توسعت الضربات الجوية التي تشنها الطائرات الحربية الروسية والسورية على المناطق المحررة في الشمال السوري خلال الأيام القليلة الماضية، مركزةً قصفها على مدينة أريحا التي وقعت فيها عدة مجازر ومعرة النعمان وخان شيخون وكفر زيتا وجسر الشغور، في محاولة على ما يبدو لإفراغها من سكانها.
وتعتبر هذه المدن الخط الأول للنزوح الذي تسببت به قوات النظام خلال الفترة الأولى من حملتها العسكرية على الشمال السوري، حيث أصبحت ملجأ عشرات آلاف العوائل ممن فروا من منازلهم بريف حماة وإدلب والبلدات القريبة من خطوط النار، ونفذت الطائرات آلاف الغارات مستهدفةً الأماكن التي تكتظ بالمدنيين مثل الأسواق والمرافق العامة، موقعةً عشرات الضحايا، أغلبهم من النساء والأطفال.
ونستعرض في هذا التقرير بعضًا من قصص السوريين الذين فجعوا خلال الأيام القليلة الماضية وفقدوا أحباءهم في قصف قوات النظام.
بعيدًا عن الحلم
فارس قداح، أحد سكان المدينة من محدودي الدخل، كانت الطائرات الحربية الروسية قد أفرغت قبل ثلاث سنوات حمولتها على منزله الكائن في أحد أحياء مدينة أريحا بريف إدلب الجنوبي، مما أسفر عن دمار منزله، ولم يبق إلا غرفة واحدة أكمل وعائلته العيش فيها وسط دمار بقية المنزل لثلاث سنوات.
مؤخراً، قبل نحو شهر، قرر فارس إعادة صيانة منزله بجهد ذاتي ومعونة محدودة من بعض الأصحاب في الحي، واستمر عمل الترميم لمدة شهر تقريبًا، وقبيل انتهائه من أعمال الترميم بقليل، قصفت الطائرات الحربية الروسية منزله مجددًا.
استشهد قداح السبت الماضي جراء تلك الغارة الجوية التي استهدفت مدينة أريحا، وأسفرت أيضًا عن إصابة سبعة أطفال أغلبهم فقدوا أطرافهم، وبثت آلاف الصور على وسائل التواصل الاجتماعي توضح حجم المعاناة السورية التي يتعرض لها المدنيون نتيجة القصف العنيف الذي يستهدف المنازل والمرافق العامة التي تكتظ بالمدنيين.
أطفال تحت الركام
قبل أيام ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بصورة عائلة أمجد العبد الله العالقة بين أنقاض المبنى، وظهرت في الصورة طفلة تمسك يد أختها الصغيرة المعلقة من قميصها بأنقاض المنزل الواقع في الطابق الثالث، لإنقاذها، وذلك عقب تعرض منزلهم للقصف من الطيران الروسي، ويقف الأب مذعورًا فوق أنقاض المبنى.
حذرت منظمة أنقذوا الأطفال من ارتفاع أعداد الأطفال الذين سقطوا في إدلب خلال الأسابيع الأربع الماضية وتجاوز أعداد القتلى في هذا الشهر في نفس المنطقة العام الماضي كاملاً
وبعد التقاط الصور بلحظات انهار المبنى، مما أدى إلى إصابة الطفلتين المحاصرتين بين الركام، وهما تقى البالغة من العمر ثلاث سنوات وريهام التي تبلغ خمس سنوات، وتم نقل الطفلتين إلى المشفى في إدلب، وتوفيت ريهام متأثرةً بجراحها بينما قالت فرق الدفاع المدني إنها انتشلت شابًا تحت الأنقاض وزوجة أمجد العبد لله التي لقيت حتفها أيضًا.
وحذرت منظمة أنقذوا الأطفال من ارتفاع أعداد الأطفال الذين سقطوا في إدلب خلال الأسابيع الأربع الماضية وتجاوز أعداد القتلى في هذا الشهر في نفس المنطقة العام الماضي كاملاً، وقالت المنظمة خلال بيان لها الخميس 25 من يوليو/تموز: “هذا الأسبوع هو الأكثر دموية منذ تصاعد القتال في شمال غرب سورية”، وأضافت: “خلّفت الغارات الجوية لطيران النظام والقوات الروسية أكثر من 66 قتيلًا، معظمهم أطفال ونساء، فضلًا عن مئات الجرحى، وهناك بعض الجثث ممزقة إلى أجزاء أو محترقة ولا يمكن التعرف إلى هوية أصحابها”.
محمود الحسن فقد أربعة من أبنائه وزوجته
الهرب من موت لآخر
عقب سيطرة قوات النظام مدعومةً من الميليشيات الإيرانية والقوات الروسية، على منطقة سنجار الواقعة بريف إدلب الشرقي مطلع العام الماضي، التي تعرف بمنطقة شرق السكة (سكة الحجاز)، نزحت عائلة محمود الحسن وأقرباؤها إلى مدينة أريحا جنوبي إدلب، هربًا من بطش قوات النظام والمليشيات الموالية.
