكرد السوريين، ضمن سوريا الجديدة، لأنّ سوريا وتركيا ستكونان المستفيد الأوّل والأخير من هكذا تسوية تحترم حقوق ومطالب الأكراد في سوريا.
وحسب أوسي فإن “موقف تركيا من “بيشمركة روج” سيكون الامتحان الحقيقي والمحك لها لاستجلاء جوهر وحقيقة موقفها، هل هو مناهض لـ”قسد” لاعتبارات أمنيّة، أم مناهض للأكراد بشكل عام لاعتبارات قوميّة طورانيّة كارهة للكرد، كائن من يكن فصيلهم وممثلهم السياسي أو العسكري؟