استطاعت العائلة تأمين منزل للإقامة في مدينة أريحا عقب نزوحها من بلدة سنجار نحو المناطق التي تحظى بدرجة من الأمن آنذاك، بحسب مصادر محلية لـ”نون بوست”، وعادت من جديد إلى حياتها الطبيعية، رغم التحديات التي واجهت الأسرة وصعوبات الحصول على لقمة العيش ومصاريف الإيجارات وغيرها.
يحاول الناجون من جحيم الضربات الجوية البحث عن ملاجئ في الأراضي الزراعية والبساتين هربًا من بطش الطائرات الحربية الروسية على منازلهم
وخلال التصعيد الذي تشنه الطائرات الروسية على الشمال السوري رفضت العائلة النزوح إلى مناطق أخرى لتحمل المعاناة من جديد، لكنها لم تستطع الحفاظ على وجودها، ويبكي محمود الحسن الآن أطفاله الأربع وزوجته الذين وقعوا ضحية قصف الهجمات الجوية للطائرات الروسية.
يحاول الناجون من جحيم الضربات الجوية البحث عن ملاجئ في الأراضي الزراعية والبساتين هربًا من بطش الطائرات الحربية الروسية على منازلهم، ولم تكن هذه العائلة التي سبق ذكرها إلا واحدة من آلاف العوائل التي باتت بالعراء أو تعرضت للقصف أكثر من مرة خلال هذه الحملة.
القصف دون هوادة
تصدرت مشاهد الدماء من الشمال السوري مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية، مع استمرار آلة الإجرام الروسية والنظامية التي تفتك بالمدنيين، وسط صمت من المجتمع الدولي، فخلال الحملة العسكرية التي أودت بحياة الآلاف من المدنيين والأطفال، لم تصدر إلا تصريحات من الأمم المتحدة وغيرها دون التحرك لإنقاذ أكثر من ثلاثة ملايين مدني يقيم في المحافظة والأرياف المجاورة لها.
وتحدث “نون بوست” مع مدير المكتب الإعلامي في الدفاع المدني بإدلب، أحمد شيخو الذي قال: “الطائرات الحربية استهدفت ريف إدلب الجنوبي مما أدى لوقوع نحو 13 مجزرة، وخلفت نحو 223 شهيدًا”، وأضاف “من بين الشهداء سقط نحو 37 امرأةً و51 طفلاً”، كما خلفت المجازر نحو 555 مصابًا بينهم 73 امرأةً و101 طفل خلال شهر يوليو/تموز، ونقل أغلب الجرحى والمصابين نحو مناطق آمنة نتيجة تعرض النقاط الطبية للاستهداف المباشر، الأمر الذي يهدد حياة المصابين ويضعهم في كارثة إنسانية.
وفي السياق ذاته أدى القصف العنيف الذي يشهده ريف إدلب الجنوبي إلى كارثة إنسانية، بحسب ما أكد شيخو لـ”نون بوست” قائلاً: “الوضع الإنساني كارثي في ريف إدلب بسبب القصف المستمر، إلى جانب دمار البنية التحتية للعديد من المدن والبلدات”، كما تستهدف قوات النظام فرق الدفاع المدني والنقاط الطبية بما فيها المشافي الميدانية وفرق الإسعاف التابعة للخوذ البيضاء.
وأوضح: “المنشآت الخدمية ومراكز الدفاع المدني والأفران في مدينة خان شيخون والبلدات والقرى المحيطة خرجت عن الخدمة نتيجة تعرضها للقصف المتكرر من الطيران الحربي”، واعتبر أن الطيران الحربي الروسي والنظامي ما زال يصعد من وتيرة القصف مستهدفًا الأسواق المحلية وتحركات المدنيين.
تحاول قوات النظام السوري والطائرات الروسية إفراغ المدن والبلدات في الريف الجنوبي لإدلب، إذ يعتبر الأسبوع الماضي الأكثر دموية خلال الحملة العسكرية الثالثة
من جهته الناطق باسم “منسقو الاستجابة” في الشمال السوري محمد حلاج قال لـ”نون بوست”: “الوضع الميداني والإنساني شمال سوريا، كارثي جدًا نتيجة تصعيد الطيران الروسي”، وتجاوز أعداد الضحايا خلال الحملة العسكرية الثالثة التي بدأت من 2 من فبراير/شباط الماضي أكثر من 1150 مدنيًا بينهم 280 طفلاً وطفلةً.
وأضاف حلاج: “تعرضت نحو 236 منشأةً للقصف المباشر والمتكرر من بينها مشافي ومراكز طبية”، وبلغ أعداد النازحين نحو 700 ألف نسمة بحسب إحصاءات منسقي الاستجابة، وسط ارتفاع أعداد النازحين.
وتحاول قوات النظام السوري والطائرات الروسية إفراغ المدن والبلدات في الريف الجنوبي لإدلب، إذ يعتبر الأسبوع الماضي الأكثر دموية خلال الحملة العسكرية الثالثة، وخاصة استهداف المدن الكبيرة مثل مدينة خان شيخون وجسر الشغور ومعرة النعمان وأريحا، وبحسب منسقي الاستجابة فإن شمال غرب سوريا يتجه نحو كارثة إنسانية وخاصة مع ارتفاع أعداد النازحين وعدم قدرة المنظمات الإنسانية على استيعاب الأعداد الهائلة للفارين من جحيم القصف.